• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : أسوياء + 1 سرد حكائي .
                          • الكاتب : علي حسين الشاهر .

أسوياء + 1 سرد حكائي

الإهداء
 
إلى كلِّ أولئك الذين يعيشون على الأمل وينتظرون العطف والأمان قبل أن يتذوقوا طعم الحياة.
إلى ضحكتهم التي تشرقُ نوافذ على العرش
إلى أحلامهم التي تنتظر الشمس ليتفتّح وردها
إلى أخوتي الذين نسميهم كفراً (منغوليين)..
أهدي هذه الخطوة الجريئة لاكتشاف عالمهم النقيّ
 
 
 
 
 
 
(البداية)
في مدينةٍ عراقيةٍ قديمة، يُطلقُ عليها أسماء عديدة من بينها بيت الرب وقدس الإله و(كربائيلو)، تبدأ فصول حكاية عن فتاةٍ غير عادية تعيش في عصر متقلّب غلُبَ عليه سكرُ الطمع وتناسلَتْ أحقاده الدفينة كالعَفن، إلا أنّها كما قيل عنّها نبيّةٌ طاهرة خُلقتْ من ماء الجنة وتراب الأرض، فوهبتها الأولى الألق.. بينما بخلت عليها الثانية وأورثتها العذاب!!. 
وقد أصبحتْ هذه (الحوريةُ الأنسية) على عَلاقة وطيدة بملاك من ملائكة السماء يدعى (داون) أو (داونئيل)، بمعنى (ملاك الأطفال) الذي أوقدَ الحبُّ في داخله شعلة من الحنان اتجاه هذه الطفلة وآمن بأنّ مساعدتها أفضلُ من السجود لملايين السنين!!.. حيثُ هاجر موطنه الأم ورافقها منذ ولادتها الأولى وتقهقرها في حياة الآدميين التعيسة.
هذه الطفلة التي ستنمو مثل فسيلة النخل العراقي البهيج، تتشبث بالحياة وهي تتحدى كل الصعوبات، لتتحوّلَ من شخص منبوذ اجتماعياً إلى حمامة سلام وشارة لنصرة الضعفاء والمضطهدين.  
لقد وجدَ ملاك الرحمة (داون) نفسه يحبُّ الأطفال كثيراً ويلازمهم طوال ملايين السنين وتقادم المخلوقات الحيّة على كوكب الأرض، حيث كان ينزلُ من السماء خلسةً ليتابعَ شؤون الأطفال ويقف على رأس النساء في حالة الطلق ليقرأ عليهنّ بعض الأدعية ويقيم لهنّ الطقوس لتسهيل الولادة، ويقالُ بأنه يعشق الأطفال لأنهُ لم يجدْ براءتهم في أي مكان آخر حتى في السماء!!، وآخرون قالوا: بأنه أراد ذات يوم أن يكون لديه مولوداً وزوجة ولكنّ الربَّ غضب عليه ولغى هذه الفكرة من (بالِ) الملائكة جميعاً حيث خاف منهم على حورياته (جواريه) الجميلات.. مثل العبيد تقريباً عبر عملية خاصة!!
هبطَ (داون) من ملكوت السماء إلى حيث الأرض الغارقة بالأوثان ويمّمَ وجهه صعيداً صوبَ المدينة المقدسة، إذْ علمَ وهو يسترقُ السمعَ من ملائكة آخرين أن مولودةً ذات (حظّ نحس) ستولد هذه الليلة في هذه المدينة.. ووجد أنه ربما.. ربما يستطيعُ تقديم المساعدة لها وتصبح رفيقته وطفلته الروحية التي يشتاقها.. فالأبوّة لا تقتصر على الآدميين فحسب.. فكلُّ مخلوق أرضيّ وسماوي يكمن في داخله سرٌّ غامض نحو البنوة.. وهو ما سيحدث فعلاً بينهما.. وسيقتسمان الحياة بحلوِها ومرِّها.
(2)
في أحد الأحياء السكنية الشعبية بكربلاء، كانت أحلام العروسين "أحمد وزينب" قد تكلّلت أخيراً بالفرح وتحقّقت بنجاحٍ بعد مجيء مولدتِهما الأولى (فادية) هذه الطفلة التي عاشت حياتها لا تعرفُ معنى الحياة، وتظنُ أنّها لا تزال طفلة ستكبرُ ذات يوم، وقد كانت ليلةُ ميلادها مختلفةً عن كل ليال البشر، وهو ما لاحظته (زينب) التي أبصرت أن خيطاً ملوّناً أضاء السماء ومرَّ خاطفاً فوق بيتهم، وإذا بحمامة تحمل في منقارِها درّة لامعة ألقتها بين أحضانِها، وأدركتْ أنّها ستكون على خير فالنجوم التي ظهرت فجأة والمطر الممزوج بعطر الملائكة كان يختصهم وحدهم. 
وجاءت (فادية) بتاريخ الـ 21 من شهر آذار (مارس) عام 1992م، وكانت فرحة والديها لا توصف وكذلك فرحة الأهل بهذه المولودة التي يغطّي رأسها شعرٌ ذهبي ناعم كالحرير؛ وبعينين تختزلان السماء.. وهي تنعمُ في هدوءٍ حسدها المهنئون عليه والذي ظلَّ فيما بعد يرافقها طوال حياتها المليئة بالضجيج وصخب الملذّات!!.
أما سبب تسميتها فهي من الفداء.. لقد كانت زينب قريبة من بارئها.. وقد نذرت له هذه الطفلة لتكون عندما تكبر خادمة تطيعُ أوامره.. وتلبي رغباته بكل حبّ وإخلاص.
كانت فرحة الأبوين أشبه بالعرس وقد جعلتهما يعيدان الأمل في الحياة وآمنا أن هذه الطفلة ستزيد من رباط الزواج المقدّس وسيأتي معها الرزق والخير وسيظلان ينعمان بالراحة خصوصاً وأنّهما تزوّجا بعد علاقة حبّ طويلة، ابتدأت منذ الطفولة وأيام المراهقة والشباب، وقد أكمل (أحمد ـ 28 عاماً) دراسته في المعهد التقني، بينما نجحت (زينب ـ 25 عاماً) بدراسة الآداب ـ قسم اللغة العربية، وقررا أن يتزوّجا لتمتزجَ روحاهما العاشقتان معاً حدّ الجنون. 
