صفحة الكاتب : شعيب العاملي

التعمُّقُ بالرأي.. ودعائم الكفر!!
شعيب العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم
 
قال إمام البلاغة وأمير المؤمنين في نهجه الشريف:
 
الْكُفْرُ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ، عَلَى:
1. التَّعَمُّقِ‏
2. وَالتَّنَازُعِ
3. وَالزَّيْغِ
4. وَالشِّقَاقِ (ص474)
 
ههنا يحارُ المؤمن في كلام عليّ عليه السلام!
إذ كيف يكون التعمُّق من دعائم الكفر؟! وهو من أوضح سُبُل التَعَلُّم الذي لا بدّ للمؤمن منه، وهو ما يسعى جُلُّ المؤمنين إليه في أمور دينهم، فيمدحون مَن تعمَّقَ في فهم دينه، ويرون سواه مُقَصِّراً فيما وجب عليه.
 
فإن المُتَعَمِّق هو: المبالغ في الأمر المنشود فيه، الذي يطلب أقصى غايته (كتاب العين ج‏1 ص187)
 
وليس الأمر مقصوراً على ذمّ التعمُّق، بل عَدَّ الإمام عليه السلام عَدَمَ التعمُّق من صفات المؤمن، حينما ذكر في خطبته لهمّام من علاماته أنّه: وَلَا مُتَكَلِّف‏، وَلَا مُتَعَمِّقٌ (الكافي ج‏2 ص228).
 
فهل التعمُّقُ في أمور الدين مشمولٌ لهذا الذمّ؟! وهل المبالغة في أمور الشريعة كذلك؟!
 
لقد ذكر الإمام وجه ذم التعمُّق بقوله عليه السلام: فَمَنْ تَعَمَّقَ لَمْ يُنِبْ إِلَى الْحَقِّ.
فهل التعمُّقُ في طلب الحق يمنع من الإنابة للحق والرجوع إليه؟! أم أنّه يختصُّ بالتعمُّق بالباطل؟
 
ههنا جملةٌ من الوجوه والفوائد والمعاني في كلامه عليه السلام:
 
أول الوجوه: المبالغة في طلب الحق طريقٌ للباطل!
 
أن تكون المبالغة في طلب الحقّ طريقاً للباطل، لأن الإنسان إنما أُمِرَ بأخذ الحق كما هو لا بالمبالغة والمغالاة فيه.
وثمرة ذلك أن على الإنسان الاعتدال حتى في طلب الحق، فلو أراد المبالغة، لأمكن له أن يَتَقَدّم على الإمام المعصوم، ولو تقدّم عليه لَصَار مغالياً مخالفاً لأمر الله تعالى، محقِّقاً أوّل دعامة من دعائم الكفر وهي (التَعَمُّق).
 
ومن الشواهد على هذا المعنى أن هذه الأربعة المذكورة قد عُدَّت من (شُعَب الغلوّ) كما في الحديث عنه عليه السلام في الكافي الشريف (ج‏2 ص392)، والغلوّ يعني تجاوز الحدّ في أمور الدين، فهو يشمل المبالغة وتجاوز الحدود حتى في جبهة الحق، طلباً وعملاً.
 
وقد ورد في وصف آل محمد عليهم السلام: الْمُتَقَدِّمُ لَهُمْ مَارِقٌ، وَالْمُتَأَخِّرُ عَنْهُمْ زَاهِقٌ، وَاللَّازِمُ لَهُمْ لَاحِقٌ.
فالتقدُّم كالتأخُّر، والتعمُّق بمعنى المبالغة التي تزيد عن حدِّها حتى في طريق الحق تُخرجُ صاحبها عنه فيمرق من الدين كما يمرق السهم من الرميّة.
 
