صفحة الكاتب : صدى النجف

نقد نظرية التطور – الحلقة 8 – مناقشة الشواهد الاستنباطية على التطور : آية الله السيد محمد باقر السيستاني
صدى النجف

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

الشواهد الاستنباطيّة على التطوّر

البحث الثالث حول التطوّر:  في الشواهد الاستنباطيّة غير المباشرةعلى هذه النظريّة .

وينبغي الانتباه أوّلاً إلى أمور أربعة:

ضرورة التثبّت في شأن الأدلّة الاستنباطيّة

الأمر الأوّل: إنّ من الضروريّ بذل مزيد من التثبّت والتحوّط في شأن هذه الشواهد من المنطلق العلميّ ، وذلك بالنظر إلى أنّها ليست إثباتاً للنظريّة بالتجربة والاستقراء - والتي هي الأداة الأكثر وثوقاً نوعاً في العلوم الطبيعيّة - ولا على علاقة عقليّة بديهيّة؛ بل تعتمد على علائق ذهنيّة مستنبطة، فالأمور التجريبيّة من جهة توفّر أداة التحقّق المباشر بالنسبة إليها تكون بعيدا عن ميول هذا العالم أو ذاك. ولكن الأمور غير التجريبيّة تحتاج إلى مزيد من التحقّق للابتعاد عن مثل هذه الميول وسلامة الاستنباط، وهو أمر معروف في علم النفس الإدراكيّ.

الميول النفسيّة المساهمة في تنمية دلالة الشواهد الاستنباطيّة

ومن أهمّ الميول التي تساعد على تنمية دلالة الشواهد الاستنباطيّة عن حدّها ومستواها خمسة ميول نذكرها بإيجاز فيما يلي:

  1.  الميل النوعيّ إلى التفسير؛ بمعنى أنّ من طبيعة الإنسان أنّه يميل إلى تفسير كلّ شيء يجده ويفضّل ذلك على أن يؤمن بأنّ شيئاً ما غامض لا يجد له تفسيراً مناسباً، وهذا ميل ملحوظ لأهل العلم في العلوم المختلفة، وهو يؤدّي إلى تنمية التفاسير المتيسّرة بأكثر من حجمها الموضوعيّ، وهو من الآفات الإدراكيّة الشائعة، ونظريّة التطوّر تطابق هذا الميل العامّ من جهة أنّها تفسّر ظاهرة تعدّد أشكال الحياة تفسيراً مفهوماً.
  2. الميل النوعيّ إلى التفسير الطبيعيّ للأشياء، فالإنسان يفضّل التفسير الطبيعيّ والمفهوم للأشياء على أن يفترض لها تفسيراً غير طبيعيّ.

لقد لوحظ في العلوم المعاصرة في كلمات فريق من أهل العلم السعي الحثيث إلى التجنّب عن أيّة نظريّة تقتضي دلالة الأشياء على وجود أمور روحانيّة، كما في إصرار فريق على نظريّة (الحالة الثابتة) في وجود الكون وأزليّة السماوات والأرض حتّى رَجُحت في العصر الأخير نظريّة حدوثها بالانفجار الكبير.

وكذلك أصرّ فريق على نظريّة مادّيّة الإدراكات والأخلاق وكونها تفاعلات كيميائيّة وفيزيائيّة محضة، حتّى رَجُحت كفَّة كونها ذات بُعد روحيّ.

ونجد مثل ذلك في موضوع التطوّر، حيث نلاحظ مكرَّراً ما يشير أو يُشعر بتكييف الحالات المستقرأة على وجه تصلح شواهد واضحة على التطوّر ابتعاداً عن فكرة الخلق في حين أنّ من غير الواضح أن تبلغ كذلك، حتّى قال بعض أهل العلم وهو إلدردج (Eldridge) من علماء الحفريّات (1) : (نحن علماء الحفريّات قلنا إنّ تاريخ الحياة يؤيّد قصّة التغيّر التكيّفيّ التدريجيّ رغم إنّنا كنّا نعرف دائماً أنّه لا يؤيّدها فلماذا؟ ما السبب الذي يبرّر لأعضاء مجتمع أكاديميّ كتمان الحقيقة التي يعرفونها، إلّا إذا كانت تؤيّد منظوراً فلسفيّاً قرّروا من الأصل أن يرفضوه) .

ونحن لا نريد أن نطرح تعمّد أهل العلم في الابتعاد عن فكرة الخلق؛ وإنّما نريد أن نشير إلى إمكان تأثير الرغبة في تفسير طبيعيّ شامل للحياة والكون على تكييف الشواهد ومستوى دلالتها بما يلائم نظريّة التطوّر.

  1.  الميل إلى توحيد الأصل في الظواهر المشهودة، وهذا الميل يوجب محاولة الإنسان إرجاع أكبر حجم من الظواهر المشهودة إلى أساس واحد يكون أكثر جذباً لنظره؛ ومن ثَمّ يميل إلى تقديم فرضيّة الحلّ الواحد على الحلول المتعدّدة، وإلى تقديم فرضيّة السبب الواحد للمشكلة إلى الأسباب المتعدّدة، وهو أمر ملحوظ أيضاً في العلوم المختلفة لاسيّما العلوم الإنسانيّة.

فهذا الميل أيضاً عامل مساعد على إرجاع وجود كلّ أشكال الكائنات الحيّة إلى عامل واحد وهو التطوّر لتكون ظاهرة الحياة كلّها ذات منشأ وحدانيّ وتنوّع أشكالها على وجد واحد، كما نجد رجوع تنوّع الأصناف داخل الأنواع إلى أساس واحد.