أما عن الجميلة (فادية) فقد وُلدت في بيت جميل استأجره والدها، وهو كسائر البيوت الشرقية (العراقية) مبنيّ من الطابوق المحلي مكوّن من غرفةٍ نوم واحدة وصالة ومطبخ، وتتقدمه حديقة مسيّجة بأسلاكٍ وأعمدة إسمنتية، ويقع قبالة ساحة للعب كرة القدم وبعض المدارس المتناثرة هنا وهناك، ومن هذا المكان تفتحت نبوءة الطفلة (فادية) وكان الكثير من المارة يلمس شيئاً مختلفاً.. الغمائمُ التي ترطّب الأجواء القريبة من البيت وتلقي بظلالها الباردة عليه، والعصافير التي تترنّم باسمها.. والأزهار الجميلة التي تملأ الحديقة وشجرة السدرة العملاقة التي تغدقُ عليهم بثمرها الحلو، وكذلك أيضاً موسيقى الصلوات والدعاء الهادرة لخالق السماء بأنْ يحفظ (فادية) ويرعاها ولا يغفل عنها أبداً.. نعمْ.. الخالقُ الذي يقول عنه الناس (على فطرتِهم) بأنّ له إرادة عُليا وحكمة متناهية فيسلب أحدهم عقله ولكنه يعطيه قوة الجسم أو بالعكس، فهو حرٌّ ومتفرّد.. يخلق الغني والفقير والسوي والمريض والأبيض والأسود... يخلقُ حسب اشتهاءاه لا بما يحلمُ به الخلق!! وهم مقتنعون راضون بكل شيء.. حتّى الحياة التي يلعنونها صباحاً ومساءً وساعة الميلاد النحسة!!
وفي بيت (فادية) تحدث الكثير من الثورات التي تنبعث مثل الشرارة من قلبها نحو الحياة المتيبّسة على أحقادها وملذاتها، وستكون كل زاوية من زواياه شاهدةً على مرحلة من مراحل عمرها.. وسجّلاً يدّون تفاصيلها.. وأوجاعها.. وآلامها.. وفرحها الممزوج بالبكاء.. بيتٌ بسيطٌ ولكنه يضمّ في داخله أيقونةً ستفصح عن ذاتها وتلقي بجمال روحِها عصافيراً ونَدىً وحِنّاءً تطرّز المكان، حيث قال أحد رجال الدين لوالد (فادية) أنّ لها شأناً عظيماً ولكنّها ستعيش حياة مليئة بالمنغصات والفراغ!!.. ولذا عليه تربيتها تربية جيدة وتمهيدَها لتقبّل الابتلاءات التي ما تنفكُّ عن الآدميين.. "ولكن كيف علم بذلك" (يتمتم أحمد في قلبه)، وقد قرأ (السيّد) أفكار (أحمد) وأخبره بأنّ وجهها البريء يشيء بالأسرار الدفينة.. وضحكتها تقول أنّها "ليست طفلةً عادية".
وبنفس عمر (فادية) تقريباً أو أكبر سنّاً منها، استبشرت عوائل أخرى بمولوديها الجدد، فهنالك (علاء) الذي يسكن في نفس الحي الذي تسكن فيه (فادية)، وقريباً منهم في حي آخر ولد (حيدر) و (هدى) و (سالم هندي) و (حمّه) و (زمن)، ولكل واحد من هؤلاء حكايته التي لا تخلو من المرارة.. كيف لا.. ومن بدء تكوينهم حُكمَ عليهمْ بالألم!! وقد ولِدوا من رحِمِ أحلامِ ميتة. 
(3)
كان (أحمد) يعمل موظّفاً حكومياً في دوائر (التصنيع العسكري)، حيث يذهب منذ الصباح الباكر ويعود بعد الساعة الثانية ظهراً من عمله طاوياً خطواته المتعبة نحو البيت ليلقي بها عند الباب، ويدخل مطمئناً فرحاً بلقاء زوجته (وهي ربّةُ بيتٍ متعلّمة وذكية) ويسارع نحو طفلته (فادية) يحضنها ويشمّها ويلاعبها ويطبع على وجنتيها قبلاته الأبوية الحنونة، وقد يفكّر الزوجان بالخروج عصراً في نزهة مع طفلتهما أو يظلان سوية لمشاهدة التلفزيون، وفي الليل ينامونَ جنباً إلى جنب تملؤهم نشوةٌ من فرح.. ثلاثة أرواح تعانقُ بعضها بعضاً ويحلمون بغدٍ أجمل وعيش طيّب مثل كلّ العراقيينَ الذين يحلمون منذ فجر التاريخ بالهنيئة والسلام.
في الأيام المتتالية من عمر فادية، كان والدها يدّخر المال لشراء الملابس والألعاب لها، لم يفكّر بنفسه وحتّى بزوجته القنوعة، وقد قرّرا أن يخلقا لها عالماً مثالياً، مرة قال لها: هل تعتقدين يا (زينب) أن بانتظار (فادية) عصرٌ ذهبيّ وهل ستصدق نبوءة السيّد مصطفى الحسيني، آه أتمنى أن يتحقق بعضها فقد أخبرني أن لها شأناً عظيماً ولكنّ حياتها لا تخلو من المنغصات.
زينب: أعتقد يا زوجي العزيز أنّنا نحن من نصنع حياتنا لا الآخرون.. ومهما يكن ما يخبئه القدر لطفلتنا.. فالرب سيكون دائماً معها.
أحمد: أتمنّى ذلك.
أخذت الطفلة (فادية) تكبر شيئاً فشيئاً ومعها تزداد فرحةُ الأبوين، ولكنَّ ما لاحظته الأم زينب على طفلتِها أن عينيها أصبحتا جاحظتين ووجهُها بذقنٍ صغير، أما لسانها فعلى الرغم من كبر حجمه إلا أنّه تأخّر عن لفظ كلمة ماما وبابا و(دادا)؛ ومظاهر أخرى بدأت على هذه الطفلة الجميلة ومنها إصبعُ إبهامها المنتفخ!!، ولم تكنْ حالة فادية تثير لدى الأبويين استغراباً ولأنّها التجربة الأولى لهم مع الأطفال، لم يخالط يقينَهم شكٌ ببراءتها وفطرتها السوية.
أخذَ داون الذي طالما كانَ حاضراً في اللحظات الأسرية الجميلة ليبعد عنهم كوابيس الشتات.. أخذَ يراقب بحذرٍ قلق الأبوين وبكاءهما في مرات أخرى، وهو ينظر بعينيه الملائكيتين إلى تلك الطفلة الموضوعة في هزاز أبيض اللون مصنوع من الألمنيوم، وقرّر أن يقدّم لها المساعدة، ولكن هل سيقبلُ الربُّ طلبه ليمدّ إليها يد الرحمة.. أو أنّها ستعيش أمدَ الدهر بحالها السيئ وحظوظها الأسوء مع الحياة..!!؟
في أحد ليالي الشتاء القارص في العراق، استيقظت (زينب) فزعةً تتكسر الدهشة على شفاهِها.. وقد ألمَّ بها خوف لكابوس كان يجثو على صدرها، حيث حلمت أن يداً سوداء تخطفُ ابنتها (فادية) وحاولت أن تستردّها ولكن دون أي نقطة ضوء للوصول إلى هدفها.. وهنا أدركت أن مستقبلاً مجهولاً سيكون بانتظار طفلتها وإنّ المشيئة بحسناتها وسيئاتها فوق كلّ هاجس عفوي للنجاة. 
