صفحة الكاتب : محمد جعفر الكيشوان الموسوي

لاتتثاءب إنه مُعدٍ!
محمد جعفر الكيشوان الموسوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

في عربة قطار إحدى الدول لفت نظري إعلان لإحدى مكتبات بيع الكتب وقد كتبت بالبنط العريض عبارة : "لا تتثاءب إنهُ معدٍ!". ظاهر العبارة يوحي للدعابة ورسم الإبتسامة على شفاه المسافرين لمسافات طويلة ولكن باطنها يتضمن حكمة ودعوة لمصاحبة الكتاب في السفر بدل التثاءب الذي يرخي الجفون وياتي بالنعاس ويؤدي إلى النوم والوقت نهار. إلتفت في الحال إلى الجهات الأربع فرأيت منظرا مذهلا وهو ان جُلّ المسافرين قد حرصوا على الإستفادة من عدة ساعات ثمينة وقضاء وقت ممتع ومفيد بالمطالعة والقراءة. بقربي كانت تجلس فتاة جامعية وهي مندمجة في حلّ معادلات الإحتراق في الكيمياء وبجانبها جدتها المسنة وهي تطالع كتاب "ضجة فارغة" لـ وليم شكسبير. أظن أني كنت المسافر الوحيد الذي يتصفح الوجوه ويهدر وقته بقراءة الإعلانات والدعايات التجارية، وربما المسافر الوحيد الذي (يوزّع الإبتسامات) وينثرها على كل من يقع نظره عليه أو يكون قد رآني وكأني أبحث عن شيء مفقود لا أدري ما هو! . رجعت بالذاكرة إلى أربعين سنة وتذكرت أني في مرحلة الإعدادية وبالتحديد في الصف السادس العلمي سألت أحد زملائي  وهو من أسرة علمية مرموقة وكان متفوقا على الجميع بإمتياز، سألته مازحا: هل قرات ألف كتاب يا سيد؟

أجابني مبتسما واثقا : قرأت جميع كتب مكتبات النجف وكربلاء.

قلت له مصدقا : لا عجب في ذلك سيدي فنحن أمة إقرأ.

أمّة إقرأ..