وشاهده الآخر ذمُّ التعمُّق فيما لم يكلّف الله تعالى، كالبحث في الذات الإلهية، حيثُ وُصِفَ المُُقِرُّون بالعجز عما أمكنهم فهمه وإدراكه وتفسيره أنهم الراسخون في العلم، ومدح الله اعترافهم بالعجز: وَسَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِي مَا لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْهُ مِنْهُمْ رُسُوخاً (التوحيد ص56).
فصار تركُ التعمُّق فيما لا سبيل إليه رِفعَةً، وصار التعمُّق حِطّةً لتلك المنزلة وباباً للجهل دون العلم.
 
ثاني الوجوه: العمل (بالرأي)!
 
أن رواية الكافي الشريف ذكرت: التَّعَمُّقِ (بِالرَّأْيِ) وَالتَّنَازُعِ فِيهِ، وهو وجهٌ آخرٌ مطابقٌ لما ورد عنهم من النهي عن العمل (بالرأي)، فإن دين الله لا يخضع للآراء الشخصية ولا الأقوال الخاصة ولا الرغبات، فمن بالَغَ في العمل في دين الله بالآراء الخاصة رَكَزَ ركيزة الكفر الأولى.
 
وقد دلّ على هذا المعنى رواياتٌ كثيرة، وبعدما نهى الإمام عن مجالسة (أصحاب الرأي) وهم أهلُ منهجٍ خاصٍّ في ذلك وان تنوّعت مشاربهم، حذّر عليه السلام من خلصتين: تَهْلِكُ فِيهِمَا الرِّجَالُ:
1. أَنْ تَدِينَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ رَأْيِكَ.
2. وَتُفْتِيَ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ. (المحاسن ج‏1 ص205)
 
أن يصبح الرأيُ ديناً مهلكةٌ للرجال إذاً، وأن يُبالغَ الإنسان ويتعمّق وينازع في إثبات دينه المبتني على رأيه من ركائز الكفر والغلو والضلال، قال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ)، وفسّرها الإمام عليه السلام: يَعْنِي مَنِ (اتَّخَذَ دِينَهُ رَأْيَهُ) بِغَيْرِ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى (الكافي ج‏1 ص374).
 
فكلُّ رأيٍ في دين الله غير مستندٍ إلى أئمة الهدى هو اتّباعٌ للهوى وبابٌ للضلال.
 
ثالث الوجوه: التعمُّق (بالجهل)!
 
أن يُراد بالرأي (الجهل)، فتكون دعامةُ الكفر هي التعمُّقُ بالجهل، أي المبالغة فيه وطلب أقصاه، ولا يلزم منه أن يكون الجاهل ملتفتاً لجهله، بل غالباً ما يكون ممن يحسب نفسهُ عالماً.
 
فكم مِن جاهلٍ مُتَصَدٍّ لأمور الدين والشريعة، وهو يظنُّ نفسه أعلَمَ مَن عليها، وهو يبالغُ في العمل والمنازعة عن جهلٍ، فيسقط في شعبة الغلو ويبني دعامة الكفر.
وشاهد هذا الوجه هو الجمع بين الحديثين، ففي حديث نهج البلاغة: (التَّعَمُّقِ‏ وَالتَّنَازُعِ.. فَمَنْ تَعَمَّقَ لَمْ يُنِبْ إِلَى الْحَقِّ.. وَمَنْ كَثُرَ نِزَاعُهُ بِالْجَهْلِ دَامَ عَمَاهُ عَنِ الْحَقِّ) وفي حديث الكافي الشريف: (التَّعَمُّقِ بِالرَّأْيِ وَالتَّنَازُعِ فِيهِ).
 
وَضَمُّ الحديثين إلى بعضهما مع وحدة المعنى يفيد وحدة موضوع التعمُّق والتنازع، فما كان قد تعمّق فيه هذا العبدُ قد نازع فيه، وهو ممن (كَثُرَ نِزَاعُهُ بِالْجَهْلِ) فيكون تعمُّقه بالجهل، فيكون مفاد التعمُّق بالرأي التعمُّق بالجهل.
 