  1. الميل النفسيّ إلى إرجاع الأمثال والأشباه والنظائر إلى منشأ واحد، فيكون ذلك نحو تفسير للتماثل أو التشابه بينها، بينما لو كانت ذا مناشئ متعدّدة احتيج إلى جهد إضافيّ في كشف منشأ آخر كما يرد سؤال آخر عن تفسير إنتاج مناشئ متعدّدة نتيجة مماثلة ومشابهة.

وهذا الميل أيضاً يساعد على البناء على رجوع جميع الكائنات الحيّة إلى منشأ واحد من جهة تشابهها في نظام الحياة وآثارها، وكلّما اكتُشفت درجة أكبر من التشابه تزايد الميل إلى إرجاعها إلى أصل واحد.

  1. الميل النفسيّ الناشئ عن نوع من ردّ الفعل في أثر خطأ الاعتقاد تجاه شيء معيَّن أو انكشاف تأثير عامل غير متوقَّع في توليد حالة معيَّنة، حيث إنّ هذا النوع من ردّ الفعل يقضي بسقوط الثقة بمثل ذلك الاعتقاد في نظائره، وتوقّع تأثير ذلك العامل في توليد حالات أخرى وإن كانت أعمق من الحالة المنظورة.

وينطبق هذا العامل أيضاً في شأن نظريّة التطوّر، فقد اكتشف العلماء تأثير التطوّر في الأشكال المتعدّدة للكائن الحيّ في ضمن النوع الواحد، كما في أنواع الحمام والكلاب والقطط وغيرها؛ ومن ثَمّ بنى داروين في كتابه أصل الأنواع بذكر هذه الظاهرة. وكان من الملفت في هذا السياق توسّع هذه الفكرة إلى جملة من الكائنات المتشابهة التي قد تُعَدّ من أصل واحد وفق التسميات اللغويّة والانطباعات العامّة، فكان من شأن هذا العامل أن يؤدّي التوسّع في تفسير تفاوت الكائنات الحيّة بالرجوع إلى أصلٍ واحد.

وليس المقصود بذكر هذه العوامل إغفال دور العوامل المنطقيّة والموضوعيّة التي يمكن أن توافق اتّجاه هذه الميول النفسيّة؛ لكنّ الغرض لفت النظر إلى هذه الميول لأخذ احتماليّة تأثيرها بنظر الاعتبار.

التذكير بوقوع التطوّر ما دون النوعيّ

الأمر الثاني: إنّنا ذكرنا من قبل: أنّ محلّ البحث إنّما هو التطوّر الكبير والعامّ الموجب لرجوع جميع الكائنات الحيّة من النباتات والحيوانات إلى أصلٍ واحد.

ذلك إنّه لا شكّ على الإجمال في أنّ من سنن الحياة تطوّر الكائن الحيّ في المستوى الأدنى بحيث يؤدّي إلى تكوّن أصناف متعدّدة مختلفة في داخل النوع الواحد، تختلف في الحجم والشكل واللون وغير ذلك، ولعلّنا قلّما نجد نوعاً من الحيوان إلّا وفيه أصناف مختلفة مثل اختلاف أصناف الإنسان والنحل والنمل والهرّ والكلب والخنزير والشاة والذباب وغيرها، وكذلك الحال في النباتات، مثل: اختلاف أصناف النخل والبرتقال والتفّاح وغير ذلك، فكلّ هذه الأنواع لها أصناف واجدة للخصائص النوعيّة؛ ولكنّها تختلف اختلافاً غير قليل، والظاهر أنّ مثل هذا الاختلاف يجوز أن يقع بالتطوّر؛ بل هو واقع فعلاً .

وعلى ضوء ذلك تستند جميع خصائص الكائنات الحيّة في وضعها الحاضر إلى وضعها في حقبة سابقة من وجودها مع العوامل الخارجيّة من البيئة والمناخ والغذاء وغير ذلك.. وعليه يُتوقّع أن يكون أغلب الكائنات الحيّة بوضعها الفعليّ مختلفاً عن الوضع الأصليّ والسابق، فهذا أمر لا ينبغي الاختلاف فيه.

ومن هذا المنطلق فإنّ التطوّر الصغير ليس محصوراً بمستوى ضيّق كما قد يتبادر إلى الذهن أوّلا ؛ إذ ليس محدوداً بوحدة التسمية في الأعراف واللغات؛ بل ولا بضرب من التفاوت الشكليّ غير العميق من المنظور التشريحيّ والمقارنة الدقيقة.

بل قد يُحتمل قريباً القبول بالتطوّر في مثل الأسماك المفلطحة ذات العيون الجانبيّة بأن تكون في أصلها أسماكاً اعتياديّة، وهذه الأسماك هي حوالي خمسمائة نوع كالهلبوت وسمك موسى وسمك الترس، وتقع كلتا عينيها على جانب واحد، وهي تولَد بعينين اعتياديّتين كسائر الأسماك إلّا أنّ إحدى عينيها بعد شهر من ولادتها تبدأ بالتحرّك إلى الأعلى، إنّها تهاجر على الجمجمة وتنضمّ إلى العين الأخرى على جانبٍ واحدٍ من الجسد إمّا اليمين أو اليسار تبعاً للنوع، وتُغيّر الجمجمة شكلها أيضاً لتعزيز هذه الحركة، وهناك تغيّرات في الزعانف واللون في تناغم. ويرجَّح أنّها كانت أسماكاً عاديّة إلّا أنّها لمّا اعتادت على الاضطجاع على قاع البحر على جانبها مخبّئةً نفسها من المفترسين أوجب أن تكون العين السفلى عديمة الاستعمال وسهلة الانجراح؛ ممّا أدّى إلى نقل عينها إلى الجانب الآخر.

ومثل ذلك في احتمال اندراجه في المستوى المقبول من التطوّر: هو بتطوّر الكائنات ذات العيون الأثريّة عن أصول ذات عين اعتياديّة منها كما في طوائف من الحيوانات.

