صفحة الكاتب : ادريس هاني

عن الشعب والشعبوية وتراجيديا الوعي
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 السؤال الذي يحضرني وأنا أتابع برنامجا وثائقيا عن سرب من الثيران الهاربة من مطاردة كائنات مفترسة لا تضرب أي حساب عن توازن القوى، سواء أتعلّق الأمر بضبع أو نمر أو لبوة..واحد أو مثنى أو ثلاث ، لا شيء يختلف..الهروب غريزة..لكنها في النهاية تسعى لحتفها وهي هاربة من دون روية، حيث يبدو المفترس أذكى منها في المطاردة..كان سؤالي يدور حول تكرار هذه التراجيديا البقرية، وهل ان تاريخا من الهروب لم يكسب البقر خبرة أو يحفّزه لتكييف جديد للوعي بالمصير البقري المشترك؟

السؤال نفسه ينتابني حين أنظر إلى القطيع البشري الذي إسمه الجماهير أو الشعب أو غيرها من الكائنات الجماعية التي يكمن وعيها في غريزتها الجماعية، السؤال نفسه: لماذا العقل الجمعي مختلف عن العقل الفردي؟ لماذا لم تتراكم خيبات أمل العقل الجمعي في التاريخ لتنتج تكييفا خلاّقا حتى بالمعنى التّطوّري الدارويني للعقل؟ هل العقل الجمعي يجعل من الإنسان مجرد قطيع بقري لم يرق حتى إلى ذكاء الضّباع؟
لا زلت حائرا بين ميلين يجذباني باستمرار..الميل إلى غوستاف لوبون في سيكولوجيا الغوغاء..إلى كيرغيكورد في تدين الجماهير..إلى فرويد في اللاّوعي الجمعي..هنا كل ما هو شعبوي مجرد وهم..ليست الجماهير مقدسة ولا واعية..لا تقلّ انتهازية عن المستبدين الذين خرجوا منها وتفوقوا عليها..لا شيء يحصل في الاجتماع البشري لا يكون فيه الغوغاء طرفا في إنتاج ظواهر القهر..الشعب أداة لقهر نفسه..حتى الاستعمار يستعمل الشعوب ضدّ نفسها..الأنانية، الانتهازية، الحقد، كلها جماهيرية..
لكن في مقابل هذه الصورة، يبدو أن هناك ميلا ملحّا أيضا لنظرية الشعوب: شعوب مقهورة، تستغل، طيبة، خيرة بطبيعتها، مكرها سطحي نابع من الجهل، هي نتيجة زيف تخضع له بحكم التوجيه والتربية والتحكم..هي دائما محقّة، ونبضها سليم، فالشعب مقدّس..
بين الميلين تكمن حقائق غير محسومة..الشعوب ليست بريئة بالجملة، أصلا لا يوجد شعب بهذا المعنى، توجد طبقات ومصالح وأهواء..ألا يعني هذا أنّ التصنيف الأفضل والأكثر عدالة هو وجود مستكبرين ومستضعفين؟ داخل الشعب يوجد محرومون تلقوا ذات التربية وفي ذات البيئة غير أن بعضهم يرى انعتاقه في ممارسة الجريمة ضدّ الشعب نفسه والآخر يسلك طريقا سويّا..هنا يتدخل علم الإجرام الذي يرصد أيضا الطبائع والغرائز الكامنة في الجسد النفسي للشعب..قانون الطبيعة جارف..لا يعذر الكائن عند جهله قانون الطبيعة..تدفع الشعوب ضريبة الانحدار..وهي مسؤولة أمام الله والتاريخ..هناك مظالم بين الشعوب..لا شيء يبرر الجريمة والحقد..استقامة الشعوب فريضة منسية..لا أحد بريئ..والشعوب مسؤولة عن مصيرها..
الميلان خطران في مداهما الأقصى فلا بدّ من التواسط..هناك الذّاتي وهناك الموضوعي..من يا ترى يقطع الطريق على القطيع لكي لا يبلع منبع الوعي؟ من يحرس جهل الجماهيري لكي لا تكسب بعد ذلك علما؟ من يؤخّر هذا الوعي الذي يفوق كلّ شئ رعبا؟
