صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

التوبة.. في أيام الحسين!
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم
 
وَإِنِّي تَائِبٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا صَنَعْتُ!
فَتَرَى لِي مِنْ ذَلِكَ تَوْبَةً؟
 
هذه كلماتُ الحرّ الرياحي، في (أيام الحسين) عليه السلام، بعدما أقرّ على نفسه للإمام بأنه حَبَسَه عن الرجوع، وجعجع به في مكانه، فضيّق عليه فيه.
فِعلٌ في غاية الشناعة، حَبْسُ إمام الزمان عن الرجوع إلى حيث يريد، والتضييق عليه هو معصيةٌ كبيرةٌ بلا شبهة، أقدم عليها الحرّ الرياحي، ثم أدرك فاعلُها عَظيمَ فعله، فسأل الإمامَ: فَتَرَى لِي مِنْ ذَلِكَ تَوْبَةً؟
 
فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ (ع): نَعَمْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْك ‏(الإرشاد ج2 ص100).
 
وكانت توبةً جعلت الحسين عليه السلام يمسح وجهه بعدما وضعوه بين يدي الإمام وبه رَمَقٌ، ويقول له: أنت الحرّ كما سمّتك امّك، وأنت الحرّ في الدنيا، وأنت الحرّ في الآخرة (تسلية المجالس ج‏2 ص282).
 
وفي هذا الزمن..
في شهري الحزن والعزاء..
يجعل المؤمنون من (أيام الحسين) باباً للتوبة إلى الله تعالى، فتُمحى ذنوبهم بذلك.
وكيف لا تمحى وقد قال الإمام الرضا عليه السلام: فَعَلَى مِثْلِ الْحُسَيْنِ فَلْيَبْكِ الْبَاكُونَ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ يَحُطُّ الذُّنُوبَ الْعِظَام‏ (الأمالي للصدوق ص128).
 
ولكن..
ههنا يحاذرُ المؤمن.. حينما يرى أن الذنبَ ذنبان:
1. ذنبٌ يوفّق صاحبه للتوبة منه..
2. وآخر لا يوفق لذلك..
 
ويخشى المؤمن من الوقوع في بعض تلك الذنوب التي تمنع التوبة، أو تخرجه من الإيمان وتجعله ممن خسر إيمانَه أعظم النِعم الإلهية، فما هي الذنوب التي يحاذرُ المؤمن من الوقوع فيها؟
 
إنّ من هذه الذنوب:
 
1. البدعة
فإن صاحبها لا يوفق للتوبة، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: أَبَى اللَّهُ لِصَاحِبِ الْبِدْعَةِ بِالتَّوْبَةِ.
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ ذَلِكَ؟
قَالَ: إِنَّهُ قَدْ أُشْرِبَ قَلْبُهُ حُبَّهَا (الكافي ج1 ص54).
 
كيف يهلك المؤمن بالبدعة؟
عند النظر بالرأي وترك قول محمد وآله، وعند العمل بالمقاييس، وتفسير القرآن بالرأي، وعند الإفتاء بغير علم، فكم حريٌّ بالمؤمن أن يحاذر من بدء وقوع الفتن حينما يمزج الحق والباطل وتنطلي البِدَعُ والخِدَعُ والأباطيل على كثيرٍ من الخلق.
 
2. الذنب الذي يُخرِجُ من الإيمان
لقد روي عن أبي ذر الغفاري قوله: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (ص) يُقَبِّلُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ (ع) وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ أَحَبَّ الْحَسَنَ وَ الْحُسَيْنَ (ع) وَذُرِّيَّتَهُمَا مُخْلِصاً لَمْ تَلْفَحِ النَّارُ وَجْهَهُ، وَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ بِعَدَدِ رَمْلِ عَالِجٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَنْبُهُ ذَنْباً يُخْرِجُهُ مِنَ الْإِيمَانِ (كامل الزيارات ص51).
 
لو وُضَعَت ذنوبُ المؤمن في كفّة الميزان فكانت بعدد الرمل المتراكم، ووُضِعَ حب الحسنين وذريتهما بإخلاصٍ في الكفة الأخرى لرجح حبهم عليهم السلام.
 