كنا بالأمس أمة إقرأ، عندما كانت تزدحم المكتبات العامة بالمطالعين والباحثين صغارا وكبارا ذكورا وإناثا ومن جميع الإختصاصات والتوجهات والهوايات والإهتمامات. إقبال على المطالعة بشكل ملفت كالظمآن الذي يقبل على الماء فيغترف منه ما يشاء ليروى ظمأه ويطفأ به حرارة عطشه في منتصف نهار صيف قائظ. حتى أنه قد اشتهر قول " مصر تؤلف ولبنان تطبع والعراق يقرأ". كان منظرا نادرا ومدهشا أن تدخل مكتبة الأميني أو مكتبة أمير المؤمنين في النجف الأشرف وتشاهد فتىً يافعاَ يطالع كتاب الفتوحات المكية لإبن عربي، أو تشاهد أحد الطلبة في مكتبة العباس عليه السلام في كربلاء المقدسة وقد وضع أمامه عدة كتب فقهية وكتب المطولات والبحوث العقائدية والفكرية. كنا بالأمس أمّة إقرأ ولكننا اليوم أمّة تتثائب وان افضل عمل ننجزه في القطار أو الحافلة أو الطائرة وحتى في مراقد الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم هو أن ننام وحسب. أتذكر جيدا أن والدتي، رحمها الله ورحم والديكم، كانت عندما تريد إيقاظ اخي الفاضل  الأصغر مني (سِناً) سماحة السيد باقر لصلاة الصبح، تجده يقظا وقد إشتغل بمطالعة أحد الكتب بنهم حتى غلب النوم ونساه فلا اثر للنعاس على وجهه، فتسأله : متى إستيقظت يا سيد؟ فيجيبها : ومتى غفوت سيدتي!! فتعرف أنه قد قضى ليلته مطالعا وسائحا مع الكتاب في أزقة العلم وشوارع الحكمة وأجواء المعرفة والأدب. هذا ليس حنينا إلى ماضٍ لا معنى له ولا مناسبة. بل هي دعوة لتشجيع الشباب على المطالعة وسنتأتي على هذا بشيء من التفصيل ان شاء الله تعالى. أجل سيدي الكريم لقد كنا امة إقرأ فأصبحنا أمة إصرخ فلا ينازعنا في الصراخ أحد مهما كانت حباله الصوتية غليظة. الصراخ أصبح علامة فارقة في ثقافتنا (المعاصرة)، حتى عندما نريد ان نتحاور ونناقش ونتدارس فنصرخ بشكل مقرف ومعيب وأحيانا مخزٍ. لقد كتبنا سابقا عن ثقافة الصراخ ولا نريد إعادة وتكرا ما كتبنا دفعا للملل والضجر. الأكاديمي المحترم يصرخ حتى حينما يكتب فهو قد إعتاد على إسكات من لا يريد ان يكون صرّاخا في الفضائيات والمجالس في وقت حري بمن ينتمي للعلم والأدب أن يتخلق بهما ويحسن الإصغاء ويدلو بدلوه في الدِلاء ويكون قدوة حسنة ومثالا يحتذي به كل من سمعه او قرأ له.. لسوء الحظ لم اسجل في ملاحظاتي اية فائدة من أحاديث  أمثال هؤلاء حملة الدكتوراه بنوعيها الأصلية والمزورة إلاّ اللهم التفاخر بما ليس فيهم وهذا أمر أوجّه عناية القاريء الكريم له وهو أنه تارة يتفاخر المرء بشيء موجود كتفاخر العالم بعلمه والأديب بصنعته والطبيب بطبه والبقّال ببضاعته، وتارة أخرى يتفاخر المرء بشيء غير موجود عنده وهنا الكارثة واقعا. كالطبيب الذي يداوي الناس وهو عليل.

قلت لأحد المعارف من حملة الدكتوراه : كيف أمسيتم جناب الحاج؟ فقال لي : هل كَبُرَ عليك يا أستاذ أن تاديني بـ (يا دكتور)؟! قلت : أولاً : أنت دكتور في الجامعة ومكان عملك لكنك هنا في المسجد أنت جناب الحاج المحترم. وثانيا : فإن لفظة الحاج هي نسبة لبيت الله الحرام ولو قبلك الله حاجا لبيته فقد فزت بمرضاة الله تعالى. وثالثا : أنت تعيش في بلد لا ينادي الطبيب خارج عمله بلقبه وإنما يناديه بإسمه، فجنابك قد شذذت عن كل القوعد. ورابعا وهو الأهم : هل حرصت على نيل الكتورا ه للتفاخر بهذه الدرجة العلمية أم لأجل أن تخدم البشرية ويكون عطاؤك على قدر علمك ومعرفتك وقد قيل في مثل هذا شعرا : "على قدر أهل العزم تأتي العزائم". الأكاديمي عندنا يعرض بضاعته للتنافس ـ ان وجدت عنده  بضاعة ـ ولإلفات نظر الآخرين إليه، فلا ينفك من تكرار ما هو مزعج سماعه : إجتمعنا، أسسنا، ذهبنا، إلتقينا بفلان، زارنا فلان ، احْضَروا لي فلان ليتعرف إليّ ( منطق إستعلائي فرعوني)... وباقي الكلام فيما بين تلك العبارات هو حشو وملأ فراغات وترهات بكل تأكيد. والأدهى أننا نشاهد أحيانا ونقرأ حول ضبط العديد من أصحاب الشهادات المزورة ومن مختلف الإختصاصات. آخر صيحة في عالم التزوير في العراق كانت قبل عدة أيام متابعة وضبط عميد ركن مزيف!!! إنه الجهل يضرب المجتمع بكل قوة ويتكاثر وينمو مع وجود البيئة الحاضنة له والتي تمده بغداء عالي البروتين لبناء كتلة عضلية ضخمة قوية تجعل الضربة خارقة حارقة. متى نسمع  الأكاديمي وهو ينادي الشباب بأولادي وأعزائي ويكون فعلا في خدمتهم. وهل العلم إلاّ لخدمة البشرية والإنسانية والآدمية. ومتى نرى المتدين وقد إلتف الشباب حوله فتعلموا منه الصدق والتواضع وحسن التدين. متى يتفق الظاهر مع الباطن، متى يكون لنا لونا واحدا ولا "نتلون تلون الرقطاءِ"؟