لم تخبرْ (زينب) زوجها بأي شيء مروّع شاهدته في كابوسِها.. إلا أنّها قد أبلغته بالأمور الجسمانية التي طرأت على طفلتهما وقد أخذته رجفة ونزعة شهوانية نحو البكاء، واستمع (داون) لحديث (أحمد) وهو يردّد بعض كلمات الاستغفار ويضع في يده حفنة من تراب قبر أحد الأولياء الصالحين.
أحمد: هل هي مولودة طبيعية أو ماذا؟!، ربّاه أعلم أنني أخطأت بحقّكَ كثيراً، واعترف بذنوبي حالاً أمامكَ وأرجوكَ أن تغفرها بحقّ هذه الطفلة البريئة، اللهم احفظها.
زينب: آمين.
وإن كانَ قلبُ أحمد على عادته يستغفر ربه ومن ثم يعاود إلى ملذاته الشخصية التي يخفيها عن زوجته التي يحبّها كثيراً (زينب)، ولكنّ ربما دعواه هذه المرة صادقة، العلمُ عند الله، ولكنّه بالتأكيد عاشَ خلال أيامٍ وأشهرٍ قلقاً إزاء مولودته التي أخذت ملامحَ تختلف عن الأطفال في سنّها، والتي جذبت أنظار (داون) الذي فكّر أن يساعدَ (فادية) لوحده.. فربما سيجدُ علاجاً لها أو يعرف حالتها.. التي لا تعدُّ الأولى أو الفريدة من نوعها فمثلها الكثير الكثير الذينَ أخفقت حياتهم بسبب حالة غامضةٍ تصيب أجسادهم ولا شفاء لها.
(4)
في عامها الأول، قرّر الأبوان أن يعملا عيد ميلاد لطفلتهم فادية، حيث ألبسوها تاجاً ذهبياً على رأسها وبدلة بيضاء بجناحين ظهرت وكأنها ملاك من السماء، فيما صنعت الأم كعكة بيتية متواضعة ولذيذة.. ما أجمل تلك اللحظة التي بدت فيها طفلتهم رائعة خصوصاً مع أنفها المدوّر الأحمر وشفاهها الوردية التي تقطر عسلاً.
إلّا أنها بعد فترة وجيزة.. تدهورت حالتها الصحية وفوراً هرع الزوجان نحو (مدينة صدّام الطبية) في العاصمة العراقية بغداد، وبعد إجراء فحوصات اتضحَ أنّها مصابة بفتحة في القلب.. يا الله فتحة في القلب.. ما السبب برأيك دكتور؟
الطبيب: حالة من التشوّه يطرأ على الكثير من الأطفال الرضّع، ولكن انتظرا (يخاطب الأبوين).. هل تلاحظون شيئاً على وجهها أو نبهكما عليه أحد الأصدقاء، انظرا لعينيها.. فمها.. وأخبرني يا (أحمد وزينب) هل لكما قرابة غير الزواج.. وما هو عملكَ بالضبط.
أحمد: لا.. ابنة جيراني التي أحببتها وتزوجتها.. أما عملي فما دخله في فجأتكَ المضطربة وانفراج ذهولك على وجهها؟.. أنا أعمل في مجال التصنيع العسكري.. ونحن من سكنة كربلاء المبجّلة.
الطبيب: فهمت الآن.. هنالك ثلاثة أسباب لحالة (فادية) أولها قد يكون خطأً خلقيّاً حدث سهواً لها.. وثانياً فأنا لا أستبعد أن يكون لعملك في المواد الكيمائية ولُعبِ الحروب سبباً أكيداً على إصابتها بحالة خلقية سترافقها مدى حياتها التي قد لا تتعدى الـ (15 عاماً)..!! كما أنّ مكان سكنكم موبوءٌ حدّ الموت.. بعدما قصف الرئيس القائد (حفظه الله ورعاه!!) مدينتكم عام (1991 م) حينما انتفضتم (فرحين) يحدو بكم "حلمُ الشعبانية" نحو الخلاص!!
صرّح الطبيب بحقيقة مرّة وكلمات كان لها وقع صدى انفجار على مسامع الأبوين... يؤسفني أن أخبركما أنّ طفلتكم (فادية) مصابة بحالة خلقية تدعى محلياً (المنغوليا).. وعلمياً (متلازمة داون)؛ ومعظم الأطفال الرضع والأطفال الصغار من هذه الحالة يشبهون الأطفال العاديين أكثر مما يختلفون عنهم، إلا أن الصفات المميزة لهم تصبح أكثر وضوحاً كلما تقدموا في العمر.
زينب: ماذا..؟
ـ م..ا..ذ..ا؟.. يا إلهي.. هل هذه النبوءة التي تحدّث عنها السيّد الحسيني.. أو يد الظلمة التي حلمت بها وهي تخطف طفلتي.. أحمد ماذا نفعل؟.. لقد سبقت المنغصّات والوجع لطفلتنا قبل شأنها العظيم.. آه عليكِ يا أمّ قلبي!! يا سوء حظك يا ابنتي.
أحمد: دكتور والآن ما العمل.. هل تستطيعُ أن تضع علاجاً أو تسابق القدر قبل أن يخطفها نحو هاوية الجنون.
الطبيب: لا علاج لها.. هي حالة خلقية وليست مرضية، ومن قال لكَ إنها ستُجن.. يا بني لا تقلق عليها هي ستعيش حياة كحياة أقرانها.. هذه إرادةُ السماء.. اذهبا واعتنيا بها جيداً حتى يحين أجلها!!
عاد الزوجان (التعيسان هذه المرة) إلى البيت، والحزن مثل غمامة سوداء قد أطبق عليهما وقد تسربلا بجلابيب من الدموعِ والأنين، وهما يندبان حظّهما السيء جداً ومشيئة السماء (القاسية) على طفلتهما وثمرة حبهما السرمديّ.. أما داون فقد أحسّ هذه اللحظة أكثر من أي وقت آخر أنّ عليه أن يعمل شيئاً.. لقد بكى هو الآخر وابتلّ جناحيه بدمع الملائكة الأحمر.. ولم يأبه لكلام الطبيب حول الكيمياوي والقصف والقتل الوحشي الذي مارسه (صدام) ضد أبناء شعبه، فهو قد رفع عينيه نحو السماء معاتباً الربَّ على هذا الخلق (فادية) الذي شاءت قدرته اللامتناهية وجبروته وحكمته!! أن تكون هكذا.. وبدلاً من أن يضيفَ لها الجمال والبهجة والجاه وقوة الشخصية والذكاء؛ فقد أضاف لخلاياها وهو ينفخ من روحه في طينها المتكوّر (الجسد) بعض الألمَ، لتأتي (فادية) على هذه الحالة!!
