صفحة الكاتب : ادريس هاني

مع محمد مهدي الجواهري: (فداء لمتواك من مضجع)
ادريس هاني

 ويستمر جدول الحزن عبر الأزمنة الطولى، ويستمر معه الشّعر زاخرا بمواجع الأيّام يقطر رقّة وحنينا..وتدور دورة الأزمنة دورتها المفرغة لتعود إلى أصل أصول المآسي وعماد المظالم والمخرم الأكبر لضمير تاريخ كتبته أنامل اللّئام وشهود الزّور من عواهر البلدان..لهؤلاء نظائر في كلّ العصور مردوا على اللّؤم والبهتان وركوب موج الظلم و العدوان .. لكنّ ثمة تاريخ يكتبه الظّالمون وتاريخ آخر تحتضنه زفرات المعذّبين ويخلد في القول الجميل..وهل ثمة أجمل من أن يحضن تاريخ الحسين شعر البطولة والرثاء؟..ولم يخل عصر من عصورنا لم يبك حسينا..ووحده الشعر يجعل هذا البكاء كونيّا..ومن كانت جودته كونية ومبدؤه كونيا وجب أن يبكى مدى الدهور، لأنّك إذ تبكي حسينا تنسى كل الآلام، وتتلخّص في تلك العبرات حكاية كل المظالم، فباتت كل آهة مظلوم هي آهة حسينية..فلكل شيء رمز، وقد بات الحسين رمزا للمظلومية عبر تاريخ لا زال ينافق الأجيال عبثا..وكان حظّ عصرنا من رثاء الحسين لا يقلّ عن سائر العصور..وخير من مثّل هذا الجيل شعراء أصابوا في رثائهم مقاتل القلوب. ويا له من رثاء تحمله حروف حوّلها أصحابها إلى ملاحم نعي تخرّ له السماء وجعا.. ذات يوم من عام 1947 في ذكرى عاشوراء ينتصب محمد مهدي الجواهري شامخا برثاء الحسين في كربلاء في قصيدة باتت من المعلّقات. وحسنا إذ أنّ أبياتا منها كتبت بماء الذهب على الباب الرئيسي المؤدّي إلى الرواق الحسيني. قصيدة تاريخية لأنها احتضنت مأساة تاريخية..يدور الزمان مدارها..ثورة الحق على الظلم..ثورة الحرية على الاستكبار..كان الحسين عنوانا لأنشوذة متعاقبة، أوصلتها الأجيال إلى أن أناخت هنا، في ديوان الجواهري أيقونة الشّعر العربي المعاصر وبقية عموده الصّلب..تسمو مضاجع الشهداء لأنهم أنبل البريّة، وتشمخ عبر مختلف العصور، وتدبّ فيها حياة موصولة بكل المعاني الكبرى فيما مضاجع العدوان تتدنّى، كعناوين لانحطاط المعنى، ككوابيس في تاريخ عربدوا فيه بالقول والفعل وحوّلوا العالم إلى مقاتل ومظالم..أسمع أنينا باكيا على باب الحسين:
فداء لمتواك من مضجع نور بالأبلج الأروع
بأعبق من نَفحاتِ الجِنـانِ روحا ومن مِسكِها أَضـوَعِ
نعم الفدا، الفدا للحسين..عنوان جريمة كافح الشاعر لكي لا يحكم عليها بالتقادم، لأنّها شخّصت الظلم وجسّمته حتى بات شبحا يمشي على الأرض..بينما تعنونت الحرية وتجسّمت في الحسين فبات الحسين مبدأ وجوهرا لتاريخ الحرية..ودائما يكون المدخل إلى عالم الحسين هو باب الحزن العريض..هي تلك الدموع التي تفيض من محاجر المستضعفين..من ذا الذي لا يحزنه خبر الجسد المسجّى بالعراء؟ تبّا لكم أنسيتم هو من..ابن من هو..أخو من هو..أبو من هو..؟ يرخي يوم الطفوف ظلاله في كل ذكرى كما لو أنّ الدّم لا زال ينزف..ظلال حزن ومعنى يستعيد به ركب البكّائين عنفوان ضمائرهم ويستشعر فيه المعذّبون في الأرض عنوان وجودهم وجدوى بقائهم:
ورغيَاً ليومِكَ يومِ "الطُّفوف" وسَقْيَاً لأرضِكَ مِن مصرعِ
حسين دمعة تعرفها كل العصور..ولكنه ليس حزنا باردا لا يحرّك المشاعر والنفوس بل هو زلزال وحده قادر على تغيير الأحوال والعقول..ثمة مصائر قوم غيّرها الحسين بصرخته الحرّة التي سكنت بين ضلوعهم انتقالا صعبا في معاني الأنسنة والحرية، وباتت دقّات القلب موصولة باسم الذبيح: حسين، حسين، حسين...وقد أثقلت آهاته بحزن مستدام لا يضارعه حزن..آآآآآه ابا عبد الله لا يوم كيومك ولا مصرع كمصرعك..إنّما الحسين نهج عميق لا حزن تباكي ومرور:
وحُزْناً عليكَ بِحَبْسِ النفوس على نهجك النيّر المَهْيَـعِ
وصَوْنَاً لمجدِكَ مِنْ أَنْ يُذَال بما أنتَ تأبـاهُ مِنْ مُبْـدَعِ
فيا أيُّها الوِتْرُ في الخالدِينَ فَـذَّاً ، إلى الآنَ لم يُشْفَـعِ
ويا عِظَةَ الطامحينَ العِظامِ للاهينَ عن غَـدِهِ مْقُنَّـعِ
تعاليتَ من مُفْزِعٍ للحُتوفِ وبُـورِكَ قبـرُكَ من مَفْـزَعِ
تلوذُ الدُّهورُ فَمِنْ سُجَّدٍ على جانبيـه ومـن رُكَّـعِ
يتذكّر الموجوع بفقد الحسين كل صور الظلم، ويرى في وثبة الحسين أملا بانتصار الحقيقة بجمال الشهادة وجلالها..فقبره بات محورا لخيال كبير سكنته روائع المروءة وقيم الأحرار..يرقى الزائر بقدر حنينه ويشمخ ويخرج من ضعفه الذي كرّسه المستكبرون..قل: من ذا يستطيع أن يذلّ حسينيّا؟
شَمَمْتُ ثَرَاكَ فَهَبَّ النَّسِيمُ نَسِيـمُ الكَرَامَـةِ مِنْ بَلْقَـعِ
وعَفَّرْتُ خَدِّي بحيثُ استراحَ خَـدٌّ تَفَرَّى ولم يَضْـرَعِ
وحيثُ سنابِكُ خيلِ الطُّغَاةِ جالتْ عليـهِ ولم يَخْشَـعِ
وَخِلْتُ وقد طارتِ الذكريات بِروحي إلى عَالَـمٍ أرْفَـعِ
وطُفْتُ بقبرِكَ طَوْفَ الخَيَال بصومعـةِ المُلْهَـمِ المُبْـدِعِ
كأنَّ يَدَاًمِنْ وَرَاءِ الضَّرِيحِ حمراءَ " مَبْتُـورَةَ الإصْبَـعِ"
تَمُدُّ إلى عَالَـمٍ بالخُنُـوعِ وَالضَّيْـمِ ذي شَرَقٍ مُتْـرَعِ
تَخَبَّطَ في غابـةٍأطْبَقَـتْ على مُذْئِبٍ منـه أو مُسْبِـعِ
لِتُبْدِلَ منهُ جَدِيـبَ الضَّمِيرِ بآخَـرَ مُعْشَوْشِـبٍ مُمْـرِعِ
وتدفعَ هذي النفوسَ الصغارخوفـاً إلى حَـرَمٍ أَمْنَـعِ
تعاليتَ من صاعِقٍ يلتظي فَإنْ تَـدْجُداجِيَـةٌ يَلْمَـعِ
تأرّمُ حِقداً على الصاعقاتِ لم تُنْءِ ضَيْـراً ولم تَنْفَـعِ
ولم تَبْذُرِ الحَبَّ إثرَ الهشيمِ وقـد حَرَّقَتْـهُ ولم تَـزْرَعِ
ولم تُخْلِ أبراجَها في السماء ولم تأتِ أرضـاً ولم تُدْقِـعِ
ولم تَقْطَعِ الشَّرَّ من جِذْمِـهِ وغِـلَّ الضمائـرِ لم تَنْـزعِ
ولم تَصْدِمِ الناسَ فيما هُـمُ عليهِ مِنَ الخُلُـقِ الأوْضَـعِ
تعاليتَ من "فَلَـكٍ" قُطْـرُهُ يَدُورُ على المِحْـوَرِالأوْسَـعِ
