صفحة الكاتب : نايف عبوش

الحنين إلى الماضي في ثقافتنا الشعبية .. متلازمة فرط استذكار أم تواصل عضوي مع جذور النشأة
نايف عبوش

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

توصف الثقافة العربية التقليدية بأنها ثقافة طللية من الجاهلية إلى اليوم.ولكن ذلك قد لا يعني أنها ثقافة متبلدة،وانها ليست سوى بكائيات جافة لا جدوى منها، لاسيما وأن حرارة الانتماء إلى المكان، والالتصاق العضوي الأصيل بعناصر بيئة النشأة، يمكن تلمسها فيها بسهولة. فالإنسان العربي مجبول طبعه ابتداءً، بطين بيئة ما سكن من الديار، وبود من عاشر من القوم.

ففي الشعر الفصيح قال امرؤ القيس في معلقته قديماً في هذا الصدد :

قفا نبك من ذِكرى حبيب ومنزل...... بسِقطِ اللِّوى بينَ الدَّخول فحَوْملِ
 
فتوضح فالمقراة لم يَعفُ رسمهاَ.......... لما نسجتْها من جَنُوب وَشَمْأَلِ

وفي الشعر الشعبي المعاصر يقول أديب البادية سهيل الجغيفي في التغني بالديار :

يادار من غيرج فلاكو طرايف....... ياكن تربانج على الروح نوار

وشعاد لو نسكن كصورن نظيفة....تبقى تراسيمج على البال تذكار

بينما نجد الشاعر أحمد العلي السالم ابوكوثر يقول في زهيري جميل له، يتوجد فيه بالماضي، ويتأوه عليه :

راحن ليالي السعادة ياحمد مايجن

رمدن عيوني وعكب كت الدما مايجن

افطن عليهم ويوجعني الجرح مايجن

ليلي علي، وأدور للجرالي طب

والسكم هدم اركاني وعلى عظامي طب

راحو الجانو طبعهم يزرعون الطيب

عفية علعكل صاحي ياحمد وما يجن..

هكذا إذن يبقى الحنين والانتماء إلى المكان، إلى الوطن، جدلية متواصلة عبر الزمن، ولا انفصام لها، لدى الإنسان العربي، ولاسيما لدى إبن الريف، وابن البادية على نحو خاص،فلعل جيناتهم التراثية، إذا جاز التعبير، عصية على التهجين، فهي لا تتقبل التهرمن بضغط تداعيات العصرنة الجارفة، مهما تم حقنها بجرعات من إيجابيات منجزاتها المتتالية، وذلك لأن اصالتها متجذرة في أعماق الوجدان الشعبي ، وغائرة في صلب المخيال الجمعي للأجيال.

ولذلك نجد أنفسنا، وفي زحمة ضجيج عصرنة صاخبة، نشعر وكأننا نعتاش اليوم، على ما يختزنه عقلنا الباطن، وما تحمله مخيلتنا من ذكريات الماضي، حتى وان كان بعضها مؤلما، وذلك استشعارا منا لسعادة وجدانية تلقائية خلت ، نتجاوز بها تعاسة استلاب الحاضر، وصخب الحياة الراهنة، بعد رحلة متواصلة من المعاناة الشاقة، والمرهقة، نفسياً، على كل ما في حياتنا المعاصرة من مغريات تفوق الخيال ،حيث يبدو أن تعدد مفردات الحياة الراهنة، وسرعة ايقاعات حركتها، قد افرزت هموما تفوق بعبئها، حجم قدرة التحمل المتاحة لإنسان العصر الراهن، مما يفوت عليه في نفس الوقت، فرصة تذوق نكهة تلك المغريات، ويدفع به إلى الانكفاء نحو الماضي، ليتلذذ باستذكار سعادة مضت، من سالف تلك الأيام الخالية.

ولعل المدهش حقا، هو انثيال عاطفتنا الجياشة، وطريقة تعبيرنا عنها بهذه التلقائية الوجدانية الخالصة ، عما يجول في خاطرنا، وما نكابده من معاناة تلك الهموم، والعزلة، بفجوة الجيل، في حياتنا الراهنة، هو ما يدفعنا للسعي لتجاوز مرارتها، بلجوئنا لإعادة إنتاج صور الماضي،واستيلادها بذهننا، بطريقة وردية، لنشاطر زملاءنا الآخرين، الإحساس بوحدة المعاناة، ونشاركهم الحنين الى تلك الذكريات، رغم كل الفوارق الشخصية في معايشتها. إذ لا شك أن البعض منا يكون قد عاشها في سعادة، في حين عاشها البعض الآخر في تعاسة.

وبغض النظر عن التفسيرات الأكاديمية البحتة ، لمثل هذه الظاهرة من الحنين الى الماضي، بهذه الطريقة الوجدانية المؤثرة، فإن وصفها ب(هايبرثيميسيا) أو ( متلازمة فرط التذكر) باعتبارها حالة مرضية،تجعل الشخص المصاب بها، يتذكر كل لحظة مرت في حياته بكافة تفاصيلها، ولا ينسى منها شيئا،ومن دون الحاجة للدخول في تفاصيل تلك التأويلات العلمية البحتة لها، والتي غالبا ما تختزلها في تفسيرات مهنية صرفة، قد تبدو بعيدة عن سبر كنه هذه الظاهرة، بمدلولاتها التراثية، والاجتماعية، المرتبطة ببيئة النشأة الأولى ، فإنها تظل حقيقة انسانية، ماثلة بيننا، نعيشها بعفوية في وجداننا، بين الحين والآخر، ولطالما شعرنا اننا نقتات فعلا على تخوم حافات ذكرياتنا،كلما سنحت لنا الفرصة بخلواتنا الفردية، بالعودة الى دهاليز ذاكرة الماضي، والتسكع في وهادها السحيقة، تلمسا لبصمات وردية حياة ماضينا الجميل،التي نلفيها تغمرنا بجرعة سعادة معنوية، كلما هربنا اليها من صخب ضجيج حياتنا المعاصرة، حتى وان بدت لنا سعيدة، وممتعة ، وطافحة بالرفاهية في كثير من جوانبها.

 ولعل استذكارات مرابع الصبا، وفضاءات فلاة أيام زمان، وانين الناي، وثغاء الأغنام، ونهيق الحمير، وصرير الجرجر، وزقزفة العصافير، وطقطقة صوت اللقالق في أعشاشها في أعلى خرائب الطين، وهي تزق فراخها بما جلبته لها من غذاء ، وقهوة العصر وشبة الضحى،تمنحنا فرصة استرجاع تفاصيل مفردات حياة عشناها، لتفيض علينا سعادة وجدانية،تفوق في تأثيرها النفسي ما تمنحه وصفات عقاقير مكافحة الاكتئاب، من سعادة مصطنعة، سرعان ما تنكفيء بمجرد زوال تأثير العقار .


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نايف عبوش
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/04/03



كتابة تعليق لموضوع : الحنين إلى الماضي في ثقافتنا الشعبية .. متلازمة فرط استذكار أم تواصل عضوي مع جذور النشأة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net