منها :  (الحفّارون)، كما في بعض الثعابين الحفّارة، حيث إنّ عيونها مخبَّأة على نحو كامل تحت الحراشف. وكذلك حيوانات الكهوف فلها عيون ضامرة أو مفقودة مثل سمكة الكهوف العمياء وكذلك العناكب وسلاماندرات وجمبري وخنافس وجراد، وهي بحسب الشجرة التطوّريّة انحدرت من أنواع عاشت فوق الأرض وكان لها عيون وظيفيّة؛ لكنّها افتقدتها تدريجاً بعد أن عاشت في الظلام لأنّها تكون عبأً على الحيوان عندما لا يحتاج إليهما، فهما يستهلكان طاقةً للبناء، ويمكن أن يُجرَحا بسهولة. يمكن أن تتراكم الطفرات الوراثيّة المقلّلة للرؤية طالما أنّها لا تساعد ولا تؤذي الحيوان.

ومنها :  الجرذ الجلديّ الأعمى في منطقة شرق البحر المتوسّط وهو قارض طويل أسطوانيّ ذو أرجل قصيرة غليظة مكسوّة بالفرو ذات فم صغير، ويقضي كلّ حياته تحت الأرض. ومع ذلك فلا يزال يحتفظ بأثر عين. عضو صغير قطره ميليمتر واحد فقط ومخبَّأ بالكامل تحت طبقة حامية من الجلد. ويفيد الدليل الجزيئيّ أنّ هذه الجرذان تطوّرت منذ (25) مليون سنة ماضية عن قوارض مبصرة. وتفيد بعض الدراسات أنّ المقدار المتبقّي من العين في هذا الكائن يحتوي على صبغيّات رؤية حسّاسة لمستويات منخفضة من الضوء تنفد إلى تحت الأرض وتساعد الحيوان على تنظيم إيقاع نشاط الحيوان اليوميّ.

فالإذعان بتطوّرٍ من هذا القبيل لا يقتضي الإذعان بجواز نشأة حواسٍّ من قبيل البصر والشمّ والذوق، أو نشأة أجهزة التناسل التي تقتضي التنسيق بين كائنين حيّين ذكر وأنثى مثلا من غير أصول لها، كما تعنيه نظريّة التطوّر العامّ حيث يُبنى بحسبها مثلاً على أنّ جميع الكائنات الحيوانيّة قد نشأت من الإسفنج الذي هو الشكل الأبسط للحياة الحيوانيّة، ولا يملك نسج حقيقيّة ولا عضلات ولا أعصاب ولا أعضاء داخليّة، وخلاياه غير متخصّصة، ولا توجد فيه العمليّات الموجودة في الحيوانات العاديّة مثل نقل الدم والهضم، ولا تكاثر جنسيّ في النحو الأكثر بدائيّة منها، فكيف نشأ كلّ ذلك فيه بعد أن لم تكن فيه أيّة بذرة لوجود تلك الأعضاء والأجهزة؟

وقد يقول قائل: إنّ الحدود الفاصلة بين التطوّر الكبير والتطوّر الصغير ليست واضحة.

والجواب: إنّ عدم وضوح الحدود بين ظاهرتين لعدم توفّر أدوات العلم ليس تحدّياً لاعتبارهما حالتين منفصلتين، فهناك تميّز بينهما في أصلهما حيث يمكن أنّ الفاصل بين النبات والحيوان مثلاً أو الاختلاف في أصل وجود الحواسّ من التطوّر الأكبر دون الكبير؛ ولكن لا نعلم الحدود الفاصلة بينهما بالدقّة. ومن الجائز أن يكشف العلم مستقبلاً تلك الحدود في ضوء تطوّر علم الجينات وفهم ضوابط الطفرة والمساحة المتاحة لها، أو يكشف عدم وجود حدود حقيقيّة بينهما بما يؤدّي إلى الوثوق به؛ لكن المقدار المتاح من العلم إلى الآن فيما أعلم لا يستبعد وجود ظاهرتين ممتازتين في أصلهما بالنظر إلى طبيعة الفواصل الجينيّة والتشريحيّة ومستواها بين الكائنات.

إذن، المهمّ في الحديث عن التطوّر هو البحث في التطوّر العامّ ؛ بمعنى أنّ الكائنات الحيّة هل ترجع جميعاً إلى أصل واحد تطوّر إلى فرعين ثمّ تعدّدت الفروع وتسلسلت حتّى حدثت كلّ هذه الأشكال، أم هي ذات أصول متعدّدة متمايزة في الأصل ترسي أسس الكائنات الحيّة وتساعد التطوّر على حدوث طيف واسع من الأشكال والأصناف لكلّ واحد من تلك النماذج الأوّليّة.

على أنّ فهم ما يقع خارجاً من مستويات التطوّر الصغير أمر مهمّ في المنظور العلميّ الأحيائيّ أيضاً؛ ومن ثَمّ ينبغي التدقيق في الشواهد الاستنباطيّة المطروحة وملاحظة ما يفي بها من مستويات التطوّر.

لا يكفي صلاحيّة التطوّر لتفسير الظواهر المستشهد بها

الأمر الثالث: إنّه قد لا يكون هناك شكّ في أنّ جُلّ الشواهد الاستنباطيّة التي تُذكر لنظريّة التطوّر تلائم وقوع التطوّر؛ بمعنى أنّها تصلح تفسيراً لها، إلّا أنّ البحث حولها في أنّها في ضوء الاستبعادات الأخرى والمعلومات الأخرى التي يحتاج إليها وقوع التطوّر هل ترتقي بهذه النظريّة في موارد التطوّر العامّ الموجب لرجوع جميع الكائنات إلى أصل واحد إلى مستوى يجعل منها حقيقةً علميّةً محسومةً لا ينبغي الشكُّ فيها، أو أنّها لا تزيد على أن تكون مؤشّرات لا تضمن صحّة النظريّة ضماناً تامّاً، فيمكن أن يكون لها في الواقع تفسير آخر غير التطوّر.

