صفحة الكاتب : حيدر الحد راوي

تأملات في النهضة الحسينية ح1
حيدر الحد راوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
واقعة الطف مليئة بالدروس والعبر , حديقة زاهية من حدائق المعرفة , لم تكن حربا بمعنى الحرب المتعارف عليها , حيث قد انعدم التكافؤ , فشتان بين جيش آل امية وجيش الحسين (ع) , بل شتان بين شخصية الحسين (ع) وشخوص آل امية .
واقعة الطف كانت شجرة غرسها الحسين (ع) في كربلاء , سقاها بدم منحره الشريف ,  لتنمو , و تتفرع , فتمتد اغصانها الى كل بقعة من بقاع المعمورة , وتتفتح براعمها في كل زمان ومكان , فكانت مدرسة , واي مدرسة ! , المعلم فيها الحسين (ع) , والمعلمة زينب بنت علي (ع) , وتلاميذها ذلك الجمع الطيب من اصحاب الحسين (ع) .    
خلال نظرة تأملية شمولية للواقعة , نلمس فيها نواحي كثيرة , ومواضيع قيمة , وارضية خصبة للتفكر والتمعن , للاستلهام والتفكر , ومن ابرزها : 
                                                   
                                                    1 – العطش 
غول العطش القى بنفسه , بكل طاقته وقواه , على معسكر الحسين (ع) , لعله يثني تلك الارادة الصلبة , او يهزم ذلك المعسكر . 
ذلك النوع من العطش لا يمكن ان تصفه الاقلام , بل يدرك بالتجربة , وقد جاء شهر رمضان المبارك في ايام الحرّ الشديد , فقصد الكثيرون الطبيب , بحثا عن اعذار شرعية , وشرع اخرون بالسفر الى خارج البلد , فيصومون هناك , ولم يصم اخرون . 
كأن الايمان رهن بالمناخ , اذا كان الجو معتدلا صمنا , وان لم يكن بحثنا عن مضامين اخرى , الجدير بالذكر , ان هناك من لم يكتف بصيام شهر رمضان المبارك , بل صام شهري رجب وشعبان , هؤلاء اندر من الكبريت الاحمر . 
حرارة الجو , واشعة الشمس الحارقة , وشدة الظمأ , لم تهزم معسكر الحسين (ع) , ولم تزلزل اقدامهم , بل زادتهم ايمانا وتماسكا .
مما يروى في شدة العطش والحر, ان الاطفال كانوا يحفرون الارض , حتى اذا ما لاح لهم الجزء الرطب , كشفوا صدورهم , واستلقوا عليه . 
سيكتشف المتامل , ان هناك سرا بين الحسين (ع) والعطش , قد لا يدركه , لكنه يجد اثاره , فعندما يشعر بالعطش , ما عليه الا ان يذكر الحسين (ع) , فيزول عنه ما يشعر به , وكأنه قد ارتوى من ماء معين , (( من رأى مصائب الناس هانت عليه مصيبته )) , فكيف بمصاب ابن بنت رسول الله (ص) ! . 
هناك ثلاثية جديرة بالملاحظة , فلنسمها ثلاثية الطف , (الحسين (ع) – الماء – العطش ) , فيها اسرار مكنونة , وامور غامضة , للتوضيح اكثر : 
الحسين (ع) = بشر ( انسان بكل ما للكلمة من معنى ) 
الماء = مادة ( الطبائع الاربعة (( النار – التراب – الهواء – الماء )) ) . 
العطش =  هو شعور فيزيولوجي ينبه الكائن الحي من إنسان أو حيوان إلى أنه بحاجة إلى ماء   
              , لما للماء من اهمية في استمرار الحياة . 
كما ان : 
الحسين (ع) – العطش = متضادان . 
الحسين (ع) – الماء = متفقان 
الماء – العطش = متضادان 
لو تأملنا اكثر , لأكتشفنا المزيد , لكن خشية الاطالة , اقف عند هذا الحد . 
يبدو ان العباس (ع) ادرك او تذكر سر هذه الثلاثية فرمى الماء , بعد ان كان قد اغترف غرفة ليشرب ! . 
(( يجب ان يموت الحسين (ع) واخوته واولاده وتلاميذه عطاشا , كي يرووا الاجيال القادمة , من فيض دماء مدرسته , مدرسة ( حسين مني , وانا من حسين ) )) 
 