لكن هذا الحب لا ينفع لو أضاف العبدُ لهذه الذنوب الكثيرة ذنباً واحداً، هو الذنب الذي يُخرجه من الإيمان.
 
ما هو هذا الذنب الذي يغيّر الموازين ويقلبها؟!
هل هو قتل المؤمن؟ حيث ورد أن مَن قتلَ مؤمناً (لإيمانه فلا توبة له).
أم هو قتل الأنبياء والمعصومين؟! فيخرج العبدُ بقتلهم عن الإيمان رأساً؟!
أم هو قتال الإمام؟ كفعل طلحة والزبير فلم يوفقا للتوبة وإن أحبا الإمام يوماً؟!
 
أم هو ذنبٌ بقي مجهولاً كي يحاذر المؤمن من اقتراف كل الذنوب، كما ورد أن الله تعالى أخفى أربعاً في أربعٍ كان منها: وَأَخْفَى سَخَطَهُ فِي مَعْصِيَتِهِ، فَلَا تَسْتَصْغِرَنَّ شَيْئاً مِنْ مَعْصِيَتِهِ، فَرُبَّمَا وَافَقَ سَخَطُهُ مَعْصِيَتَهُ وَأَنْتَ لَا تَعْلَم‏ (الخصال ج1 ص209).
 
ههنا يحذرُ المؤمن من استصغار الذنوب، وإن كان يعلم طريق الخلاص من تبعاتها بالتوبة، أو بحسنة تمحوها، لأنّه يخشى أن يغضب ربّه ويخرج عن إيمانه بذنبٍ يرتكبه.
 
3. الاستغراق في المعاصي يودي إلى بغض آل محمد!
ههنا معادلةٌ في غاية الخطورة، تبيّن أن أمام الإنسان ثلاث مراحل قبل أن يدخل في دائرة المبغضين لآل محمد!!
 
المرحلة الأولى: الأربعون جُنَّة:
يكون العبدُ محفوظاً من الله تعالى مستوراً عليه، فيعمل الكبائر حتى يكشف ستره بارتكابه أربعين كبيرة!
 
فعن أمير المؤمنين عليه السلام: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ أَرْبَعُونَ جُنَّةً (ستراً) حَتَّى يَعْمَلَ أَرْبَعِينَ كَبِيرَةً، فَإِذَا عَمِلَ أَرْبَعِينَ كَبِيرَةً انْكَشَفَتْ عَنْهُ الْجُنَنُ، فَيُوحِي اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَنِ اسْتُرُوا عَبْدِي بِأَجْنِحَتِكُمْ، فَتَسْتُرُهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا.
 
المرحلة الثانية: ستر الملائكة:
بعدما نزلت مرتبة هذا العبد لارتكابه أربعين كبيرة، وصارت الملائكة ساترة له رحمةً من الله تعالى به، يزداد انغماساً في المعاصي والقبائح، فيُسقِطُ الله تعالى عنه ستر الملائكة هذا.
 
يصف ذلك أمير المؤمنين عليه السلام فيقول:
فَمَا يَدَعُ شَيْئاً مِنَ الْقَبِيحِ إِلَّا قَارَفَهُ، حَتَّى‏ يَمْتَدِحَ إِلَى النَّاسِ بِفِعْلِهِ الْقَبِيحِ، فَيَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ هَذَا عَبْدُكَ مَا يَدَعُ شَيْئاً إِلَّا رَكِبَهُ، وَإِنَّا لَنَسْتَحْيِي مِمَّا يَصْنَعُ.
فَيُوحِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ أَنِ: ارْفَعُوا أَجْنِحَتَكُمْ عَنْهُ.
 
المرحلة الثالثة: بغض آل محمد عليهم السلام!
ترتفع أجنحة الملائكة عن هذا العبد، فيخرج من عزّ الولاية إلى ذل البغض لمحمد وآله عليهم السلام!
 