وهذا التفسير غير عزيز، فقد أشار بعض العلماء إلى أنّه: قد شاع اطلاق الرأي على الجهل‏ (شرح الكافي للمازندراني ج‏10 ص67).
 
فصار بلاؤنا مع هؤلاء هو عَمَلُهُم عن غير عِلمٍ، وتعمُّقهم في ذلك، ومنازعتهم على ذلك.
 
قال عليه السلام: وَمَنْ كَثُرَ نِزَاعُهُ بِالْجَهْلِ دَامَ عَمَاهُ عَنِ الْحَقِّ: فلا يُرتجى له الخيرُ، لدوام العمى، والأعمى لا يرتجى له البصرُ.
 
فإذا عمي عن الحقّ لم يعد يراه، فكيف سيتّبع الحق وهو لا يعرف كيف يراه.. فيصير زيغانه وميله من الحقّ للباطل نتيجةً قهريّة لفعاله، فيصف حالَه الإمامُ عليه السلام:
 
وَ مَنْ زَاغَ سَاءَتْ عِنْدَهُ الْحَسَنَةُ، وَحَسُنَتْ عِنْدَهُ السَّيِّئَةُ، وَسَكِرَ سُكْرَ الضَّلَالَةِ!!
 
ما أعظمها من كلمة يا أمير المؤمنين!
سَكِرَ سُكر الضلالة!
 
السكرانُ ليس بصاحٍ، لا يعي ما يفعل غالباً!
لقد صار الإفراطُ في أمور الدين والقول بالرأي والجهل فيه باباً لسُكر الضلالة!
 
مسكينٌ أنت أيها المؤمن.. لك الله..
كيف النجاة بغير عونه وتوفيقه من أهل التعمُّق هؤلاء؟! المفرطون الجاهلون الذين يعملون في دين الله برأيهم، وينازعون المؤمن في ذلك..
 
كم عليك أيها المؤمن أن تكون حذراً من هؤلاء، متوكلاً على الله تعالى، مخلصاً له في أمرك كي يستنقذك من هؤلاء.
 
إن الدعامة الرابعة لكفر هؤلاء تبيّن حقيقتهم وتوضح أمرهم للمؤمن، فهم أهل (الشقاق)، فكلّما رأيت أيها المؤمن من يخالف أهل الحق وينازعهم ويشدِّدُ النكير عليهم، عرفت أنّه حقّق الدعامة الرابعة للكفر.
 
لقد وصف الإمام الصادق عليه السلام قَتَلة الإمام الحسين عليهم السلام بأنّ الواحد منهم قد غرّته الدنيا:
وَأَسْخَطَكَ وَأَسْخَطَ رَسُولَكَ، وَأَطَاعَ‏ مِنْ عِبَادِكَ مِنْ أَهْلِ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاق‏، وَحَمَلَةِ الْأَوْزَارِ، مَنِ اسْتَوْجَبَ النَّارَ (كامل الزيارات ص229).
 
نعم هؤلاء أهل الشقاق، أُطيعوا فقُتِلَ من بَذَلَ مهجته ليستنقذ عباد الله من الضلالة والجهالة، والعمى والشك والارتياب.
هؤلاء أصحاب الضلالة والجهالة، وإن تسموا باسم الدين وتعمَّقوا فيه.
 
اللهم احفظنا بحفظك منهم، ونجِّنا وأهلنا ومحبينا والمؤمنين جميعاً من مكرهم بحق سيّد الشهداء، وأنقذنا به من العمى والشك والارتياب، وعجل فرج وليه المنتقم لك ولنبيك.
 
والحمد لله رب العالمين
24 صفر 1442 للهجرة / 12-10-2020م


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


شعيب العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/10/12



كتابة تعليق لموضوع : التعمُّقُ بالرأي.. ودعائم الكفر!!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net