الشيخ العلامة مفسر القرآن ..

في إحدى جلسات تعليم تجويد القرآن الكريم وترتيله قبل أكثر من عشرين عاما حدثنا عالم عامل مجتهد إشترك مع علماء آخرين في تفسير القرآن المجيد بأسلوب رائع وجميل. (أنقل كلام الشيخ بتصرف لأني لا أتذكر نصه الحرفي). قال ذلك العالم في جواب أحدنا عندما سأله عن كيفية إستثماره للوقت : نحن أمة إقرأ لا نعرف معنى الفراغ ولا عشناه يوما، لقد إعتدنا إن نذهب للتبليغ عند تعطيل الدراسة في الحوزة العلمية المباركة. لم يكن لدي برنامج مسبق وجدول أعمال ومواعيد، توكلت على الله وذهبت إلى مدينة أصفهان وقلت يفتح الله إن شاء الله. وصلت المدينة وقت الظهر وبدأت أبحث عن شي أفعله أو أقوله لله فيه رضا وللأمة فيه صلاح وهداية. وجدت مجموعة من الصبية الصغار يلعبون كرة القدم في احد أزقة المدينة (دربونة على لغة أهل كربلاء المقدسة) . دنوت منهم ووقفت أنظر إليهم مشجعا. إلتفت إليّ اصغرهم سنا وقال لي : هل يعجبك ان تلعب معنا (حاج آغا)؟ قال الشيخ : قلت : إن لم تمانعوا فنعم. قالوا تفضل وإبدأ باسم الله. قلت : ما شاء الله لقد ذكروا إسم الله تعالى وهو يلعبون الكرة، ثم وضعت عمامتي جانبا وبدأت ألعب الكرة معهم وقد إنسجموا معي وكانوا يحترمون عمري وهندامي ولهذا نادوني بـ (حاج آغا). ثم حوالي الساعة قلت لهم : أيها الأحبة هل لنا أن نرتاح قليلا ونتاول لقيمات نسد بها جوعنا؟ قالوا : أحسنت يا شيخ إنه وقت الراحة وتناول بعض الطعام. قلت لهم (الكلام لازال للشيخ) : أنا غريب ولست من أهل هذه المدينة فهل تعرفون مطعما نظيفا ومناسبا لنا؟ قال ثلاثة منهم بصوت واحد : لا ، لن ندعك تذهب إلى المطعم فبيوتنا كلها في خدمتك يا شيخ. قال الشيخ : لكن الآن قد حان وقت الصلاة. فقال بعضهم : لكننا لا نجيد الوضوء أيها المحترم. قال الشيخ : لا بأس دعونا نذهب إلى أقرب مسجد وهناك اوتظأ أمامكم. قالوا : جزاك الله خيرا، أنت رجل محب متعاون وظريف وحسن العاشرة. شكرهم الشيخ على الإطراء والكلام الجميل. ذهبوا إلى المسجد، تعلم الأولاد الوضوء، صلى بهم الشيخ جماعة، بين صلاة الظهرين ألقى على مسامعهم محاضرة مختصرة ولكنها موجهة وهادفة والكل مستمع ومنصت لكلمات الشيخ لدرجة انهم قد تعلقوا به تعلقا شديدا. بعد أسبوع من هذا البرنامج اليومي إنتقل بهم الشيخ إلى التقليل من لعب كرة القدم وبدل ذلك أسس لهم حوزة مختصرة وبعد بضعة أيم تضاعف عدد الأولاد في حضور دروس ذلك العالم العامل المتواضع العالم ومفسر القرآن. كان الشيخ في كل درس يؤكد على أهمية القراءة والمطالعة واستثمار الوت بالمفيد النافع ويقول لهم : نحن أمة إقرأ.