داون: آه.. آهٍ يا رب.. ما هذا؟.. جزءٌ من روحِكَ المقدسة.. أصغر من الذرة يحيلُ حياة الكثير أمثال (فادية) إلى جحيم!!.. هل هذا يعقل؟!
ـ ولكن كيف يقضي هؤلاء حياتهم، في بلاد لا يجد السوي من البشر الراحة والطمأنينة والسلام فيها.. فكيف بهم!.. كيف تحكمُ على خلفاء من خلفائكم الآدميين أن يهانوا ويعذّبوا وتطاردهم السخرية أينما حلّوا؟!
هل تذكر يا إلهي ذات ربيع ونحن عندك في برجك العاجيّ حيث أمرتنا أن نسجد لمخلوقك المدلل (آدم) وأطعناك حباً وكرامة إلا إبليس الذي أبا واستكبر.. ورفض السجود.. فهل علم أن بين ذريته المرضى والمعاقين والمجانين.. هل كان أرقَّ منا قلباً فامتنع عن السجود..!!
(5)
قررت (زينب) أن تبادر لإيجاد علاج لطفلتها، وقد قالت لها إحدى جاراتها أن حالتها هذه تسمى (التابعة) وهي لعنة تصيب البنات وتحول حياتهنَّ إلى جحيم، وأخرى أخبرتها أن عليها أخذها إلى إحدى المشعوذات لتصنع لها حرزاً وأعمالاً تفكّ عنها السحر الذي أصابها، حيث يعتقد الجاهلون وغير المتعلمين أن ما يصيب البشر من سوء هو من أعمال السحر والشعوذة وليس بسبب المشيئة السماوية والذنوب الغارقين فيها، ولكنّ هذا لم يفلح مع (زينب) هذه الزوجة المتعلمة والمؤمنة وكانت تردّ على كلام جاراتها بأنّه كذب وتوهمات وأساطير بالية، وفوراً بكلّ إيمانِها.. قررت أن تأخذ ابنتها إلى المراقد المقدسة في مدينتها.. حيث كانت تربطها بقطعة من قماش أخضر (عَلَق) وتلفه بشباك قبر رجل صالح يدعى (العباس بن علي) في منطقة (الولاية) مركز مدينة كربلاء المبجّلة.. وتشربها من ماءه الطاهر كل يوم سبت.. حيث أنّ كثيراً من المرضى والمعاقين ما إن يدخلوا إلى مرقده المنبعث كالنور حتّى يخرجون أصحّاء من غير سوء تزفهم الهلاهيل والصلوات... وظلّت (فادية) على هذه الحالة أشهراً عديدة.. ولكن دون جدوى!!.. فمظاهر الحالة بدت أكثر وضوحاً.. وقد استسلم الزوجان لمشيئة السماء، وأخذت فادية تكبر أمامهما ويكبر معها حبّهما لها وتعلقهما بها، بينما ازدادت علاقة الطفلة بوحيها (داون) الذي كان يأتيها على شكل فراشة تارة.. وتارة على شكل حصان بجناحين أبيضين.. ليناغيها ويداعبها ويبثّ إليها آياتٍ بيناتٍ عن الحبّ والسلام ويصقل روحها ويزرع فيها الأملَ والابتسامة.
ومما لفت أنظار (داون) وهو يتطلع إلى وجه متلازمته (فادية).. أنّها تشابه أخوتها المصابين بنفس الحالة الخلقية، واللافت للنظر في الأمر أن هذا العرق متشابه في كل مكان وزمان من العالم، وتربطهم نفس الملامح ونفس الوجه المنتفخ والأوجاع والأحلام، وكما أنّ البشر الأسوياء مختلفون في مظهرهم الخارجي فهنالك الأشقر والأسمر والزنجي وذي العيون المختلفة والبشرة المختلفة، بينما تجد جميع حالات (متلازمة) داون متشابهين في مظهرهم الخارجيّ وهذا ما يخلق انسجاماً بينهم ومما يعدم التمييز العنصري "ولن تسمع أحداً منهم يسخر من الآخر مثلما يحدث بين الأسوياء"!! كما يقول (داون).
(6)
عندما حان للطفلة (فادية) أن تمشي وخصوصاً وإنها أصبحت بعمر الثلاثة أعوام.. لم تستطعْ حتّى اللعب والمشاكسة المحببة للأطفال قد حرمت منها.. وقد أحزن هذا الأمر والديها.. إنهما ينظرانِ إليها تتسحّب مثل سلحفاة على الأرض ولا يستطيعان أن يفعلا لها شيئاً.. ناهيك عن إصابتها الجديد كمثيلاتها بمرض (فتحة القلب) الذي يتسبب لها بين حين وآخر بنوباتٍ من الهلع والآلام تقبض على رئتيها وتحرمها من التنفس. 
"يا إلهي هل ضاعت ابنتنا من أيدينا؟" (تقول زينب)، أحمد افعل شيئاً أرجوك.. لا أستطيع أن أشاهد طفلتي وهي تحبو على يأسها.. سأُجن..!!
ولكن ماذا بوسع أحمد أن يفعله.. هل يقدّم عريضة مثلاً إلى الرب ليشكو إليه.. وهل هنالك من يحاسب السلطة العليا على أعمالها؟!
وفي اليوم الثاني، لم يكن في وسع (أحمد) إلا أن يشتري لطفلته كرسياً متحركاً لتجلس عليه.. فقد تأكد فعلياً أنها لن تقوى على الحركة.. كرسيٌّ يدور ويدور بها إلى أجل غير مسمّى.. إلى حيث يزهق هو منها.. أو تعيد المشيئة ترتيب حساباتها وتمنحها بطاقة احتجاج لتغيير واقعها.. لا نعلم فالسنين القادمة ستخبأ أمور عديدة لهذه الطفلة.. ولكن ماذا يا ترى.. هل سيكون الحزن والألم سيدا الموقف.. وماذا عن الشأن العظيم؟!
ومن المظاهر الأخرى لحالة (فادية) ارتخاء العضلات والمفاصل وضعفها، وصعوبة في النطق، وتسطّح الجانب الخلفي للرأس وقصر الرقبة، إضافة إلى صغر حجم الاذنين وعينان تشبهان في شكلهما حبة اللوز وتكونان مائلتين نحو الأعلى وأنف عريض ومسطح ويبدو اللسان كبيراً بالنسبة للفم.