يقول الإمام عليه السلام: فَإِذَا فُعِلَ ذَلِكَ، أَخَذَ فِي بُغْضِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْهَتِكُ سِتْرُهُ فِي السَّمَاءِ وَسِتْرُهُ فِي الْأَرْضِ (الكافي ج2 ص279).
 
يلخّصُ ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله:
يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاحْذَرُوا الِانْهِمَاكَ فِي الْمَعَاصِي وَالتَّهَاوُنِ بِهَا، فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ:
1. يَسْتَوْلِي بِهَا الْخِذْلَانُ عَلَى صَاحِبِهَا حَتَّى يُوقِعَهُ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا، فَلَا يَزَالُ يَعْصِي وَيَتَهَاوَنُ وَيَخْذُلُ وَيُوقِعُ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا جَنَى
2. حَتَّى يُوقِعَهُ فِي رَدِّ وَلَايَةِ وَصِيِّ رَسُولِ اللَّهِ (ص)
3. وَدَفْعِ نُبُوَّةِ نَبِيِّ اللَّهِ
4. وَلَا يَزَالُ أَيْضاً بِذَلِكَ حَتَّى يُوقِعَهُ فِي دَفْعِ تَوْحِيدِ اللَّهِ
5. وَالْإِلْحَادِ فِي دِينِ اللَّهِ (التفسير المنسوب للإمام العسكري ع ص264)
 
هي سلسِلَةٌ من المعاصي إذاً، يتبعُ بعضها بعضاً، تنقل صاحبها من عز الإيمان بالله والنبي والولاية للمعصوم، إلى ذُلّ الإلحاد ودفع التوحيد والنبوة ورد ولاية الوصي عليه السلام، وبغض آل محمد عليهم السلام!
 
وهل بعد هذا إلا الخسران!
 
ولا عجب أن صار للمعاصي هذا الأثر، حيث ترفع الإيمان بالله والرسول وحبّ آل محمد من القلب، لأن المعصية تؤثر في قلب الإنسان، فتجعل أعلاه أسفله، كما روينا عن الباقر عليه السلام: ٍ مَا مِنْ شَيْ‏ءٍ أَفْسَدَ لِلْقَلْبِ مِنْ خَطِيئَةٍ، إِنَّ الْقَلْبَ لَيُوَاقِعُ الْخَطِيئَةَ فَمَا تَزَالُ بِهِ حَتَّى تَغْلِبَ عَلَيْهِ فَيُصَيِّرَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ (الكافي ج2 ص268).
 
وفي (أيام الحسين) هذه..
فرصةٌ عظيمةٌ عند الموالين للتوبة، حيثُ تمحى ذنوبهم بذكر الحسين عليه السلام وإحياء أمره..
 
فمن أراد النجاة منهم حاذَرَ من الانهماك في المعاصي اتّكالاً على المحبة والولاية، لأن المحبة والولاية تنفع ما لم تُخرِجُ كثرةُ الذنوبِ الإنسانَ إلى جحيم البغضاء للعترة الطاهرة، والإنكار للنبوة، وذلّ الجحود لتوحيد الله تعالى.
 
أما من خُلِقَ من فاضل طينتهم، فقد سبق في علم الله تعالى له الختامُ بحسن العاقبة، فهو كلّما أتى معصية تاب منها، وما تجرأ على الله تعالى ولا عصاه في أحب الأشياء إليه، ولا ارتكب ما يخرجه من الإيمان، ولا ما يدخله في بغض آل محمد (ع)، وهو الذي يعطيه الله تعالى رَوحاً ورَيحاناً وجنّة نعيم، ويحشره مع محمد وآله الطاهرين.
 
اللهم اجعلنا ممن يُحشر معهم، وينال شفاعتهم..
اللهم احفظ شيعة أمير المؤمنين، وثبّتا وأهلنا وإياهم على الولاية، وعجل فرج وليك.
 
والحمد لله رب العالمين
18 صفر 1442 للهجرة، 6-10-2020 م


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/10/09



كتابة تعليق لموضوع : التوبة.. في أيام الحسين!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net