تعليق..

لا بد من معاشرة الشباب والتحاور معهم التحدث والإستماع لهم وتشجيعهم على أن يكون الكتاب جليسهم المفضل وصاحبهم في السفر والحضر. نهتم كثيرا هذه الأيام ببناء المجمعات التجارية (والمولات) الفخمة التي تحتوي المحلات العصرية الجميلة وهذا جيد ورائع وسوف نكتب عن هذه الجانب ان شاء الله ولكن الجيد والمفيد أن يكون في كل ( مول) مكتبة وان كانت صغيرة أو متواضعة فهي خير من عدمها. المبلغ أو الخطيب وأولياء الأمور والوالدين وأنا وأنت سيدي الكريم علينا أن نؤدي رسالتنا في الحياة على أكمل وجه، لا يستفاد الشباب في الغالب من خطيب يلقي المحاضرة ويختمها بالدعاء دون ان يجلس سويعة مع الشباب بعد إنتهاء المجلس ليستمع لهم في المقام الأول فقد إستمعوا له وهو على المنبر وعليه بعد ذلك أن يستمع هو ومن ثم يعاود الكرة فيتحدث معهم بصدق وصراحة وبتواضع شديد. نحتاج إلى شخص الخطيب المتحرك في المجلس، يتحدث ويجيب على الأسئلة التي يعرفها ودرسها وإلاّ فيمكننا ان نجلس في بيوتنا ونسمع المحاضرات المتنوعة من عدة وسائل وتسجيلات.

لا أنكر أن هناك من  المبلغين الرائعين الذين أنحني لهم إجلالا وتوقيرا ولكن أعدادهم الكريمة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.

العالم الجليل من كربلاء المقدسة..

لا جدال في تقواه وورعه وزهده فقد عرفته منذ نعومة اظفاري وهو يستهوي الشباب والأحداث ويمازحهم ويختلط بهم كأحدهم، وكنت استمع لمحاضراته عندما كان خارج العراق واستمتع بها. مع أنه يعيش هموم الناس ويشاركهم أحزانهم وأتراحهم لكن مصاحبته للكتاب كانت صفة مائزة لذلك المجتهد الفذ. يطالع مختلف الكتب ويكتب في شتى المواضيع ويبدع فيما يكتب أيما إبداع. هذا السيد المبارك قد خصص من وقته بقدر نصف ساعة كل ليلة قبل النوم يدرس ويتعلم فيها اللغة الأنكليزية. نصف ساعة كل ليلة جعلت من هذا العالم المبارك متقنا للإنكليزية ويجيد التحدث بها بطلاقة وكأنها لغته الأم. سمعته يتحدث بها مرارا فعرفت أنه متمكن فيما وراء اللغة وهو أمر نادر لمن لا تكون تلك اللغة هي لغته الأم. أليس في هذا العالم الجليل درس لنا وهو ان نصاحب الكتاب مهما قست الظروف وجارت الأيام علينا؟

عكس هذا..