ولقد اعتادت (فادية) على لعبتِها (الكرسي) كما كانت تظنه.. والتي لا تفارقها إلا وقت النوم.. أما عن الأصدقاء.. فقد اختارت منذ عمرها هذا صديقة وفيّة لا تملُّ ولا تكلّ.. هي ليست من عالم البشر طبعاً.. ولكنّ البشر أنفسهم يقيمون لها اهتماماً ويدعونها (العَلَويّة).. إنها شجرة السدرة المغروزة في حديقة المنزل الخارجية والتي يقدّر عمرها بعشرات السنين.. لا تزال شامخة.. تعزّي الآدميين بأحلامهم المقتولة.. وقد أصبحت فعلاً صديقة حميمة لـ (فادية) حيث تعانقها وتشمّها وتتكلم معها وتشكو لها ما ألمّ بها وكيف أن المشيئة العُليا أرادت منها أن تكون عقيمة الفرح وميتة الروح.. كانت فادية كثيرة الحديث مع صديقتها (شجرة السدرة) لأنهما أولاً من دم واحد فكلاهما مخلوقتان من (الجنّة).. وكلاهما تحلمان بالتحرّر.. بالرقص.. وكانت (فادية) تودّع عندها أحزانها بما تكتبه على ساقها العملاقة من قصائد ومواويل عزائية.. تكتب أوجاعها وتصلب أحلامها البريئة.. إنها ترسمُ مكامنها الداخلية المدفونة، فهي لا تزالُ تواجه صعوبة في النطق كما الحركة.. ولا تستطيع أن تبوح لأي أحد سواها وتأتمنه على أسرارِها.
(7)
كانت حياة أهل (فادية) محاطة بالفقر الذي يصفه الرب بالسوط الذي يضرب به على عباده.. وقد كان ما يكسبه والدها لا يكفي سوى لسدّ رمقهم، وكانت الزوجة قنوعة جداً وتقول: أنّ حياتها أفضل من كثيرات غيرها لا يجدن حتّى المأوى الذي يجمعهن بأزواجهنَّ وأبنائهن وما أقل اللواتي يستطعن الاحتفاظ بقلب الرجل، فالقناعة بيسر الحال أفضل من التشرّد والضياع، وإن كان حظّ الآدميين والاختلاف الطبقي بينهم عائداً أيضاً إلى مشيئة السماء التي تقسّم الأرزاق بينهم، ولكن ماذا يفعل الفقراء سوى أن يصبّروا أنفسهم بالعزاء.. وقلوبهم بالدعاء.
وفي بيت (فادية) فالأشياء بسيطة وعلى تواضعها الجم.. أريكة بسيطة وبعض المفروشات.. يا الله.. لم تفكّر (زينب) يوماً أنّها خُذلت بزواجها من (أحمد) فحبّه اللامتناهي ورجولته كانت أعظم من كل الحُلل والهدايا والعيش الرغيد الذي تلهث وراءه بناتُ حواء.. ومع كل هذا فلم تخرجْ (فادية) في نزهة أو لزيارة بيت جدّها لأمها في (باب الطاق) بمركز المدينة إلا وهي ترتدي أشيك الملابس والتي تخيطها أمّها لها بماكنتها، فبعض ملابس الأم التي لا تحتاجها تعيد تفصيلها وخياطتها فساتين وألبسة زاهية لطفلتها.. وقد كان ذلك يخفف كثيراً على زوجها الذي يحتاج إلى تأمين قوتهم اليومي وأجرة البيت، وكانا ليلاً يلملمان فتاتَ أفراحهما حتّى يجعلها كالجوهرة بين أحضانه ويعدُها بأن القادمَ أفضل وسيشتري لها كل ما ترغب به.. بينما هي تطلقُ بحنينٍ ابتسامة الرضا وتنغمس بين ذراعيه عاريةً من آلامها ويغطّا معاً في سحرٍ عميق.
(8)
ظلّت فادية على حالها كما هو، وقد اعتكفت والدتها على سجادة الصلاة تناجي السماء أن تنزل رحمتها عليها، ولم تخرج (زينب) لفترة طويلة من بيتها سوى لحاجة ملحة، حتى جاراتها لم يرنها وظنن أنّها قد تركت البيت يأساً من مصيرِها الضال، بينما هي تجلس قرب ابنتها وكانت تكلّمها في أمور كثيرة وتعلم أنّها لا تعي شيئاً ولكنّ أمها أخبرتها أن الأطفال الصغار يلتقطون أي شيء يوجه لهم.. وقلوبهم صفحة بيضاء نبذر فيها ما نشاء، وقد فعلت زينب بنصيحة أمها المليئة بالتجارب، لقد حدّثت طفلتها عن السماء والذات الإلهية المقدسة.. حدثتها عن الحياة والحبّ والحقوق والواجبات، بينما كانت (فادية) توجه بسمتها لأمها الحنون وكأنها فهمت كلامها.
وكان والدها يحدّثها عن الفنّ ويسمعها الموسيقى الإلهية وبحّة الناي العراقيّ الشجيّ، ولم يكن ذلك يأخذه عن الدين بعيداً؛ كما يقول البعض.. بل على العكس لقد قرّبه لها وكان يقول: أن الدين ليس بالشكليات العبادية وإنما بالإيمان الذي يخرج من القلب إلى السماء ويعود مطراً يغسل درن الصدور.
أحمد: لقد حل شهر الحزن يا زوجتي العزيزة.. حيث عاشوراء الحسين والدموع، خذي طفلتنا واذهبي عند بيت جدّها لتشارك أحزان المحبين.
كان هذا أول مرة تشاهد فيها (فادية) الطقوس العاشورائية التي تقام حزناً على رحيل الحسين بن فاطمة سيدة نساء العالمين في كل مكان وزمان.. إنه الرجل الذي بذكره تطمئنّ القلوب، وقد وجدت (فادية) عند مرقده وهي تبصر المعزّين لرحيله شيئاً من الأمل وكيف يمكن للإنسان مهما كان قدره أن يذوق الطعمَ الحقيقي للحياة.
