صفحة الكاتب : مصطفى الهادي

المائدة بين التوراة والإنجيل والقرآن. 
مصطفى الهادي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 (قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء...).

شراب الجنة وطعامها ، طعامٌ كوّثري غير آسن لا يُقاس به اي طعام او شراب في الدنيا. فكل مياه الدنيا وطعامها ولذائذها ما هي إلا ظلٌ لطعام الجنة وكما نعلم فإن الظلَ وإن حملَ بعض مواصفاة الشيء إلا أنه لا يُمثل الحقيقة. وكم من ظلٍ خادع اوقع الناس في وهمه فأردتهم الشهوات بسببه. من هذا نستدل على الفرق بين مائدة الله وطعامه المذكورة في القرآن وبين موائد التوراة والإنجيل.

والله انا في حيرة من امري ، كيف يقبل اليهود بكتابٍ يُهين الله وينسب إليه العجز. وكيف يقبل المسيحييون بكتاب يُهين نبيهم وحوارييه كتاب لا يُعرف له اصل ولا يُعرف من كتبه او ترجمه كتابٌ يُكيل التهم والشتائم والشبهات لنبيهم وصفوته من الحواريين ثم يقرأون في القرآن اروع آيات التقريض والثناء والمديح لهذا النبي وأمه وحوارييه فيعرضون عنه.

قصة المائدة وردت في ثلاث كتب سماوية (التوارة والانجيل والقرآن) . في التوراة مائدة سيناء المؤسسة لعيد الجلاء، والإنجيل مائدة السيد المسيح المؤسسة لعيد الشكر ، ومائدة القرآن التي صححت الاخطاء المدسوسة في كل من رواية التوراة والإنجيل.

اما التوراة فقد اعتبرت الطعام النازل من السماء على مائدة الأرض إنما حصل نتيجة لطلب اليهود لذلك ، فكما هو معروف أن اليهود لهم عقلية مادية بحته لا يؤمنون إلا بالشيء الملموس ولذلك طلبوا (رؤية الله جهرة) بأن يأتيهم ويُكلمهم ، ولما لم يحصلوا على مرادهم ، حاولوا اختبار طريقة جديدة كدليل على وجوده هل هو قادر ان يُنزل عليهم طعام من السماء في هذا الصحراء القاحلة فيُشبع بطونهم، فكان طلبهم ليس من جوع إنما من شهوتهم وكفرهم بالله وعدم إيمانهم به لانه لم يروه، ولهم في ذلك سوابق كثيرة منها طلبهم من موسى أن يروا الله فيُكلمونه ويُكلمهم : (قالوا ارنا الله جهرة). ولما لم يروه عبدوا العجل كإله ماثل بين أيديهم. 
يقول في سفر المزامير عن مائدة اليهود : (وجربوا الله في قلوبهم، بسؤالهم طعاما لشهوتهم. فوقعوا في الله. قالوا: هل يقدر الله أن يرتب مائدة في البرية؟ هل يقدر أن يعطي خبزا، أو يهيئ لحما لشعبه؟. سمع الرب فغضب لأنهم لم يؤمنوا بالله. فأمر السحاب من فوق، وفتح مصاريع السماوات. وأمطر عليهم منّا للأكل، وبر السماء أعطاهم. وأمطر عليهم لحما مثل التراب وأسقطها في وسط محلتهم حوالي مساكنهم. فأكلوا وشبعوا جدا). (1)

الحالات الثلاث التي مرّ بها اليهود والتي تحكي ماديتهم، ذكرها القرآن مثل طلبهم لمائدة الصحراء وطعامها فقال تعالى : (وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم). (2) وطلبهم رؤية الله : (قالوا ارنا الله جهرة) ، وعبادتهم العجل.