وقد يستهان بمقتل رائعة من روائع البيت الهاشمي الطاعن في المروءة والنبل والشّرف..حينما يطغى اللئام ويا لطغيانهم الذي لا ينتهي بحيلة من شرفاء يأبون أن ينزل بهم الدهر لمقارعة الطغام بحيل تضارع حيلهم..فيأبون إلاّ النّزال حيثما فرض النزال..تأمّل في جذور هذا الذّبيح ومحاضنه الأولى لتعلم من أيّ البيوت نزل ذلك السيل وفي أي سماء حلّق حيث لا يحلّق جناح:
فيابنَ البتـولِ وحَسْبِي بِهَا ضَمَاناً على كُلِّ ماأَدَّعِـي
ويابنَ التي لم يَضَعْ مِثْلُها كمِثْلِكِ حَمْـلاً ولم تُرْضِـعِ
ويابنَ البَطِيـنِ بلا بِطْنَـةٍ ويابنَ الفتى الحاسـرِالأنْـزَعِ
ويا غُصْنَ "هاشِـمَ" لم يَنْفَتِحْ بأزْهَـرَ منـكَ ولم يُفْـرع
تهاوى ضمير السياسة فكان ليس الحسين فحسب مطاردا في دنيا ضاقت بأحرار النوع..فضح الحسين السياسة في ديار الذّل فكرهت السياسة وزبانيتها..ما من حسيني إلاّ وبات مطاردا حتى أنّ الظالمين أنفسهم يشهدون على انّ الحسين ليس حدثا تاريخيا عابرا بل مبدأ كبيرا.. كل حسيني في قلبه جرح نازف من مذبحة الحسين..وما ذنبه إلا أن حزن ونعى وتذكّر..هذه الذاكرة ، ذاكرة كربلاء غير قابلة للمحو، لانّها محروسة من الظالمين أنفسهم..ففي كل موقف ظالم هم يحيّنون كربلاء..تفعل السياسة فعلها في النفوس والعقول فتصنع لها مسوخا في كل العصور:
لعلَّ السياسةَ فيما جَنَـتْ على لاصِـقٍ بِكَ أومُدَّعِـي
وتشريدَهَا كُلَّ مَنْ يَدَّلِي بِحَبْلٍ لأهْلِيـكَ أومَقْطَـعِ
لعلَّ لِذاكَ و"كَوْنِ" الشَّجِيّ وَلُوعَاً بكُـلِّ شَـجٍ مُوْلـعِ
يداً في اصطباغِ حديثِ الحُسَيْن بلونٍ أُُرِيـدَ لَـهُ مُمْتِـعِ
وكانتْ وَلَمّا تَزَلْ بَـــرْزَةً يدُ الواثِـقِ المُلْجَأالألمع
صَناعَاً متى ما تُرِدْ خُطَّةً وكيفَ ومهما تُـرِدْتَصْنَـعِ
ولما أَزَحْتُ طِلاءَ القُرُونِ وسِتْرَ الخِدَاعِ عَنِ المخْـدَعِ
لا يلتقي الحسين مع الخداع..فالحسين بفضح حتى من تلوّى في نعيه على مذاهب في الحزن لا تبلغ وطر المنهج..الحقيقة باتت حسنية..نقية صادحة حصحص فيها الجوهر وارتفع فيه لبس العوارض..وكل طالب للحسين هو طالب للحقيقة..الحقيقة كلها..الحقيقة في ذاتها كما يقول الجواهري:
أريدُ "الحقيقةَ" في ذاتِهَـا بغيرِ الطبيعـةِ لمتُطْبَـعِ
الحسين لم يمت، لأنّ الحرية لا تموت، والحق لا يموت، والأبطال لا يموتون، لذا كانوا شهداء، شهداء على النّاس..إنّ للجواهري بيتين بالغين في التصوير..رائعين في القرب والعشق ..
ترى ما أروع الحسين..هي الصورة التي يعرفها من دنى وتدلّى في سماء أبي الأحرار:
وجَدْتُكَ في صورةٍ لـم أُرَعْ بِأَعْظَـمَ منهـا ولاأرْوَعِ
وماذا! أأرْوَعُ مِنْ أنْ يَكُون لَحْمُكَ وَقْفَاً على المِبْضَـعِ


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/09/30



كتابة تعليق لموضوع : مع محمد مهدي الجواهري: (فداء لمتواك من مضجع)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net