إنّ مَن استأنس بتاريخ العلم وسير الأفكار العلميّة في العلوم المختلفة ولاسيّما الطبيعيّة منها يعلم أنّ كثيراً من النظريّات تبدو تفسيرات مناسبة لجملة من الظواهر الملحوظة؛ ولكنّها لا ترقى إلى درجة الدليل الموثوق به، وقد تنقدح تفسيرات أنسب منها بعد حين من جهة موانع تحول دون القبول بالتفسير الأوّل.

ما يوجب التريُّث في هذه النظريّة

وعليه: فليس في الجزم بأنّ الشواهد المذكورة تمثّل حالات يمكن أن يفسّرها التطوّر دليلاً جازماً بها على وقوع التطوّر فعلاً.

وممّا يوجب التريّث في الوثوق بهذه النظريّة أمور:

الوجه الأوّل: مبعّدات عقليّة مطروحة تقدّم ذكرها في بحث الدليل العقليّ من قبيل حاجة الظواهر الروحيّة كالتفكير والضمير الأخلاقيّ الإنسان إلى ضرب من العناية الإضافيّة على التطوّر المادّيّ البحت. ومن هذا القبيل عدم وضوح كفاية فترة ما بين نشأة الحياة على الأرض إلى زمان تولّد الكائنات لحدوث طفرات كافية لإيجادها كما يراه فريق من علماء الرياضيات. وكذلك عدم وضوح إمكان نشأة تعقيد أشكال الحياة عن الطفرة العشوائيّة.

الوجه الثاني: مبعّدات استقرائيّة من حيث عدم وجود مؤشّر استقرائيّ على وقوع التطوّر من خلال وجود الحلقات الانتقاليّة المطلوبة لاسيّما بالنسبة إلى كائنات العهد الكمبريّ كما مرّ في بحث الدليل الاستقرائيّ والتجريبيّ، وسيأتي كلام فريق من علماء الأحياء في تصديق ذلك في الكلام على شاهد التدرّج التاريخيّ.

انبعاث أسئلة أخرى بنظريّة التطوّر

الوجه الثالث: إنّ نظريّة التطوّر وإن فسّرت جملة من الظواهر المذكورة في الشواهد الآتية من قبيل تشابه الكائنات الحيّة وبعض وجوه تدرّجها وغير ذلك، إلّا أنّها بهذا التفسير تثير أسئلة أخرى كبيرة ومتعدّدة في كلّ جانب ترجع في مجملها إلى كيفيّة انبثاق أعضاء وأجهزة وتركيبة جديدة لم توجد أوّلا ولو على وجوه بسيطة، وكيفيّة افتقاد أعضاء وأجهزة كانت موجودة في الأصول المفترَضة.

وفيما يلي عدد من هذه الأسئلة ونماذج من الإجابات المقترَحة على بعضها:

مثال ذلك: السؤال عن كيفيّة نشأة الحواسّ والأجهزة المتخصّصة لحيوانات بسيطة للغاية كالإسفنج، مع أنّ هذا الحيوان ليس له أعضاء للإبصار والشمّ والذوق والهضم وغير ذلك كما وصفناه قريباً.

مثال آخر لذلك: أنّ الطيور وفق نظريّة التطوّر نشأت عن الحيوانات البرّيّة كالديناصورات المريّشة؛ ولكن ما هو السبب لافتقاد (97%) من عشرة آلاف نوع من الطيور للأعضاء التناسليّة للحيوانات البرّيّة، وقد عُدّ هذا الأمر لغزاً، ورجّح بعض العلماء في الإجابة عن هذا السؤال ينشأ عن بروتين يُسمّى (Bmp )؛ لأنّهم عندما حقنوه داخل الحديبة التناسليّة الذكريّة للبطّ تسبّب في ضمور العضو التناسلي، كما أنّهم عندما قاموا بحقن قطرات محمّلة ببروتين يُدعى نوعين ( Noggin ) يوقف عمل بروتين ( Bmp ) في حديبات الديكة بدأت الحديبات في النموّ ونشأت الأعضاء التناسليّة لها؛ ومن ثَمّ رجّح العلماء أنّ الأعضاء التناسليّة للطيور بدأت في التقلّص على أنّه عرض جانبيّ لبعض تغييرات التطوّر الأخرى.

علماً أنّ بروتينات (Bmp ) محوريّة في تطوّر الأجزاء الأخرى من الطيور مثل الريش والمناقير كما هي تساعد أيضاً في بناء الهيكل العظميّ والأنسجة الأخرى.

مثال ثالث: تفترض نظريّة التطوّر أنّ الحيتان تطوّرت من الحيوانات البرّيّة بينما الحيوانات البرّيّة نفسها قد تطوّرت عن الحيوانات البحريّة والنهريّة، وحينئذٍ يرد سؤال عن سبب عود بعض الحيوانات إلى الماء كهجرة عكسية؟

احتمل بعض العلماء أنّ اختفاء الديناصورات إلى جانب أقاربهم المائيّين المفترسين آكلي السمك أوجب أن يجد أسلاف الحيتان كوّة مفتوحة خالية من المفترسين وغنيّة بالطعام. كان البحر مستعدّاً للاجتياح، فكلّ منافعه كانت على بُعد طفرات وراثيّة قليلة.

