• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : ذكريات سامرائية! .
                          • الكاتب : د . صادق السامرائي .

ذكريات سامرائية!

في الأول من شهر تشرين الأول مرّت ذكرى وفاة أبي , فحَضرت مدينتي سامراء بثقلها الحضاري والثقافي والقيمي والأخلاقي , وبمعاييرها الإنسانية الأصيلة المفقودة تماما في بلدان المادة المهيمنة على وعي البشر.
أخلاقنا السامرائية الحميمية الطيبة الرائقة العذبة المنسجمة مع إيقاعات الحياة , بأجيالها الصاعدة والنازلة على أكتاف الملوية الشماء.
أمواج من الطييبين الإنسانيين الغيورين المعززين بأبجديات سلوكية نبيلة سامية , فتأملت الذين رحلوا قبل أبي وبعده , ومنذ طفولتي التي تحوّلت إلى مسلة مدوّن عليها إيقاع التفاعلات السامرائية المتنوعة , التي كنت أعايشها في الديوان " ديوان البوعباس" في دربونة البومحمد الجمد , أيام كانت قلب المدينة ومركز نشاطاتها الإجتماعية , خصوصا عندما تحصل وفاة , في ذلك الزمن الذي كانت الوفاة فيه حدث جلل تهتز له أركان المدينة.
وكان الديوان مركز نشاطات التعازي والمواساة , حيث تقام فيه الفواتح على أرواح مَن توفى , وكان شيوخ سامراء ووجهائها وشخصياتها يحضرون كل يوم خميس وتدور بينهم أحاديث متشعبة , وأنا الطفل الذي  كان يرافق أبيه ويحسن الإستماع لحواراتهم , وأكاد أقول كنت أحفط كلماتهم وعباراتهم , وحتى بعض الأشعار التي كانت تدور في المجالس.
وقد تعرفت عليهم جميعا أو عرفوني , ومع دوران الأيام دام تواصلي معهم , لكنهم تناقصوا وغابوا , وبعد أن رحل أبي وجدت من الصعب العثور على مَن عهدتهم في تلك الأيام الآمنة المطمئنة ذات النفحات الإيمانية الصادقة , وعندما زرت المدينة قبل ثلاثة أعوام وجدتني في غربة ووحشة , وألم على إنمحاق ميادين الذكريات , فالديوان الذي كان مسرح طفولتي وجدته ركاما , وكذلك بيت جدي الذي كان عالما مفعما بالنشاطات والتفاعلات السامرائية الأصيلة.
ورحت أبحث عن ذكرياتي وأيامي فما وجدت ما يدل عليها , بحثت عن الغرفة التي ولدتُ فيها , وعن غرفة جدي التي كنت أسميها المتحف لما تحويه من كنوز , كلها إبتلعها التراب , وسألت عن الحَمام الزاجل الذي كان يتفاعل بكبرياء وإباء فما عثرت على أثر له , ووجدت الدربونة خاوية على عروشها!!
وتجولت في سوق المعتصم , فما رأيت غير الخرائب والأطلال , وهو الذي كان يعج بالحياة والنشاطات اليومية الصاخبة المتنوعة , وما بقي فيه أحد من تلك الوجوه الرحيمة البشوشة الطيبة.
أما كهف القاطول الذي يضمّ أرشيف الصبا , وروائع التفاعلات مع الماء والخضراء والطبيعة الغناء , فقد تحوّل إلى أرض حزينة جرداء.
وما عثرت في مدينتي إلا على ما لا أجده في أية بقعة أخرى من الأرض , إذ رأيت المحبة والإعتزاز , والطيبة والحنان والضيافة والألفة والبراءة والنقاء , والنفس الطاهرة الصابرة المكابرة , المؤمنة الأبية العزيزة الثرية بقيم السماء والتأريخ.
وعرفت المودة العظمى , فزرت الأصدقاء والزملاء والأقارب والمعارف , فكانت الروح لهفى والمشاعر تترقرق في أحداق العيون.
ورأيت المدينة وقد إمتدت وما عادت كما عهدناها في طفولتنا , حيث كانت الملوية بعيدة جدا ونحسبها خارج المدينة , وليس من السهل الذهاب إليها آنذاك , نطرت المدينة من أعلى "جاون " الملوية , وإنثالت الذكريات الجميلة التي فتّقها صبي كان يضرب على " الدنبك" , كما كان يفعل الكثيرون في إحتفاليتهم بأيام العيد , حيث الأغاني والجوبي والمطبك.
رأيت أصدقاءً عليهم آثار الزمن وعلاماته القاسية , لكنهم ما تنازلوا عن طيبتهم وروعة أخلاقهم وبهاء ما فيهم من الجواهر الإنسانية الخالدة.
هذه المعاني لا يمكن العثور عليها في مجتمعات تدين بالمادة , ويفتقدها الذي ترعرع في ربوع المروج الأخلاقية العالية , فالتحول إلى روبوت معضلة المدنية المعاصرة , التي تمتص رحيق الحياة من عروق الوجود الآدمي , وتحوّل البشر إلى آلة تدور على عجلات لا تتوقف.
تحية لمدينتي العريقة المنيفة الباهية , ولقبور أجدادي وأمي وأبي الثاوين في ثراها , الذي يرتدي أُهُبَ الذين صنعوا التأريخ والأمجاد.



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=84940
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 10 / 17
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28