أستمع أحيانا في أيامنا هذه إلى أكاديميين  قد عاشوا في بريطانيا ودرسوا فيها وحصلوا على ما شاء الله من الشهادات ولكن لغتهم الإنكليزية ركيكة واحيانا تكون مخجلة وهم يظهرون على شاشات الفضائيات وهو يتفلسفون (على راحتهم)... اين هؤلاء من ذلك العالم الجليل. الغريب أن هؤلاء حتى حينما يكتبون مقالا يحاولون الإستعراض ومدح الذات. لا ينفك أحدهم من ذكر أنه أكاديمي وإجتمع مع فلان وأكل مع فلان وأسس گروب (مجموعة) مع البروفسور الفلاني وأنه قد نشر العديد من المقالات. الواقع أننا في الوقت الذي نحترم أهل العلم والأدب ونوقرهم في المجالس ونحترمهم في الطرقات وننحني أمامهم في المعاهد والجامعات ومراكز البحث والدراسات، فإننا ندعوا الكثيرين منهم أن يقدموا للمجتمع ولعموم الإنسانية ما يصلحها ويعينها على الصبر الجميل حتى يقضيّ الله امرا كان مفعولا. لا أن يتحدثوا مع بسطاء الناس بلغة التكبر والعجرفة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. نصيحتي لهؤلاء السادة المحترمين هي تخصيص نصف ساعة مطالعة في كتب الحياة الكريمة الفاضلة كل ليلة قبل النوم والشفاء بيد الله تعالى. من لطائف الأمور أن أحد أصقائي وهو خطيب وطالب علم قد قال لي : سيدنا أبشرك بأني قد حصلت على الدكتوراه. قلت : وماذا أنت صانع بالدكتوراه (يا بعد رويحتي) على تعبير اهل النجف!! موديل الدكتوراه رائج جدا هذه الأيام وتستهوي الكثيرين من المهوسين بالشهرة. صراحة هي فعلا (كشخه)!!!

ملاحظة..

مؤسف جدا حال بعض الأسر العلمية والأدبية التي لا تولي إهتماما ملحوظا بأبنائها ولا تشجعهم على المطالعة في الوقت الذي توجد مئات الكتب في مكتبة تلك الأسرة. أعرف عن قرب بعض الاكاديميين والباحثين الذين يقضون ساعات طويلة آناء الليل وأطراف النهار في البحث والدراسة والمطالعة ويطلب من الأولاد الأعزاء الإلتزام بالهدوء التام والتحدث مع بعض بشكل يشبه الهمس في الأذن كي لا تتشتت أفكاره، لكنه يُضيّع مَن هو مسؤول عن تربيته وإعداده ليكون صالحا ويرفد المجتمع به ليسهم في تطوره وتقدمه أخلاقيا وعلميا وفكريا. هؤلاء السادة لم يكلفوا أنفسهم ويقدموا لأولادهم كتابا واحدا مناسبا لتشجيعهم وحثهم وترغيبهم على المطالعة. هذا النوع من الوالدين أو أولياء الأمور يكونون للأسف الشديد انانيين لا يهتمون إلاّ بأنفسهم على أحسن تقدير. تحدثت مع أحدهم حول الاهتمام بالأولاد ومن يشاركونه العيش تحت سقف واحد ولفت نظره إلى أن إبنه ليس على ما يرام ويحتاج إلى المزيد من الاهتمام والإعتناء من لدن والديه بعض الوقت لأن الاهتمام  بمن تحب ـ كما يقول العشّاق ـ هو أهم من الحب ذاته. فقال لي : يا سيدي لا حياة لمن تنادي. واقعا لا أدري هل قصد بتلك العبارة نفسه أم قصد به إبنه!

جارنا في النجف الأشرف..