مثال رابع: يفترض العلماء أنّ الأصل في الطيور هي الديناصورات اللاحمة المريّشة التي عُثر على نماذج متحجّرة منها في الصين .. وعليه فكانت هذه الديناصورات تملك الريش. وهذا يعني أنّ الريش لم يكن قد نشأ كتكيّف للطيران، فماذا كان الباعث عليه؟ قيل إنّه ربّما كان يُستعمل للتزيّن أو الاستعراض لجذب العشراء، أو لعزل الحرارة؛ لأنّ هذه الديناصورات كانت حارّة الدماء جزئيّاً. وهناك سؤال آخر عن الذي تطوّر منه الريش، وهو سؤال أكثر غموضاً.

ويرجّح بعض العلماء أنّه نشأ من نفس الخلايا التي أنشأت حراشف الزواحف؛ ولكن لا اتّفاق على هذا التخمين.

وهناك سؤال آخر يتعلّق بكيفيّة تطوّر الديناصور إلى الطيور أصلاً ، ويُفترض في جواب هذا السؤال أنّ هذه الديناصورات الرشيقة كانت ذات صفات بدائيّة شبه طيريّة، فيبدو أنّها قد تصرّفت بطرق شبه طيريّة، فقد طوّرت هذه الديناصورات أطرافاً وأيدي أطول والتي ربّما ساعدتهم على الإمساك بالفريسة والتعامل معها، هذا النوع من الإمساك سيؤيّد تطوّر العضلات التي ستنشر الطرفين الأماميّين وتجذبهما إلى الجسد سريعاً، تماماً نفس الحركة المستعمَلة في السباحة الانحداريّة في الطيران الحقيقيّ، ثمّ يتبعه الغطاء الريشيّ ربّما للعزل.

ويمكن أن يكون الطيران قد تطوّر من سيناريو (الهبوط من الأشجار) للتزلّق من شجرة إلى أخرى أو من شجرة إلى الأرض هروباً من المفترسين، أو إيجاد طعام بسهولة أكثر، أو تلطيف سقطاتها، أو من سيناريو (الارتفاع من الأرض) التي ترى أنّ الطيران تطوّر نتيجة الجري والوثب بذراعين مفتوحين كما نجد في طيور الحجلة أنّها لا تطير أبداً تقريباً وترفرف أجنحتها لمساعدتها على الجري صُعّداً.

هذه عدد من الأسئلة التي تستتبعها نظريّة التطوّر ونماذج من تفسيرات مقترحة لبعضها.

إذن، لابدّ من الموازنة بين الأسئلة التي تحلّها نظريّة التطوّر وتقدّم لها تفسيراً متميّزة في ذلك عن نظريّة الخلق والتطوّر غير النوعيّ وبين الأسئلة التي تثيرها هذه النظريّة نفسها وتحتاج هي بدورها إلى معالجة وتفسير.

لقد أجاب العلماء عن جملة من هذه الأسئلة بتفسيرات محتملة، واعتبروا جملة أخرى منها ألغازاً لم تُحلّ بعد، إلّا أنّ الواقع أنّ بعض هذه التفسيرات ليست بحجم تحسم نقطة السؤال بمعنى إزالة الاستبعاد الذي يمثّله بما يكفي.

فالتفسيرات المقترَحة على قسمين:

  •  ما تفترض كيفيّة نشأة المعلومات المتجدّدة في الحيوانات البسيطة لكي يتكوّن الأكثر منها تعقيداً، وهذه كلّها تقترح الطفرة في جينٍ ما كي تتولّد المعلومة الجديدة، بالنظر إلى أنّ العصب المقوّم للتطوّر هو وقوع الطفور النافع في الخليّة.

إنّ هذا النوع من التفسيرات يشرح السبيل المناسب لحدوث هذه الكائنات من غير أن يثبت وجود عوامل طبيعيّة لمستويات من الطفرة تضيف معلومات نوعيّة وكبرى في الكائن الحيّ وتؤدّي إلى زيادات تشريحيّة مهمّة مثل حدوث الحواسّ بعد افتقادها أو حدوث أعضاء وجوارح من دون سابقة لها، وقد لا يقلّ عن ذلك في الصعوبة كثيراً افتراض تغييرات نوعيّة مثل تبدّل زعانف السمكة إلى الأطراف في الكائنات البرّيّة.

  •  ما تفترض كيفيّة وجود عوامل سلوكيّة محفّزة في اتّجاه الطفرة المفترضة، حتّى إذا حدثت الطفرات استغلّها الحيوان في اتّجاه التغيّر ليعطي لها أفضليّةً للبقاء وفق الانتخاب الطبيعيّ، كما يُقال مثلاً إنّ بعض الحيوانات طوّرت من إمكاناتها لمساعيها في مقاومة الافتراس وسائر المخاطر أو من جهة الإيفاء باحتياجاتها الداخليّة مثل تريّش الديناصورات اللاحمة للحفاظ على حرارة جسمها، أو من جهة التزيّن والاستعراض وجذب العشير، أو لأجل تحصيل الطعام.

ويلاحَظ بشأن هذا النوع من التفسيرات: أنّ حاجات الكائن الحيّ ومساعيه لا توجب حصول التطوّر في الكائن نفسه ولا يكفي في حصول التطوّر في جيناته الجنسيّة، فلابدّ من افتراض وقوع طفرات في هذا الاتّجاه في الرتبة السابقة كي يستغلّها الكائن سلوكيّاً ، وقد تحدّثنا من قبل عن عدم وضوح وجود عوامل طبيعيّة تؤدّي إلى طفرات نوعيّة.

على أنّ جملةً من هذه التفسيرات تبدو أقرب إلى الافتراض والتخيّل منها إلى التفسير أو الاكتشاف(2). ولعلّها أنسب بأن تمثّل حكمة صانع مهيمن على الكائنات يوجّهها حسب مناحي حاجتها واكتمالها تدريجاً ، وهو ما أدّى إلى قول جماعة بالتطوير الإلهيّ بدل التطوّر الطبيعيّ. وسيأتي مزيد تعقيب لهذا الموضوع في الأمر الرابع.