أما مائدة الإنجيل فقد اختلفت الأناجيل في كيفية عمل المائدة ففي قول قالوا بأن المائدة التي أكل منها السيد المسيح وحوارييه لم تنزل من السماء بل ان التلاميذ طلبوا ان يعدوها للمسيح بقولهم : (أين نعد لك مائدة الفصح). وفي قول ان السيد المسيح هو من أمرهم باعدادها وليس هم : (قال لهم أين نأكل الفصح اذهبوا وأعدوا الفصح). وفي قول أن صاحب أحد البيوت الذي استضافهم هو من هيأ لهم المكان وأعد المائدة . وفي قول أن الذي اشترى الطعام هم التلاميذ حيث قاموا بشراء كسرات من الخبز اليابس وبعض الخمر فقط كما يرى المسيحييون ذلك . (3)

ولكننا نستخلص من هذه الأقوال أن السيد المسيح لم تنزل عليه مائدة من السماء ولم يتخذ ذلك عيدا بل أنه تبنى أعياد اليهود (عيد الفصح ، وعيد المظال). واحتفل بهما حاله حال بقية الشعب اليهودي ولم يأت بشيء جديد حسب زعم الإناجيل. وأغلب الظن أن اليهود هم من قاموا بتحريف ذلك لكي لا يتميز عنهم السيد المسيح بعيدٍ خاص به وبدينه ، ولكي يقولوا فيما بعد أنه لا فرق بين ما جاء به المسيح واليهودية لأنه يحتفل بأعيادها وأنه تبنى تعاليمها.(4) ولذلك نرى القرآن ذكر شيئا مهما في قصة هذه المائدة وهي أن التلاميذ لمّا اعتنقوا الدين الجديد لم يكن لهم عيد مثل اليهود فرسالة السيد المسيح في بدايتها، فطلبوا من السيد المسيح ان يُنزل الله لهم عيدا خاصا بهم كمسيحيين يتميزون به عن اليهود، فطلبوا من السيد المسيح عليه السلام ان يطلب من الله أن يُنزل عليهم مائدة يأكلون منها كبداية ليوم جديد وعيد جديد لا يُقلدون فيه اليهود. وبما أن الله استجاب لهم وتزامن ذلك مع عيد الفصح اليهودي ــ كما تقدم ــ فقد اختلط لربما على من كتب هذه الأناجيل أو بتدبير مقصود من اليهود فتصور أن السيد المسيح إنما احتفل بالعيد اليهودي ، فكتب بأن السيد المسيح طلب من تلاميذه ان يعدوا له طعام العيد اليهودي ليحتفل به ، في حين أننا نقرأ في نفس الإنجيل أن السيد المسيح رفض رفضا قاطعا أن يحتفل بأعياد اليهود عندما طلب منه تلاميذه ان يصعد للعيد فقال : (أنا لست أصعد بعدُ إلى هذا العيد). (5)

أما قصة مائدة المسيح فقد ذكرها فقط ثلاثة من كتبة الأناجيل هما مرقس و لوقا ومتى . ولذلك حصل اختلاف بينهما بشكل يُدخل الريب على القارئ ولكننا نرى يوحنا لم يورد هذه القصة فقد انكرها من الاساس إما لأنه لم يكن يعرف بقصة هذه المائدة . أو انه رأى ان هذا العيد من أعياد اليهود فلم يذكره في إنجيله. 
مع هذا التضارب في قصة المائدة في الأناجيل الذي نستخلص من خلاله بأن هذه المائدة وهذا العيد هو من مبتدعاتهم احتفالا بعيد الفصح اليهودي وليس عيد المائدة الذي يذكره القرآن. يقول مرقص : (وفي اليوم الأول حين كانوا يذبحون الفصح، قال له تلاميذه: أين تريد أن نمضي ونعد لتأكل الفصح؟ فأرسل اثنين من تلاميذه وقال لهما: اذهبا إلى المدينة، فخرج تلميذاه وأتيا إلى المدينة، فأعدا الفصح. ولما كان المساء جاء ــ المسيح ــ مع الاثني عشر. وفيما هم يأكلون، أخذ يسوع خبزا وبارك وكسر، وأعطاهم ثم أخذ الكأس وشكر وأعطاهم، فشربوا منها كلهم). (6)