لم يكن جارنا في النجف الأشرف في الثمانينيّات أكاديميا ولا من ذوي الكفاءات ولا من أصحاب الألقاب الرنانة، ولكنه كان مدرسة ومعلما من الطراز الأول والنادر جدا. وَعَدَ ذلك الرجل الصالح إبنه البكر بأن يشتري له دراجة هوائية ان نجح بتفوق من السادس الإبتدائي. جَدَّ صديقي وجاري وزميلي  في الدراسة وإجتهد كل الوقت إمتثالا وطاعة لأمر مولاه ووالده الكريم وحصل في النتيجة على علامة عشرة من عشرة وأتى بالشهادة يحملها ووضعها بين يديّ والده وقال له : تفضل سيدي تلك عشرة كاملة. لقد منحته تلك العلامات ان يكون الأول على محافظة النجف وقد استلم جائزة قيمة من مديرية تربية النجف وطلب منه مدير التربية حينها ان يشرح له بإختصار عن كيفية إحرازه تلك العلامات كاملة فقال الولد البار : اكرمتُ والدي بالإمتثال لطلبه فأكرمني الله بالتي هي احسن وأجمل. ثم واصل حديثه وهو صغير السن : يا أستاذ لقد أحنيت رقبتي وطأطأت رأسي لطلب العلم والمذاكرة فرفع الله تعالى بالعلم اليوم رأسي واعدل به رقبتي. في طريقنا ـ أنا وصديقي ـ  للعودة الى البيت اخبرني بأنه ينتظر جائزة قيّمة أخرى من والده وهي دراجة هوائية كانت وعدها إياه والده ان نجح بتفقوق. وفي البيت وعند قدوم والده قال الولد البّار المطيع : سيدنا لقد وفيتُ بعهدي أفِ بعهدك. لقد نجحت وتفوقت كما أردت فأريد الدراجة كما وعدت. قال الوالد : حاضر واشكرك على النجاح الباهر، ولكن عندي إقتراح : لقد فكرتُ في الأمر فوجدتُ أنك لا تحتاج الدراجة في الوقت الحاضر، فبيتنا قريب من مدرستك كما أننا نعييش وسط المدينة وفي جوار الحرم المطهر لأمير المؤمنين عليه السلام، وغالبا ما يكون شارع الرسول مزدحما بالزوار وعموم المّارة مما يصعب ركوب الدراجة وسط ذلك الزحام ويعيق إنسيابية مشي الناس. لذا أقترح عليك ان نستبدل شراء الدراجة بشراء مكتبة تختارها أنت بنفسك ومن النجّار الفلاني، إنها مجرد فكرة خطرت ببالي ـ واصل الوالد حديثه ـ وأحب أن اسمع رأيك؟ إن وافقتني الرأي ذهبنا في الحال إلى النجار وإن لم توافقني ذهبنا أيضا في الحال لشراء الدراجة وماكنتُ لأخدعك يا ولدي العزيز؟

إلتفتَ صديقي إليّ وقال : يا جعفر ما تقول أنت؟

قلت : سيدنا القول ما قاله والدك وما علينا إلاّ السمع والطاعة.

قال : لقد أفحمتني يا صديقي.

ذهبتُ معهما إلى النجار واختار صديقي مكتبة جميلة من سبعة رفوف تسع لعشرات الكتب. في صباح اليوم التالي ذهب والد صديقي (غير الأكاديمي) إلى مكتبة الأندلس حينها واشترى باكورة الكتب لمكتبة ابنه وواعده بشراء المزيد حال الإنتهاء من مطالعتها بعناية وتركيز. كان كلّما ينتهي صديقي من مطالعة كتاب ما يأتي الوالد ويطلب منه ان يشرح له ولو بإيجاز عن مضمون الكتاب وما الذي استفاده منه وهل كان الكتاب ممتعا شيّقا او مملا متعبا؟. كان الوالد (البسيط) يعمد بين الفينة والأخرى شراء كتب لا تناسب التحصيل العلمي لولده ويحشرها بين الكتب ليختبر تطور مداركه ودرجة استيعابه. أذكر أنه قد أحضر له ذات يوم تفسير الكاشف للشيخ للعلامة الشيخ محمد جواد مغنية رضوان الله تعالى عليه فحمل صديقي الجزء الأول منه وجاء إلى حضرة أمير المؤمنين ع وبعد الإنتهاء من صلاة فريضة الظهر والعصر قال لي : أول كتاب تفسير أقرأه، إنه جيد جدا ولغته مبسطة ومرتب بشكل مدروس. بينما هو يتحدث معي لمح الكتاب أحد العلماء الأعلام وهو السيد يوسف الحلو رحمة الله عليه فقال لصديقي : أعرني من فضلك هذا الكتاب فلم أره من قبل. أخذ السيد الكتاب وتصفحه وقال لصديقي : ما شاء الله عليك لقد إقتنيت هذا التفسير الرائع قبلي ولو أن جناب الشيخ قد أسهب في اللغة والإعراب. كلام السيد الجليل كان دعما قويا لنا لمواصلة المطالعة والدراسة.