الوجه الرابع: إنّ من الأمور الملفتة في شأن الكائنات الحيّة إذا تأمّلها الإنسان هو النظم المنسَّق فيها، حتّى نجد أنّ العلماء في عدّة مواضع يعلّلون بعض خصائص الكائن الحيّ كالطيور بأنّها حدثت من جهة التزيّن والاستعراض؛ ولكن الأمر لا ينحصر بذلك، فجسم الكائن الحيّ يتضمّن نوعاً من النظم في جهات كثيرة لاسيّما في المظاهر والأعضاء الخارجيّة من حيث موضع العضو، وترتيبه بين الأعضاء المكرَّرة وغير ذلك من أمور كثيرة، فلو تأمّلت أيّ حيوان بدقّة وتأمّلت ترتيب بدنه وأعضائه وتأمّلت الافتراضات الأخرى لبدنه التي كان  يمكن أن تؤدّي إليه الطفرات الاتّفاقيّة لوجدت ذلك واضحاً، فكيف إذا كان هذا النظم والاتّساق جارياً في كلّ الكائنات الحيّة التي تبلغ الملايين.

قد يفترض المرء ابتداءً أنّ هذا الوضع إنّما نتج عن بقاء الحالات المساعدة على البقاء دون الحالات المشوَّهة في مظهرها؛ لأنّ تلك الحالات كانت فرصتها في البقاء أقلّ؛ ولكن لا يبدو هذا القول صحيحاً على إطلاقه ولا مستوجباً لهذا النظم والترتيب المتميّز الذي نجده في الكائنات الحيّة، فهل كان يتعيّن مثلا تعدّد العين ووقوعه في هذا الموضع دون غيره من المواضع القريبة منه؟

إنّ هذا الانتظام والتناسق يمثّل تخطيطاً عقلانيّاً يتّسم بالذوق والشعور بالجمال، ممّا يقتضي وجود كائن عاقل وراءه، ويبدو أنّ من البعيد حدوثه بطفرات عشوائيّة من كائن آخر.

وقد يقول الناظر في هذا الأمر إنّ هذا يدلّ على أنّ هناك كائن عاقل وراء سنّ نظام الطفور النافع في الكائنات الذي يُنتج هذا الخلق البديع، ولا يقتضي وجود أصول متعدّدة مخلوقة تتضمّن إرساء هذا النظم؛ ولكن ليس من الواضح كيفيّة إمكان التحكّم في وجود كلّ هذه التفاصيل بهذا النظام من خليّة أولى في غاية البساطة لا تتضمّن أصول المعلومات المشهودة في الكائنات الحيّة.

الأمر الرابع : التطوّر أم التطوير؟

المعروف عند علماء الأحياء بعد اكتشاف دور الخليّة ونظامها في وجود الكائن الحيّ من بعد عصر داروين أنّ التطوّر يتوقّف على وقوع طفرة مسبقة جينيّة في داخل الخليّة تؤدّي إلى تطوير حال الكائن الحيّ سواء كان ذلك التطوّر الكبير المنوِّع أو ما دونه المسمّى بالتنوّع الصغير .

ثمّ يستمرّ الكائن المطفَّر في حال كونها إيجابيّة نافعة لبقاء الكائن وتكيُّفه مع بيئته.

وهذا أدّى إلى بعض الملاحظات على القول بالتطوّر بالنظر إلى أنّ الطفرة عموماً في غير التطوّر المناعيّ والصناعيّ تجاه العقاقير والجراثيم والسموم تُنتج نتيجةً سلبيّةً لا إيجابيّة وبنّاءة، وإذا فُرض وقوع طفرة إيجابيّة في حالات نادرة ثمّ فرضنا ظروفاً نادرة ساعدت على استثمارها فإنّ ذلك يحتاج إلى مدّة أطول بكثير من مدّة الحياة على سطح الأرض لإنتاج هذه الكائنات في الزمن الذي عُرف وجودها على وجه الأرض.

ولكنّ الواقع: إنّني كلّما تأمّلت في تعليل علماء الأحياء لحدوث التطوّر في الكائن الحيّ في عشرات الحالات منها ما تقدّم ذكره قريباً أجد أنّها تشير إلى فرضيّة أخرى، وهي أنّ ما يتّفق أوّلاً ليس هو وقوع الطفرة؛ بل تحقّق مساعٍ دائبة وسلوكيّات حثيثة تصدر من الكائن الحيّ في اتّجاهٍ ما، شريطة أن تكون تلك المساعي والسلوكيّات مستدامة وطويلة عبر عدّة أجيال فيؤدّي ذلك إلى تحقّق الطفرة في داخل خلايا الكائن نفسه إن لم يكن يتكاثر تكاثراً جنسيّاً ، وفي خصوص الخلايا الجنسيّة أو سائر الخلايا معها إن كان يتكاثر تكاثراً جنسيّاً.

فهذا هو الذي يبدو أنسب وأوفق توصيف علماء الأحياء لحصول التطوّر، وهو توصيف يبدو قريباً لاسيّما في حالات الفقدان التطوّريّ .

مثلا : نلاحظ أنّ عدم استعمال الكائن لعضوٍ ما يؤدّي إلى ضموره لا في الكائن نفسه؛ بل في نسله إذا استمرّ عدم استعماله لذلك لأجيال متعدّدة فينشأ فرع جديد من الحيوان ذو عضو ضامر، كما لاحظنا ذلك في الحيوانات التي هي ذات عيون ضامرة أو عمياء لكونها تعيش في أمكنة مظلمة مثل الكهوف أو تحت الأرض، كسمكة الكهوف العمياء والجرذ العمياء وغيرهما؛ فإنّ هذه الكائنات فيما يُتوقَّع توقّعاً قريباً كانت ذا عيون اعتياديّة؛ ولكن عدم الحاجة إلى العين أدّى تدريجاً إلى ضمورها وعماها وتغطيتها بطبقة جلديّة أحياناً أو افتقادها من أصلها بحسب اختلاف هذه الحيوانات.