من هذه القصة نعرف أن المائدة من صنع بشري وليس فيها ما يُميزها عن اي موائد أخرى يتم أعدادها في الأعياد وهي اقتباس من أعياد اليهودية . ولكن تعالوا لنقرأ في القرآن قصة هذه المائدة وماذا أعد الله للسيد المسيح وتلاميذه؟ 
قال تعالى حاكيا عن الحواريين : (قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء... قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين.(7) الشيء المهم في هذه الآيات أنها تُبين أمرا مهما وهو أن السيد المسيح طلب أن يكون نزول المائدة سببا لنزل عيد يحتفل به المسيحيون بدلا من أعياد اليهود حيث يكون هذا العيد خاصا بالمسيحية دينه الجديد. واعتقد أن السيد المسيح اطلق على هذا العيد اسم (عيد الشكر).وذلك لقوله : (ثم اخذ الكأس وشكر). اي ختم المائدة بالشكر ولكننا مع الأسف الشديد نرى المسيحية بكافة مذاهبها تحتفل بعيد الفصح اليهودي ، واضاعت عيد الشكر. اضافة إلى ملاحظة مهمة جدا وهي أن الله ختم الآية بقوله : (قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم). وهذا اخبار منه تعالى بأنهم كفروا بعد نزول المائدة فرجعوا يحتفلون بأعياد اليهود التي نراها حتى اليوم مسطورة في إنجيلهم.

أما كيفية نزل المائدة فقد اجمعت الروايات على اختلافها أن المائدة نزلت من السماء حيث اقبلت الملائكة يحملونها ويحفّون بها. وذكرت الروايات أيضا انه كان فيها مختلف انواع الاطعمة التي يحلم انسان ذلك الزمان أن يأكل منها : (كان فيها سمكا طعمه طعم جميع انواع الأطعمة . وكان فيها من فاكهة الجنة ما يخلب الأبصار، وفيها لحم وخبز من كل الأنواع وفيها رز وبقل ــ خضروات ــ وسمن وعسل وزيتون وخلّ وجبن ، وشمّ منها الحواريون ريحا لم يشمّوا اطيب منها في الدنيا. وأمام هذا المشهد الرائع المثير قال الحواريون يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال : ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة، ولكنه شيء افتعله الله تعالى بالقدرة الغالبة). (8) وقد جاء في الروايات (لم يأكل منها زمن ولا مريض ولا مبتلى إلا عوفي ولا فقير إلا استغنى ، وندم من لم يأكل منها).(9)

هكذا يتم انصاف الحقيقة وهكذا سوف يُحاسب الله كل أمة بكتابها: (وترى كل أمةٍ جاثيةً كل أمةٍ تُدعى إلى كتابها اليوم تُجزون ما كنتم تعملون).(10)

بعد هذا المقال الصغير ألم يأن للذين يتبعون هذه التي يسمونها توراة أو أناجيل التي تنتقص من قدر السيد المسيح وحوارييه أما آن لهم أن يثوبوا إلى رشدهم وينظروا أي الكتابين انصف وأكرم نبيهم فيتّبعوه؟ 
بسم الله الرحمن الرحيم (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ). (11)

المصادر: 
1- سفر المزامير 78: 19.
2- سورة البقرة آية : 57.
3- وقد جرت محاولة مماثلة في بداية الإسلام حيث حاول خط النفاق بالتعاون مع اليهود في المدينة الاحتفال بعيد يوم عاشوراء تحت ذريعة أن الله انجى موسى من فرعون ، ثم زعموا أن النبي محمد (ص) احتفل بهذا العيد وقال : (أنا أحق بموسى منهم). انظر صحيح البخاري . 
4- هكذا يقولون هم من أن في الكأس خمر بينما لم يأتي ذكر الخمر في الإنجيل كل ما قاله السيد المسيح (ع) لهم : اشربوا. ولكن حسب قول تلميذيّ عمواس في تفسيرهم ( حينما كسر الرب الخبز أمامهما إنفتحت أعينهما والمعنى أنهم ونحن لن نعود نرى المسيح على الأرض بهيئة جسمية بل فى صورة خبز وخمر) فتصورا أن في الكأس خمرا.
5- إنجيل يوحنا 7 : 9.
6- إنجيل مرقس 14: 12-23.
7- سورة المائدة آية : 112.
8- 9- تفسير البغوي ، طبع دار طيبة، تفسير سورة المائدة. 
10- سورة الجاثية آية : 28. 
11- سورة الأعراف آية : 157.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


مصطفى الهادي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/11/05



كتابة تعليق لموضوع : المائدة بين التوراة والإنجيل والقرآن. 
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net