أعجبت (فادية) كثيراً فكرة المكوث في بيت جدّها خصوصاً وإنها تبادرُ للمشاركة في الطقوس الدينية وتوزيع الشراب والطعام على الزائرين.. فضلاً عن جمال المكان ورائحته التي يتركها الزائرون... نعم في محلة (باب الطاق) التي تبصرها (فادية) كالقلعة التي تحميها من منغّصات الزمان، وما إن تعود إلى بيتها حتّى يعود الحزن ثانياً إليها.. هل هو البيت الذي فتحت فيه عينيها على حياة ملبّدة بالخراب.. أو أنّها كلّما كانت تبتعد عن المراقد المقدسة تنطفأ داخلها شمعةُ الآمال وتعاود لمصيرِها المشؤوم، وكانت كلما أحسّت بماء حياتها قد جفَّ؛ تجبر أمها على زيارة بيت جدّها لتتعلق ثانياً بشبّاكِ القداسة وتنهل منه. 
(9)
بلغت فادية من العمر (تسع سنوات) وربما راود عقلها الصغير القابع في رأسها الضخم!!؛ فكرة ارتياد المدرسة التي تأخّرت عنها، وحلمها بلبس الصدرية الزرقاء والقميص الأبيض والشرائط الحمر التي تلفُّ جدائلها الذهبية، إلا أنّها للأسف كانت تجلسُ في حديقة البيت الخارجية وتتعلق بالسياج وهي تحدّق بالمارين وتنادي عليهم (تعالَ.. تعالَ) ربما لاشتياقها للتحدّثِ مع أحدهم أو لأنّها كانت تعلم أنّ لا أحدَ يعطف عليها ويودّ تبادل أطراف الحديث معها، كما أنّها بدلاً من أن تفتحَ دفاترها وتحظّر واجباتها المدرسية.. فهي يومياً تفتح شعرها الذهبي وتدعه منساباً على كتفيها لتفليه وتدعكه.. وترتدي ثوباً (دشداشة) ذات لون بني وتجلس على كرسيّها البارد والبليد.. وتبقى منذ الصباح الباكر وحتّى الليل على حالتها الحزينة هذه، ولم يفكر بها أحد سوى شاب في الثامنة والعشرين من عمره حيث حاولَ اغتصابها مرةً وهو في حالة سُكرٍ وقد زادت هذه الحادثة الوحشية من معاناة هذه الطفلة البريئة والتي تتعرض لها الكثير من الفتيات على مرأى ومسمع دعاة الشرف والإنسانية!! 
وصادفَ أن امرأةً عجوز (على البركة) من جيران (فادية) أرادت أن تقرأ لها كفّها وتعرف طالعها وتخبرها عن المستقبل المخبّأ، ولكنها تفاجئت أن يدها بلا نوافذ لقراءة الحظ والطالع.. وكفّها "بطيّة واحدة بدلاً من طيتين" كبقية بني آدم؛ وهنا أدركت المرأة العجوز أن حظ فادية عاثرٌ من البداية ومغلّقٌ وبأنّها ستعيشُ وحدةً لا تطاق وأحزاناً لا تنتهي.. إلا أنّ (فادية) لم تأبه لكلام المرأة العجوز وتمتمت ببعض كلمات سمعها (داون).. حيث قالت: هل يعقلُ أن تكون هذه المرأة بصحة عالية حتى تستطيع أنْ تقرأَ عوالمي وتشرح لي مستقبلي.. لا أظن.. ومهما تقوله يبقى ما أعرفه أننا نحن من نصنع أقدارنا لا ما تقرأه العرافة في كفٍّ تبخل عن أشياء كثيرة فكيفَ ستجود علينا بالغيبْ!!
ـ كلُّ ما أفعله أنني سأنصت إلى قلبي!!.. فأنا ابنة هذه الدنيا قبلت أو رفضت ذلك.. وأنا.. أنا بكلِّ ما بي.. صرت أشغل مكاناً من الأرض.. من الحياة.. المجتمع.. ولذا لابدّ أن أقرر من هذه اللحظة أنني سأكون عنصراً فاعلاً.. فأنا قد قرأت عن تجارب لحالات مثلي يعملون ويتعلمون ويتزوجون أيضاً...
تمتمت فادية هذه الكلمات بإصرار وعزيمة.. بينما على مقربة منها رفع (داون) يديه إلى السماء ودعا لها بالتوفيق.. فهي ستدخل مغامرة صعبة لإثبات وجودها.
مرة قال لها صديق يكبرها سنّاً ويدعى (سالم هندي): أننا من أفراد هذا المجتمع ومكاننا بينهم.. ونحن عيال الله المقربون إلى قلبه، وقد أثّرت بها هذه الكلمات وحفّزتها للرقص والبكاء.. ولكن (فادية) في نفس الوقت لم تخفِ في داخلها أنها خافت كثيراً من كلمات العجوز (العرافة) كعادة الفتيات والنساء العراقيات اللواتي يؤمنَّ بهذه الترهات التي يسمّها المتعلمون (فقه العجائز).. إلا أنّها بقت مصممة لأن تصبح فتاةً أخرى.. وتحاول تغيير عالمها.. فهي قد اختيرت كما يبدو لها لأن تغيّر من نفسها وعالمها.
فادية: لماذا يجبرني الآخرون على أن أعيش الحياة التي يرغبونها هم.. أو أن أعيش نفس حياة أصدقائي.. لماذا لا أكون قدوةً لهم.. أغامر.. أحب.. أستمتع ولو ببصيص من اللذة!!
فالمجتمع الذي يريد أن أعيش أهواءه وتطلعاته ومصالحه الشخصية لا يهمّني.. أنا ابنة الواقع والدهشة معاً.. وأنا من يجب أن تقرّرَ مصيرها ومن هذه اللحظة.. فلعلّ من سيأتي أصعب والمجتمع الذي لا آلفه اليوم سينقلب سوءاً في المستقبل ولا أستطيع بعدها الحراك..  يا رب ساعدني أرجوك فأنا لدي الكثير من الأمور التي أريد أن أعملها والعديد من الأحلام المكدسة خلف ستار الحياة تنتظر بزوغ شمس الحرية.. لتنزع أغلالها وتنطلق نحو السماء!
(10)
من يعرف (فادية) من جيرانها أو أقاربها، يلتفت جيداً إلى كتمها للأسرار حتى وإن كانت أعباؤها ثقيلة فهي لا تبوح بأي شيء حتّى الأمور الخاصة بأي فتاة كانت تكتمه أما خوفاً أو خجلاً خصوصاً بعد بلوغها ونضجت الخصوبة في أعراقِها.
كما أنّ من عاشر هذه المبجّلة يكتشف فوراً أن لها حساسية مرهفة اتجاه الأشياء، وتكوّن بسرعة علائق معها وتجعلها جزءاً من عالمِها حتى ظلّها المرهق الذي يذكّرها دائماً بهيئتها!!، وهي فتاة مؤمنة خبرت الحياةَ جيّداً وارتقت بروحِها نحو الحقيقة، وكانت فطرتها تتحسّس الرحمة الإلهية وهي تعيش في أصعب الظروف وتعزي نفسها وتصبّرها فما تستطيع التحايل عليه بفطنتها تبادر نحوه سريعاً وإلا فالصبرُ هو العلاج الناجع.