فهنا لا يُتوقّع أن تكون الطفرة قد بدأت في كائن واحد واستمرّ نسله من جهة تناسب البيئة؛ ولكن المتوقَّع أنّ البيئة الضاغطة هي التي أوجبت تغيّراً في خلاياه بما أدّى إلى تمثّله في نسله.

وكذلك الحال في الأسماك المفلطحة التي تكون عيناها في وجه واحد بعد أن كانت كلّ واحدة على أحد وجهيها إلى شهر بعد الولادة كالأسماك العاديّة؛ لكنّها تتحرّك إلى الوجه الآخر بعد ذلك، وقد توقّع علماء الأحياء توقّعاً قريباً أنّ ذلك ينشأ من أنّها اعتادت على أن تنام في قاع البحر على أحد وجهيها تخفّياً ممّا أدّى تدريجاً إلى تدبير انتقالها إلى الوجه الثاني لتنتفع بها، وهذا أمر - أغرب ومذهل - ،للاحتفاظ بالعضو وتغيّر موضعه في الجسم حتّى ينتفع به الكائن؛ لأنّه لم يكن يستغني عنه بالمطلق كما في سمكة الكهوف العمياء؛ بل في حال النوم على قاع البحر فحسب، فلا يُتوقَّع أنّ هذا التغيّر حدث بنحو الصدفة في سمكةٍ ما ثمّ انتقل إلى نسلها؛ بل المتوقَّع حدوثه بعد أجيال من اعتياد السمكة على هذا السلوك.

وكذلك الحال في تعطُّل ( GLD ) الذي يولّد إنزيماً يعمل على إنتاج الفيتامين ( C) في الإنسان والرئيسيّات الأخرى من جهة تناولهم أطعمة تشتمل على هذا الفيتامين، فكان تعطيل هذا الجين تخلُّصاً عن تكلفة إنتاج هذا الإنزيم، فكأنّ هناك رصداً من الخليّة لمقدار حاجة الكائن إلى استعمال هذا الجين طيلة عدّة أجيال فيتعطّل عند عدم الحاجة؛ لأنّ الطفرة حصلت أوّلاً ثمّ بقي نسله وانقرض نسل غير المطفّر، فإنّ هذا بعيد؛ فإنّ هذه الطفرة لا تعطي الكائن أفضليّةً في البقاء.

ومثل ذلك: تعطُّل كثير من الجينات الشمّيّة ( OR ) في الإنسان والريسيّات الأخرى أيضاً من جهة أنّ تعويلهم على الرؤية البصريّة أكثر من الشمّ، بخلاف جينات الفأر من جهة حاجتها إلى الاستعانة بالشمّ كثيراً.

ولا يبعد عن ذلك موارد الزيادة التطوّريّة والتغيير التطوّريّ على ما يتوقّعه القائلون بالتطوّر كالمثال المعروف في شأن الزرّافة من أنّ سعيها إلى تناول الأغصان العالية أدّى تدريجاً إلى طول رقبتها.

إنّ التأمّل في هذه التعليلات ومئات أمثالها يعطي أنّ تحرّك الكائن إلى وضع مختلف يبدأ بالعادات والاتّجاهات والظروف المستدامة عبر أجيال عدّة ممّا يؤدّي إلى حدوث الطفرة، وليس العكس.

وهذا هو الذي كان يذكره داروين قبل ظهور دور الخليّة في تكوين الكائن الحيّ ، فهو كان يقول إنّ الكائن يتطوّر إذا واجه ظروفاً ضاغطةً وكان أكثر تكيُّفاً معها من أصله فيبقى هو دون ذلك الأصل.

ولكنّ الإشكال المتوجّه إلى هذه الفرضيّة: أنّها إنّما تصحّ إذا قُدّر أنّ الظروف الضاغطة في كلّ جيل تؤدّي إلى حصول مبادئ هذه الطفرة في الجين؛ ولكن لن تستكمل تلك المبادئ حتّى تتحقّق تلك المساعي في حالة مستدامة عبر عدّة أجيال فتنتج الطفرة في جيل لاحق، إلّا أنّ العلماء إلى الآن لم يقفوا على أيّة تغييرات تقع في الجين في الرتبة السابقة على حصول الطفرة لتتراكم عبر الأجيال وتؤدّي إلى حصول الطفرة.. وعليه فلا دليل تجريبيّ على هذا الافتراض.

وقد طرح ما يشبه هذه الفرضيّة (جان لامارك) المعاصر لداروين في نظريّته تحوّل الأنواع والتي هي أولى النظريّات العلميّة للتطوّر ، والتي تصوّر فيها أنّ تولّداً ذاتيّاً ينتج باستمرار أشكال حياة بسيطة تطوّر تعقيدها بسلالات متوازية بنزعة تقدّميّة فطريّة، وأنّ هذه السلالات على مستوى محلّيّ تتكيّف مع المحيط عن طريق وراثة التغيّرات التي يسبّبها عدم استعمال الميزات في جيل الآباء. وقد سُمّيت على هذه الصيرورة الأخيرة باسم (اللاماركيّة). وقد رُفضَت فكرة لامارك هذه من قبَل علماء الطبيعة واعتبروها فاقدةً للدعم التجريبيّ.

والواقع: لا أدري إن كان مجرّد عدم العثور على تغييرات في الجين قبل حدوث طفرة ممهّدة لها ما يوجب رفض هذه الفرضيّة، بعد أن كانت تساعد عليها مؤشّرات عدّة من جهة الفروق التي بينها وبين التصوير السائد.