من المطالعة إلى الكتابة..

بعد العطلة الصيفية بدأ صديقي الدراسة في الصف الأول المتوسط، في درس اللغة العربية كانت المفاجأة عندما طلب الأستاذ من الطلاب ان يكتبوا ما يعرفونه عن عناصر القصة وعن اشخاصها وزمانها ومكانها والحوادث والفكرة بشكل مجمل، لكن صديقي فاجأ الأستاذ وقال له : هل تريد ان اكتب لك قصة قصيرة يا أستاذ؟

لم يصدق الأستاذ ما سمعه فقال له : عفوا؟

أعاد صديقي عليه الإقتراح : قلت هل تريد حضرتك ان اكتب قصة قصيرة ؟

فقال الأستاذ : بكل سرور ولكن أن تكتبها هنا في الصف أمامي وإن لم يسعك وقت الدرس فيمكنك مواصلة الكتابة غدا ان شاء الله شرط ان تبقي الدفتر في الصف ولا تأخذه معك الى البيت، ظنا من الأستاذ بأنه ربما يحصل على مساعدة من احد في البيت. فعل صديقي ما طلب منه أستاذه وأكمل كتابة القصة في اليوم التالي مما أثار ذلك دهشة وتعجب الأستاذ فقص عليه صديقي قصة الدراجة الهواية والمكتبة. ذلك الصديق القديم والجار الكريم هو الآن أحد كبار الأساتذة في كلية الهندسة المدنية في جامعة مرموقة ومحترمة عالميا. أضف إلى ذلك أن أخوته قد حذوا حذوه وتسلقوا السلم المعرفي وهم اليوم كأخيهم البكر يجلسون في قمة الهرم وبتواضع تعجز الكلمات وصفه. إنهم بإختصار من الذين يتواضعون لنملة.

أيهما أكثر نفعا وفائدة سيدي الكريم، والد صيدقي (غير الأكاديمي) أم ذلك الدكتور الذي قصصت عليه القصص فاعرض ونأى بجانبه. أهتم بنفسه وأهمل أقرب الناس إليه رحما؟!

تعليق..

لولا خشيتي من الإطالة لذكرت الكثير من الأمثال المختلفة ولكن العبرة ليست في كثرة الأمثال وإنما هي في الوقوف طويلا مع الذات والإلتفاتة إليها ومحاسبتها وبهذا تكون نجاتنا، وإذا ما كابرنا وجادلنا بغير الحق وأسرفنا في الوقت الإضافي ورمينا الكرة في ملعب الآخرين دون تسجيل أي هدف كفرصة أخيرة للفوز، فلنتيهأ لسماع صافرة الحكم الذي سوف يعلن إنتهاء الشوط الثاني من المباراة دون إحراز أي هدف.

من طرائف القصص..

من الطريف ان أذكر هنا حادثة غريبة حصلت مع صديقي أيام زمان وكان عندهم مكتبة في مكان بيع الكتب في بداية سوق الحويش في النجف الأشرف وكان المكان يسمى حينها بـ "القيصرية" وأكثر الكتب التي تباع في ذلك السوق الذي لا يزال كائنا ليومنا هذا هي كتب الدراسات الدينية ـ الحوزوية ـ يقول صديقي: كنت جالسا أتصفح كتاب (الرسائل) للشيخ الأنصاري رحمه الله، فأقبل عليّ رجل خمسيني وسألني سؤالا غريبا : كم سنتيمتر يكون سُمك هذا الكتاب الذي بيدك؟

قال : قلت : وما أدراني يا شيخ.

ثم قال: ولكني سألته : أنت يا سيدي لم تسألني عن إسم الكتاب ولا عن سعره وإنما سألتني عن سُمْكه وكأني نجّار أو خيّاط؟!