ولقد عاش والداها وحتّى صديقها الملاك (داون) حياتهم بقلوبٍ نقية وكل ما يصدر عنهم من عتاب وشكوى فهي ليست إلا أوجاعاً يترجمونها عبثاً، ومن ثم يعاودون اتصالهم في الربّ.. كيف لا؟ وهو الأحقّ منهم جميعاً بحياتهم يقدّر لكلّ واحد من خلقه كيف يعيش وكيف يموت.
وقد وصلت (فادية) إلى نتيجة حتمية أنّ البشرَ مهما شاء أن يكونَ في الحياة فلا تتخطى أبداً مشيئته مشيئةَ الرب، حتّى الشاذين والكافرين والجبابرة فله حكمة (سبحانه) في إبقائهم أو معاقبتهم، فهنالك جانبان متضادان يفصلهما صراط أرق من خيط العنكبوت.. أما أن تكون مع المتقين في الجنة أو مع المعذبين بنارٍ أوقدها سجّارها.   
(11)
في عمر الـ 11 عاماً تغيير الأمر كثيراً وكأنَّ ينبوعَ الحظ انفجر وتفتحت عيونه صوب الجمال والحياة الجديدة، لقد تركت (فادية) الكرسي المتحرك.. وفرحَ (أحمد وزينب) بابنتهما الوحيدة التي بدأت تقف على قدميها بوثوق ودونما خوف.. وتتجول في البيت تلقي من ظلال روحها على المكان وتمنحه بعض الأمل.. تسرّح شعرَ أبيها الذي شابَ مبكراً وتمسحُ على يد أمها التي انحنى ظهرها على ماكنة الخياطة. 
وعندما تشتهي أن تبدد عن روحِها ظلمة العزلة.. كانت تخرجُ إلى الحديقة تشاهد المارة وتبصرهم بعيون لا تعرف الخداع، بينما كان أغلبهم وخاصة طلبة المدارس يرمونها بالكلام البذيء ونظرات تحاول سرقة سعادتها والتي كانت تقابلها بابتسامتها البريئة كقلبها الذي لم يعرف القسوة والتحامل على الآخرين، ولكنّ ازدياد نظرة المجتمع الدونية لها يدخلها تارة في حالة هستيرية مع نفسها.. وتظل تعاتبُ السماء على خطيئتها!!.. 
ـ مرة أخرى مع المجتمع.. يا إلهي لو خلقتنا متباعدين عن بعضنا البعض.. لو خلقتني نباتاً أو حيواناً.. ربما كان أحدهم سيحنو عليّ ويعتني بي جيّداً (تقول فادية).
وقريباً من همّها الاجتماعي كان (داون) يبرر أقوالها وتصرفاتها وإن المجتمع مهما أريد به الوصول عبر الأنبياء والديانات إلى الإنسانية العالية، فلم يزلْ على عادته لا يغير طباعه السيئة ونظراته الخبيثة إلى الآخرين.
فادية: ما عساي الآن أن أفعل؟ يا ملاكي الطاهر (داون) أرى أن مجتمعنا لا يستطيع أن يتقبلني.. لقد ماتت فيه الخيالات واستنفذت رحمته.. إنه متجبّر عنيد ومستهزئ بمشيئة السماء وأحكامها.. هل يظنون أنهم في خير وقد خلقوا أسوياء ليصبّوا بغرورهم على المنحوسين؟
داون: لا عليكِ يا صغيرتي تحمّلي أرجوك.. وإني لأعلم غير باغ أن قيثارة هذه الحياة متشنجة ومخنوقة ولا تجيد العزف إلا على الخطايا والخبائث.. ولكن مثلكَ يا زهرتي من سيحرّرها من قيود الشهوة لتعزف الحبَّ وتلقيه في قلوب الناس..!!.. يا فادية لا تيأسي أرجوك.. فلرب قوم صبروا وكان جزاؤهم الثبور.
فادية: طيّب يا صديقي... وماذا عن النحس الذي يطاردني أينما حلّ سكوني.. ويفغر فاهه ليأكل طفولتي.. براءتي.. دنياي.. هل أصبح الحقُّ باطلاً والباطل حقّاً.. لقد لاقيت في حياتي من المرارةِ ما يكفي ومن الحسرة ما ليس للجبال طاقة على حملها فكيف لي أنا العاجزة؟
داون: إنه القدر يا عزيزتي.. ومشيئة لا تردّ، تقبلي كل ما يحدث معكِ برحابة صدر وسكينة بال، وأما حديثك عن العجز فأنا لم أركِ يوماً عاجزة أو أسمعكِ تتكلمين عنه.. أين نضجُ روحكِ وبسالة شخصيتكِ التي عهدتها دائماً؟.. ابتسمي أقسمُ عليكِ بكل المقدسات.. ارقصي.. ارتدي ما تشائين من فساتين الفرح والسرور.. فأنت ابنةُ هذا الواقع وصبيّةُ المواويل التي تغني للحياة وإنْ شاخ العمرُ وتغشّى هلالكِ ثوبُ المحاقْ.
فادية: ولكني يا صديقي أضيّعُ عمري بكدر.. وأضعُ سنيني بصحن بريء فليتهمها فاقدوا الضمير.. وعندما أحاول نزع أغلالي وأبوح بأحلامي يحسبني الجاهلون بوماً ناعقاً وصوتي نشازاً يستحقّ الخنق، أنا يا صديقي ورفيقَ دربي بلبلٌ يغرّد من أعماق روحه النقية ولكنَّ أحلامي وآمالي تصطدم بأسوار القفصِ اللعينة.. لابدَّ.. لابدَّ أن أنهض الآن من تحتِ ركامِ اليأس وأتمنى أن تظل إلى جانبي.. وأعرف أني أتعبتكَ معي.. ولكنَّ قدركَ أن تبذرَ سنينكَ الخضرَ في أرضي البوار!!
لقد كان (داون) يستمع بدقة عالية لكلام عروسه وفتاته الودوع.. ويقسم أنها على حقّ.. نعم فالمشكلة الكبرى أن المجتمع المتعجرف الجاهل.. يظهر تدينه وعبادته ولكنَّ في داخله نزعة سادية وشهوانية نحو العداء والسخرية من الآخر وتهميشه.. نحن طائفيون حتّى مع أولادنا.. فكيف مع الآخرين..؟ 
فلو كان منبع الإنسانية فيهم لا يزال نقياً غير مكدّر.. لاستطاعوا أن يتحابوا.. ولكنهم للأسف اليوم لا يعيرون الأشخاص من حالات (متلازمة داون) أيّ أهمية.. وينعتوهم بـ (المنغوليين).. حيث اقترن اسمهم وشكلهم بأقوام المغول في آسيا الذين عرفوا بوحشيتهم وبربريتهم العالية أيام جنكيز خان وهولاكو!!.. بينما المصابون فعلاً بمتلازمة داون على العكس من ذلك طبعاً.. حيثُ أنّهم وديعون.. طيبون.. ولا يفكرون أبداً بالهمجية بل أنهم يتعرّضونَ لاحتلالِ عذابهم النفسي وسخرية الآخرين منهم!!
