صفحة الكاتب : ادريس هاني

توفي برنار لويس ملهم الشرق الأوسط الجديد
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 قد يكون من عجيب الصدف إعلان وفاة المستشرق المخضرم برنار لويس قبل يومين في سياق الموت السريري لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي خرج من تحت جبّته..تسلط هذا الأخير على الدرس الاستشراقي في الجامعات البريطانية وأنتج أعمالا وفيرة تميل أحيانا إلى إرادة التحقيق وتارة إلى التعبير عن موقف مسبق أنتج الكثير من المواقف الحاقدة..لا أريد أن أقف عند قراءة أحد كبار تلامذته المؤرخ العربي سهيل زكار، فقد صدمتني روايته ردحا من الزمان لا سيما حين يتحدث عن زميله الذي التحق بالدراسة بلندن من أمريكا غير آبه بواجباته ليسرّ له بأن وجوده هناك ليس إلاّ لغرض أن يأخذ معه برنار لويس إلى أمريكا..وحصل ذلك بعد أعوام قليلة..حين يختلط البحث العلمي بأغراض ومخططات إمبريالية دقيقة..في سيرة برنار لويس مسألة أساسية إذا شئت فهم عدوّك: دور المثقف الأساسي الذي يسخر منه السياسيون في البلاد العربية وكأنّ السياسي هو الذي يصنع الخطط..نعم في البلاد العربية شأن المثقف كالسياسي على سطح من المعرفة التاريخية وعجز عن التقاط الفكرة من صلب هذه التعقيدات التي يحبل بها الواقع..وكم بالفعل يكون مقرفا حين يكون النّط بخبرة في التحقيق هزيلة على مسرح الغوغائية.. ربما وجد برجنسكي ذات مرة الجواب عن سؤاله هنا في مطلع الثمانينيات: كيف نستطيع إشعال حرب خليج ثانية فيما لو انتهت الحرب العراقية -الإيرانية؟ كان الجواب هو خريطة برنار لويس التفتيتية التي لا زال الكثير من مراهقي العرب لم يتأمّلوها مليّا وهم يقرؤون فقط قسمها المعني بالشرق لكن ماذا عن كرسي برنار لويس المتعلق بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا..الرّهان واحد..خريطة برنار لويس تبدو في الظاهر نقيضة لخريطة البغدادي، غير أنّ البغدادي ما أن يدخل منطقة حتى يثير حربا أهلية فتفتح أبواب التفتيت فتمسخ خلافته إلى خريطة برنار لويس..هذا هو محصّل الجغرافيا السياسية واللّعب على أعصاب حدود الصدع كما سماها هنتنغتون..سعى برنار لويس لكي يستنبت من داخل الإسلام السني مثالا لمتخيل الحشاشين غايته تحويل المنطقة إلى دول طوائف ومماليك..برنار لويس العارف جيدا بتفاصيل الشّرق استعمل وهو موظف في البيت الأبيض برتبة مستشار كثيرا من المخيال بدل التاريخ الذي انحدر منه في بداية الأمر..أذكر حين التقيته ذات مرّة وأهديته كتابي: ما بعد الرشدية، فأبدى تعجبا من الكتاب، وسيزداد ذلك التعجب حين قرأ العنوان الشارح: ملاصدرا رائد الحكمة المتعالية..مبدئيا ليس لديه مشكلة مع العمق الحضاري الفارسي، لكنه يكره إيران المعاصرة التي يعتبرها خطرا على مشروعه الأثير: الشرق الأوسط..تحسبه في هذه الكراهية مخرج فيلم ال 500 اسبرطي..تتثيرني مفارقة أخرى..حين كان العرب إبان مشروع نهضتهم كان ارنست رينان متولّعا بفارس ضد العرب، واليوم مستشرقنا برنار لويس يريد تخليص العرب من قبضة فارس..لكن عرب مفرومين كالبصل في طاحونة العم سام برسم شرق أوسط جديد لوّحت مراسيمه في محاولة إعادة تأثيث تاريخ الاحتلال برؤية تستحضر أمجاد بني قينقاع..ولأن برنار لويس يحب ان يقارب التاريخ من زاويته الدراماتيكية وليس السياسية المشحونة بغواية الحقوق فهو يحرض على إلحاق أكبر القسوة والفتك وحتى الإبادة بالفلسطينيين والعرب..حين وضعت في جيبه كتابي: ما بعد الرشدية، وحصل ذلك بعد أن سمعت الكثير عنه من خلال ما رواه لي قبل سنوات تلميذه سهيل زكار، فذلك لكي أجعله يتذكر ثلاثة أمور:
- أولا، بأن الفلسفة في ديار العرب والإسلام لم تقف وقفتها الرينانية مع ابن رشد بل واصلت معاقرة العقل المستقلّ طيلة العصر الوسيط وكانت لحظتها الفلسفية الأخيرة متقدّمة على الغرب الحديث من حيث اللحظة الأخير في الفلسفة الإسلامية هي: الصدرائية بينما بدايتها في الحداثة هي ديكارتية..وعليه، فإنّ الصدرائية انتظرت قرونا لتستعيد مفهوميتها في اللحظة الهيدغيرية..وكأنه لو قدّر أن تكون الفلسفة في ديارنا حصيلة تطوّر تاريخي عام وليس نبوغا فرديا لكان تدشين الحداثة في ديارنا مبتدؤه الثورة على نسيان الوجود..هيدغيرية وليست ديكارتية..
-ثانيا: أصالة الوجود هنا تحبل بمعاني أنطولوجية عارمة أهمها مقتضى من مقتضيات حقيقتها السياسية هو أنّ الوجود أصيل وليس الماهية التي قد تبدو حالة مزيفة، كزيف التاريخ الذي يجهز على أصالة الوجود بماهية تاريخية تفرض نفسها بزيف الإحتلال..إن وهم أصالة الماهية سرّ الاضطراب في منطقة لن يخفي شرق أوسطها الجديد حقيقة أصالة وجود ذلك الفلسطيني الذي أدرك شميم الأرض وحمل معه مفاتيح العودة وهو على موعد مع زمن الانتصارات..
-ثالثا: أن الحركة الجوهرية التي قضمت كسابقتها الثنائية الثنوية الديكارتية، هي الفعل المتجدد للحقيقة والنفس ، وأنها مصدر ماهياته المتكاثرة..وبأنّ الحركة الجوهرية ترفض الثبات وتكفر بالماهيات المغشوشة وتجعل التاريخ لا نهاية له..
وفاة برنار لويس يشير هنا إلى أنّ مشروع الشرق الأوسط الجديد بات لا أب له..وهذا أمر بالغ الأهمية لأنّ مشاريع الإمبريالية يقف وراءها المثقف والمحقق والمؤرّخ..وهؤلاء يستضعفهم السياسوي في منطقتنا..مشاريعنا تنبت كالسانديان البرّي في تربة السياسوية..فرق هنا بين السياسة والسياسوية: الأولى علم حيث لا مجال لتحويل الفكرة إلى برنامج من دون سياسة - هنا السياسة علم بأصول وقواعد - الثانية مجرد حرفة أو معاقرة فوضوية للحقيقة تورث التسطيح والضرر..مات برنار لويس وترك خلفه جيشا من المستشرقين: بعضهم سيحمل حقده ويواصل موقف العنصرية والبعض الآخر يمتح من مصادر مختلفة في مقروئياتهم ومتخيّلهم..كل ما خلصت له أنّ صقرين أحدهما في الدراسات التاريخية وآخر في الاستراتيجيا حينما التقيا أنتجا خططا شرق أوسطية أزهقت أرواحا ودكّت كيانات: برنار لةيس وبرجنسكي، الأول دعا لسحق العرب والفلسطينيين والثاني كان على خلاف مع منافسه سيروس فانس متحمس لشنّ حرب على إيران غداة الثورة ..أمريكا وإسرائيل فقدتا الأب الروحي لمشروعهما..لقد مرّ هنتنغتون مرور الكرام وبفضولية ليجد متنفّسا باراديغميا في الفكرة الجوهرية عند برنار لويس: صدام الحضارات..لعله فهم منها تشخيصا لواقع وليس فعلا لما يجب أن يكون..برنار لويس كان له في المعرفة مذهبان: مذهب الموضوعية ومجاله الفهم، ومذهب الذذاتية ومجاله العمل..لقد حوّل خبرته إلى مشروع جيوستراتيجي أنتج حروبا في المنطقة سيذكرها التّاريخ يوما بوصفها حروبا برعاية مستشرق عاصر محطّات كثيرة من تاريخ الصراغ بين الشرق والغرب..ولكنه مات وفي نفسه شيء من حتّى بسبب القلق حيال ما آل إليه مشروع الشرق الأوسط الجديد بإخراجاته المتعددة..وداعا برنار لويس..وداعا أيها الشرق الأوسط الجديد..
ادريس هاني: 22/5/2018


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/05/22



كتابة تعليق لموضوع : توفي برنار لويس ملهم الشرق الأوسط الجديد
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net