                                            2- العشق 
افضل ما ورد على لسان الحسين (ع) في تلك الواقعة : 
تركت الخلق طرا في هواك أيتمت العيال لكي أراك 
فلو قطعتني في الحب إربا لما مال الفؤاد إلى سواك 
فخذ ما شئت يا مولاي مني أنا القربان وجهني نداك 
أتيتك يا إلهي عند وعدي منيبا علني أحظى رضاك 
أنا المشتاق للقيا فخذني وهل لي منية إلا لقاك 
أقدم كل ما عندي فداء و مالي رغبة إلافداك 
سلكت الكرب و الأهوال دربا و جئت ملبيا أخطو خطاك 
وطلقت الحياة بساكنيها وعفت الأهل ملتمسا قراك 
تعهدت الوفاء بكل دين ودينك يوم عاشورا أتاك 
فهذي أخوتي صرعى ضحايا و أولادي قرابين هناك 
وهذا طفلي الظامي ذبيحا فهل وفيت ياربي علاك؟ 
وهذي نسوتي حسرى سبايا تحملت البلايا من عداك 
يموت أحبتي و جميع قومي و يبقى الدين يرفل في هداك
هذا نهج العاشقين , الذين لا هم لهم سوى التقرب زلفى لمعشوقهم , الحسين (ع) كان افضل من يجسد نهج العاشق الثائر , الذي ضحى بنفسه وبنيه واخوته واصحابه واهل بيته وكل ما يملك , من اجل معشوقه ( الباري عز وجل ) , فبلغ بتضحياته اسمى الدرجات ! . 
شخص كالحسين (ع) اهل ان يعشق , فيجن في عشقه عابس واخرون , فقد تعلم عابس منه (ع) دروسا في العشق الالهي , وقد أعتراه الجنون , فحمل على القوم , خالعا ثيابه , غير مباليا بسيوفهم وحرابهم والرماح , ( ماذا اصابك يا عابس ؟! )) , قال لهم ( حب الحسين (ع) اجنني ) , فألقى بنفسه في تلك المعرة , التي لا يعود سالكها , فقد الشعور بألم الجراح , حتى وقع ارضا , وفارق الحياة , بعد ان اذاقهم ويلات صارمه . 
يجن الناس , فيفلقون هاماتهم بالقامات , ( ياليتنا كنا معكم سيدي , فنفوز فوزا عظيما ) , صرخة مدوية , تعلن استعدادهم لمقارعة جيوش آل امية في كل زمان ومكان , ( حيدر , حيدر ) , اسم يخشاه اعداء الاسلام و تلك الجيوش , فيتهمونهم بالجاهلية , كي يتفرقون , وتذهب ريحهم , هيهات ! , (إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا")ـ مستدرك الوسائل - ج 10 - ص 318 . 
ليس الشيعة وحدهم من عشق الحسين (ع) , بل ان هناك الكثير ممن عرفه (ع) فهام بحبه , ومنهم في زمانه (ع) , كوهب النصراني الذي استشهد معه , وكذلك عبدالله النصراني الذي لم يلحق بركب الحسين (ع) . 
وهام اخرون بحبه (ع) منذ ذلك الحين والى هذه اللحظة , رغم اختلاف مللهم ونحلهم . 
رغم كثرة الشيعة في العالم , ليسوا جميعا ( حسينيون ) , بل يطلق لقب ( الحسيني ) على كل من ارتشف من كأس عشق الحسين (ع) , ونال شرف خدمته , بغض النظر عن اختلاف مللهم ونحلهم , فالحسين (ع) لكل البشرية , وملحمة الطف ملحمة لكل الانسانية .
ان لكأس عشق الحسين (ع) وعشقه (ع) لله عز وجل , اسرار عجيبة , وحالات غريبة , لقد قال الفلاسفة والمناطقة ( المتناقضان لا يجتمعان ) , وقد اجتمع حب الحسين (ع) في قلوب الخمارين والمجرمين , بالرغم من التناقض في توجهاتهم , الا ان حبه (ع) موجود في دواخل قلوبهم , ولقد كان احد اصحاب المختار الثقفي , مولعا بالخمر , وفي نفس الوقت كان عاشقا للحسين (ع) , وقد ابدا المختار تعجبه , من امكانية ان يوجد في قلب محبا للخمر حبا وعشقا الحسين (ع) ! .
فيعود الفلاسفة والمناطقة , ويعيدوا النظر في قاعدتهم تلك , ( المتناقضان لا يجتمعان ) , ويضيفوا اليها , ( المتناقضان لا يجتمعان , قد يرتفعان او لا يرتفعان ) , مثلا ( جميل وقبيح ) , متضادان , لا يجتمعان وقد يرتفعان , او كمبصر واعمى , تقابل بين حد وضده , لا يجتمعان وقد يرتفعان ,  فوجود حب الخمر في قلب رجل , مع وجود حبا او عشقا للحسين (ع) متناقضان لا يجتمعان , لكنهما يرتفعان !! . 
عجيب امر هذا العشق , غريبة هي اطواره , وتروى في ذلك الكثير من الروايات الطريفة , لسنا في مجال سردها ها هنا .    
 