لا ننسى أنّ العقل الجمعي وإن نزل قليلا عن العقل الفردي إلاّ أنّه شديد الوثب، صلب العود، طاقة لا تقاوم، موج عارم متدفق على مسيرة التاريخ..العقل الجمعي يأتي متأخرا لكنه مغيّر للتاريخ، مربك للبنيات، هادر لا شيء يقهره..ومثل هذا العقل في حالة العطالة ينهش بعضه بعضا، يتدهور ويصبح عقلا مدمنا على الانحطاط..المشكلة ليست في العقل الفردي إلاّ حينما تنتابه نوبات من العقل الجمعي في حالة انحطاطه، لكن المشكلة تكمن هنا في استقالة العقل الجمعي عن مسؤوليته التاريخية..في مثل هذه الحالة يصبح الشعب في وضعية تسمح له بممارسة الجريمة ضدّ نفسه..شعب ينتحر..في غياب طليعة قادرة على تحرير الشعوب من الجهل..وهو ما لا يتحقق مع وجود نخب انتهازية..تستثمر في انحطاط الجمهور..أو نخب تستمد وعيها من انحطاط الجمهور..لا بدّ من التفريق بين الشعب والشعبوية..من يقف أمام القطيع البقري وهو في حالة هروب عبثي سينتهي تحت حوافر..
الحقيقة أكبر من الشعب..لأنّ الشعب شعوب وقبائل أيضا..الانتهازية الشعبوية قاتلة..هي قوة احتياط تايخية ضدّ نفسها..هي في حالة سرب البقر الهارب الجارف لنفسه ولضعفائه الذين إما يدوسهم تحت الحوافر وإمّا تبقى فريسة بين يدي الضباع..هل الرشد البشري يكمن في العقل الفردي أم في العقل الجمعي..العقل الجمعي في حالة انحطاطه مفسد للعمران البشري، مفسد حتى للثورة حين تصبح بتعبير نيتشه:مفخرة العبيد.. ليست مشكلة العقل الجمعي تكمن في لاوعيه الجارف، بل في جهله بالحقيقة واستهلاكه للزيف، ثمّة شيء مهمّ لا زالت الدراسات النفسية غير واعية به أيضا: إنّ اللاّوعي ليس جهلا بل هو ميكانيزم محايد..ليس معطيات غريزية غير قابلة للتغيير والتحديث بل لا تستقيم التربية إلا بأن تصبح تعاليمها جزء من مخزون اللاّوعي..إذن هي دعوة لتهذيب اللاّوعي بإعادة تأهيله تربويا..أي أن ثمة فرق بين أن ينعكس الجهل بلاوعي، وبين أن تنعكس الحقيقة بلا وعي..ومشكلة القطيع البشري هي الجهل وليس اللاّوعي الذي هو ميكانيزم من ميكانزيمات تحول الوعي إلى برنامج ومحفّز عملي..إنّ الحقيقة حين تبرح الوعي وتسكن اللاّوعي تصبح مقدّمة لتغيير التاريخ..إنّ النضج البشري هو حين يصبح اللاّوعي مأوى لما أنتجه الوعي..خزّان لمعطيات الوعي..متكامل مع الوعي..تكامل الوعي واللاّوعي في مقاومة الجهل.
إنّ المعركة الحاسمة في التّاريخ هي معركة الوعي..تقيس الأمم المتقدّمة إنجازاتها بمقدار وعيها..إنّ الهزيمة نفسها حينما يتلقّاها الوعي تعدّ انتصارا..انتصارا على جهلنا المسدد بقوة العوائد الزّائفة والبديهيات الخادعة..لا زالت قواعد فهمنا للأشياء ولغة تعبيرنا عنها تستمدّ مقوماتها وعناصرها من العقل الجمعي في حالة استقالته التي تسميّها الطليعة الساذجة بالمثال..فالمثال يقع أعلى لا أسفل حوافر القطيع..الاستقالة ليست استقلالا..والهروب من الواقع ليس تغييرا للواقع..لا زال الوعي مرتهنا لهذا الوهم وهو في حالة حصر عارم..لا زال القطيع يهرول نحو حتفه..ولا زال في كلّ نكبة من نكبات تساقطه يرسم لوحة قاتمة عن تراجيديا الوعي..


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/06/27



كتابة تعليق لموضوع : عن الشعب والشعبوية وتراجيديا الوعي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net