أجاب الرجل الخمسيني : أنا واقعا لست مهتما بمطالعة الكتب لكني رأيت الموظة الآن هي أن تكون عندك مكتبة ضخمة في صالون الإستقبال لأنها صراحة (فد شي!!) ومنظرها جميل، لهذا إشتريت قبل أسبوع مكتبة جميلة وبدأت أملأها بالكتب المختلفة الأحجام وحرصت على إختيار ألوان الكتب بعناية، الآن بقي عندي فراغ حوالي 4 سنتيمترات حتى يكتمل الرف الثالث منها فأحتاج كتاب بهذا السُمك لسد الفراغ على أمل أن أجهز الرف الرابع لا حقا. قال صديقي : من يومها أشتريت شريط قياس ووضعته في الواجهة مع الكتب لأجلب الزبائن الذين يشترون الكتب للمنظر والمظهر كما أني بدأت أحرص على إختيار الألوان قبل العناوين، وكذلك فقد كتبت بين قوسين (توجد لدينا كتب بمختلف الأحجام والألوان) ثم واصل صديقي قائلا :  وكما قيل ولا يزال يقال : "الجنون فنون".

الحنين إلى الماضي..

أقرأ لكتّاب مرموقين ومحترمين وهم يحنون إلى الماضي ويسردون كما أفعل أنا هنا حكايات وقصص تشبه درسا في التاريخ لا يؤتي أُكُلها حتى بعد حين، لأن الحنين وحده لا يحل مشكلنا الثقافي ولا يحارب التسكع في الشوارع طالما الكلام نظريا بحتا. ما فائدة الكلام من اجل الكلام إلاّ اللهم في سوق عكاظ. سرد القصص والحكايات دون النزول إلى الشارع ونشر الفضيلة والعلم ومحاربة الرذيلة والجهل سوف لا تساوي شسع نعل بالية أجّل الله القاريء الكريم. وسوف لن تسهم في بناء المجتمع المدني المتحضر والمتسلح بمنظومة القيّم الأخلاقية الراقية. من المحزن أننا كلّما ذكرنا سلبيات بعض الأكاديمين والتي من شانها ان تدفعهم إلى الجد في العمل لا إلى الجد في التنظير فقط (يسلخوننا)  بمقالات يُشَم منها رائحة التفلسف والمكابرة وليس فيها فلسفة ولا إعتراف بالتفصير. ماذا يستفاد المجتمع والفرد الواحد من أكاديميين نسمع لهم جعجعة ولم نر منهم طحنا. المصلح الاجتماعي والديني والثقافي لا ينفع المجتمع بشيء ما لم يعاشر الناس بمعروف ويستمع لهم ويرشدهم لما فيه الخير والصلاح. سوف لن أخوض في السياسة وتناقضاتها ولكن أقول بإختصار شديد :

 الإصلاح الاجتماعي قبل الإصلاح السياسي.

على المصلحين من أكاديميين وعلماء ومبلغين وخطباء وعاملين أن يعاشروا أبناء الأمة ويستمعون لمشاكلهم واشكالياتهم ويحاورونهم بالحكمة والموعظة الحسنة الجميلة بدل التفلسف والأنا ومدح الذات..  الإستماع يكون أحيانا أبلغ بكثير من الخطابة والكتابة, أعني بالإستماع الشروع في مدّ يد العون والمساعدة وهنا المساعدة هي فكرية ثقافية تكاد تكون مفقودة في مجتمعنا. أصبح شبابنا مدمنا على الاراكيل والمقاهي والت ح ش ي ش (مع تحفظي لهذه التسمية المشينة القذرة). دخلت أحد بيوت أرحامي فوجدت على الرف عدة أراكيل وأنا أعرف أن والدهم لا يدخن فسألت الوالد لمن هذه الأراكيل فقال لأولادي. قلت ما شاء الله، هذه فعلا طفرة!!

 

نسأل الله العافية


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد جعفر الكيشوان الموسوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/12/14



كتابة تعليق لموضوع : لاتتثاءب إنه مُعدٍ!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net