 
 
 
                                       3- مثلث الاخوة المثالية 
تجسدت في الطف كل معاني الاخلاق الحميدة , والقيم الرفيعة , ما لا يمكن احتوائه في سطور , او وصفه بكلمات , ومن تلك القيم , قيم الاخوة , اخوة ثلاثية عجيبة , الحسين والعباس وزينب (ع) .  
الحسين (ع) = الامام . 
العباس (ع) = القائد العام . 
زينب (ع) = وزيرة الاعلام والثقافة الحسينية .
لم يخاطب العباس (ع) اخيه الحسين (ع) , بأخي مثلا , بل كان يناديه بــ ( سيدي – يا ابا عبدالله ) , حسب ما تقتضيه القيادة العسكرية , او حسب نوع اللقاء بينهما , بينما زينب كانت تناديهما (ع) بــ ( اخا – أخي – ابن امي ... الخ ) , كونها كانت تمثل الادارة المدنية , ولم ينادي احدهم باسم الاخر من غير لقب ( السيد – الامام – الاخ – العضيد – الكفيل - الحادي ... الخ ) . 
عندما يصل العباس (ع) الى النهر , بعد ثلاثة ايام من العطش , في ذلك الجو الملتهب بنار اشعة الشمس , و نار الاعداء , فيمتنع عن الشرب , قبل اخيه الحسين (ع) , واخته الحوراء زينب (ع) وقبل الاطفال والنساء في المخيم , فيملئ جوده , ويحمل الماء اليهم , لكن الجود تناله سهام الاعداء , ويسقط  (ع) بعد نزال عنيف , ومراس شديد . 
يصل الحسين (ع) حيث وقع العباس (ع) , فيحاول حمله الى المخيم  لكن العباس (ع) يرفض , ويطلب من اخيه ان يبقيه في هذا المكان , لانه لا يريد ان تراه اخته زينب (ع) والعيال بهذا الحال , بعد ان وعدهم أن يجلب لهم الماء , ويروي ظمأهم . 
عادة ما يسارع المريض او الجريح الى بيته , حيث اسرته , وغالبا ما يطلب من شارف على الموت , رؤية اهله والاعزاء عليه قبل ان يفارق الحياة ويفارقهم , لكنه (ع) فضل البقاء , وعدم الذهاب , لخجله من عدم الايفاء بالوعد , فاصبح العباس (ع)  مثال الاخوة , وقدوة الاخاء , لقد أدى العباس (ع)  حقوق وواجباته تجاه اخوته , بأفضل ما يكون . 
أما زينب (ع) , فقد ادت واجباتها تجاه اخوتها بأبهى صورة , من خلال دورها في الاعلام , ونشر القضية الحسينية , فلولا دورها (ع) , لماتت قضية الحسين (ع) , ولذهبت تلك الدماء هدرا . 
لقد كان لترابط وتماسك اضلاع هذا المثلث دور مميز , في حسم المعركة لصالح معسكر الحسين (ع) , رغم عدم التكافؤ , ورغم انتهاء المعركة لصالح الجيش المعادي ظاهريا ! .   

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حيدر الحد راوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/12/07



كتابة تعليق لموضوع : تأملات في النهضة الحسينية ح1
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 2)


• (1) - كتب : حيدر الحدراوي ، في 2011/12/09 .

استاذي الطيب البراك
هذا افضل دعاء قد من طيب واخ واستاذ , لاخيه , وهذا ما ارجوه منكم سيدي الفاضل

• (2) - كتب : مهند البراك ، في 2011/12/08 .

الاستاذ حيدر الحدراوي

اعظم الله لكم الاجر سيدي الكريم
جزاكم عن امامكم الحسين عليه السلام افضل الجزاء وحشركم مع محمد وآل محمد




حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net