وذلك (أوّلا): أنّ التصوير السائد يفترض حصول الطفرة أوّلاً من غير علاقة بسلوك الكائن الحيّ ومساعيه، ثمّ يؤدّي الاختيار الطبيعيّ إلى استمرار الكائن المطفر؛ ولكن مقتضى هذا التصوير أنّ سلوك الكائن ومساعيه توجّهه نحو التطوّر.. وهذا هو الموافق مع ما يبدو من التأمّل في موارد وقوع الطفرة وتعليلاتها.

و(ثانيا): أنّ التصوير السائد يفترض هذه الطفرة من قبيل الطفرة السلبيّة التي تحدث في أثر الإشعاعات وعوامل أخرى وتؤدّي إلى تشوّه الكائن الحيّ، بينما الطفرة في هذه الفرضيّة هي طفرة إيجابيّة ذات نظام خاصّ مقنن واشتراطات معيَّنة لا يسع العلم كشفها بتفاصيلها، إلّا أنّها تتأثّر على الإجمال بظروف ضاغطة لأجيال عدّة، فيتوجّه الكائن الحيّ إلى وجهتها من خلال الطفرة المناسبة في خلاياه.. وهذا هو المناسب عند التأمّل في الوصف التعليليّ لعمليّات التطوّر.

ثالثا : الطفرة وفق التصوير السائد حيث إنّها طفرة عشوائيّة يحتاج حدوثها إلى طفرات كثيرة جدّاً خاطئة ليصحّ أحدها؛ ومن ثَمّ قد تستغرق مدّة زمنيّة قد لا يكفي تاريخ الحياة على الأرض في إنجازها.

وأمّا الطفرة التي ذكرناها فهي ليست بهذه المثابة، فلها قانون في واقع الأمر، إلّا أنّ عدم انضباط العوامل الداخليّة والجهل بالظروف الخارجيّة الموجبة لها هو المانع من تحديدها.

والشاهد من هذا العرض الذي ذكرناه: أنّنا نرجّح أنّ هناك ما يوجّه الكائن إلى التطوّر بالطفور قبل وقوع الطفرة، فإن لم يكن هناك سبب مادّيّ يوجّه ذلك، فيمكن البناء على وجود نحو جانب روحيّ كامن في الخليّة يوجّهها إلى هذا المسار، ولعلّ إلى هذا يرجع القول بالتطوير دون التطوّر.

وليس هذا الأمر في شأن الخليّة غريباً، ففيها ما هو أغرب، وهو أنّ الخليّة غير المتخصّصة تنقسم إلى أقسام متماثلة ثمّ تتخصّص أو تتشكّل بشكل مختلف بحسب أعضاء الكائن، فكأنّ هناك أمراً داخليّاً لها بأن عليها أن تنقسم بمقدار معيَّن وتكوّن مع أخواتها نسيجاً خاصّاً بحسب موقعه من مجموعة الخلايا، فكأنّ هناك رقابةً في داخل كلّ خليّة على مجمل الكائن وتنسيقاً لها مع سائر الخلايا في تموضعها وتخصّصها بتخصّصٍ خاصّ.

وقد يقول قائل: إنّه إذا صحّ هذا المعنى فإنّه يمكن أن يوجّه التطوّر الكبير أيضاً .

إمكان هذا الأمر مبدئيّاً بمعنى كونه محتملا ليس محلّ بحث؛ ولكنّنا بمقدار ما وقفنا عليه إلى الآن لم نجد شواهد على توجّه هذه الفرضيّة أو التصوير السائد لإيجاد أصول الإمكانات الإضافيّة كالحواسّ وأجهزة التكاثر فيما كان فاقداً له فلاحظ.

______________

الهوامش

  1. لاحظ العلم ووجود الله، جون لينوكس: 199 .
  2. تأمّل مث ا لا : لابدّ وفق نظريّة التطوّر أن يتطوّر الحيوان البحريّ والنهريّ الذي لا يستطيع أن يعيش في البرّ على وجهٍ يستطيع أن يعيش في البرّ بحيث يكون الأب والأمّ عاجزَ ين عن العيش في البرّ ولكنّ وليدهما يستطيع من ذلك من جهة الطفور فيه عندما كان خليّةً جينيّةً في داخل الأصل، ليحدث لاحقاً سبب يدعو هذا الوليد إلى ترك العيش في البحر والنهر والالتجاء إلى البرّ، ثمّ ينقل هذه الطفرة إلى أولاده، ولا تزال تتحقّق طفرات مساعدة على هذا الاتّجاه حتّى يعود وضعاً طبيعيّاً للكائن، فيوجد جيل يستطيع أن يعيش في كلٍّ من البرّ والبحر.

وكذلك لابدّ وفق هذه النظريّة من أن يُفترض أنّ الحيوان البرّيّ الذي لا يستطيع أن يعيش في البحر يستطيع وليدهما أن يعيش في البحر من غير أن يغرق ويختنق بموجب طفرة جنسيّة في أحد أبويه، ثمّ يحدث سبب يدعوه إلى الالتجاء للعيش في البحر، ثمّ لا تزال تتحقّق طفرات مساعدة على هذا الاتّجاه حتّى يعود وضعاً طبيعيّاً للكائن، لابدّ وفق هذه النظريّة من أن يُفترَض أنّ الأبوين كانا ممّا لا يستطيع الطيران ثمّ حدثت طفرة توجب استطاعة وليدهما من الطيران بعض الشيء، ولا تزال تتحقّق طفرات مساعدة على هذا الاتّجاه حتّى يعود وضعاً طبيعيّاً للكائن.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صدى النجف
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/10/20



كتابة تعليق لموضوع : نقد نظرية التطور – الحلقة 8 – مناقشة الشواهد الاستنباطية على التطور : آية الله السيد محمد باقر السيستاني
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net