وقد أعلن في مؤتمر للأمم المتحدة إصدار قرار يمنع استخدام مصطلح (المنغوليين) وإنما (متلازمة داون) تكريماً للطبيب الفرنسي العظيم (جوهان داون) (John Langdon Down) الذي شخّص حالتهم وسبر أغوارها.. وأيضاً لأن هؤلاء البشر ليسوا بالمرضى وما يُشاعُ عنهم غير صحيح.
وفي العالم المتطوّر (إنسانياً) فقد اهتموا كثيراً بموضوعة المصابين بمتلازمة داون وأفردوا الدعم والرعاية من قبيل إقامة المؤتمرات والندوات وإقامة المراكز التي تعتني بهم من أجل تثقيفهم وتعليمهم.. بينما في العراق لا يوجد سوى القليل منها وهذا ما يرجعه السياسيون (حديثو العهد) إلى الحرب وإلى صدام الذي دمّر كل شيء.. بينما بعد صدام أصبح أعداد المصابين أكثر ناهيك عن المولودين المشوهين بسبب مخلفات الحروب واليورانيوم!!
وفي إحصائيات طبية أخيرة فإن هنالك تزايد كبير في حالات (متلازمة داون) تصل إلى المئات في كل بلد من بلدان العالم الثالث ومن بينها العراق، ولكن هل فكّر أحد بمصير هؤلاء، فمع ما تقدّمه المنظمات الإنسانية من مساعدات ودعم لهم يبقى هنالك الكثير الذين يعيشون حياة مأساوية من الفقر والمرض والتشرّد والاغتصاب الجنسي أيضاً، ويجب أن تلتفت المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني لخطورة هذا الأمر وتعمل على تقديم المساعدة لهم خصوصاً في إيجاد فرص التعليم المناسبة لهم وتقديم الرعاية الصحية الكاملة وحتّى فرص العمل للقادرين منهم.
(12)
كانت سنوات فادية تكبر ومعها أحلامها وأوجاعها أيضاً، إلا أنها وصلت إلى نبوغٍ عالٍ وحكمة فذة، إلى درجة أن كل من عاشرها وعرفها عن قرب يعجب بها، وقد كانت معلّمتُها (جنان الطائي) في معهد الأمل الذي دخلت به لاحقاً.. تحبّها لذكائها وعملت على تزويدها بالمعرفة وإكسابها مهارات تنفعها في الحياة وكيف تتعايش في مجتمع (همجيّ) تنقصه الإنسانية، فالمشكلة في المجتمع الذي تعيش فيه حيث لا يسلم فيه حتّى السوي أو يتهمونه بالمجنون لأنه أخلص في حب أحدهم.. الوطن مثلاً!!.. فكيف بـ (فادية) وحالتها التي بسببها يسلّط الناس نيران ألسنتهم اللاذعة ليتحسسوا أنينها ويطربوا لسماع بكائها..!!
ومع ما تعيشه فادية، إلا أنّ قلبها (النبيّ) كان يبادرُ نحو الحياة.. وكانت تحزن ومن ثم تعاود فرحها بوجودها وبوجود (داون العظيم) معها.. وطالما عقدت صلة عميقة بالسماء لكي تمدّها بوحي الألق والسرور.. وتقول: البعض يسمونني المنغولية، والمتعلمون يسمونني متلازمة داون.. أما أصدقائي فينادونني فادية!!.. المهم عندي وأنا مؤمنة به أنّنا نحن أحرار في اختيار أقدارنا.. فربما كنتُ أودُّ ذات يوم وأنا بين أنشاج أمي أن أشارك أصدقائي من (متلازمة داون) أحزانهم!!.. وفي كل المخلوقات هنالك الشيء المختلف حتّى (الشواذ).. حكمة الخالق الذي خلقنا هكذا مختلفين.. ههههههه (تضحك).. المهم أنني سأكون استثنائية وغير عادية.
وفي مدينة كربلاء التي تقطنها (فادية) لا يوجد سوى معهد واحد لرعاية المتخلفين عقلياً من بينهم المصابين بمتلازمة داون.. ويسمى بمعهد الأمل الذي ارتادته (فادية) بسنّ الـ 12 ربيعاً.. ووجدت فيه عالماً مختلفاً.. وفعلاً حينما تدخله تجد الأمل مرسوماً على أوجه العاملين من بينهم مديرة المعهد التي تأسفت كثيراً لعدم اهتمام الأهالي بأطفالهم المصابين وقالت: بأنّها كثيراً ما تدعو عبر وسائل الإعلام إلى ضرورة مراجعة المعهد وجلب أطفالهم من أجل إيجاد الرعاية الصحية والتعليمية لهم ولكن الكثيرين لا يستجيبون وخاصة العوائل الفقيرة والساكنين في الأماكن الريفية النائية.
ومما تفيد به مديرة المعهد أن من المعلومات الخاطئة عن المصابين بحالة (متلازمة داون) أن حالتهم هذه نادرة الحدوث بين بني البشر، وإنها حالة مرضية ميؤوس منها.. بينما ثبت حديثاً أن حالة واحدة لمتلازمة داون تحدث لكل 600 - 1000 حالة ولادة في جميع أنحاء العالم، كما أنها حالة خلقية وليست مرضية، تنتج عن زيادة في كروموسوم 21 ولذلك لا يمكن تغيير تركيبتها الوراثية.. وهم بتعبير أدق (أسوياء + 1)!!، حيث أنَّ خلايا الإنسان السوي تضم (46 كروموسوماً) مسؤولاً عن نقل الصفات الوراثية والجينية بين الأفراد البشرية، أما الأشخاص من حالة (متلازمة داون) كالطفلة (فادية) فهم يعيشون بـ (47 كروموسوماً).
ومن الظلم الذي أصاب هؤلاء البشر أن المجتمع نعتهم بعديمي الإحساس والشعور.. وأصرّوا أنهم بلا مشاعر ولا يستطيعون تبادل الحب مع الآخرين أو تكوين علاقات حميمة قد تؤدي إلى الزواج.. بينما الصحيح والثابت علمياً أن أفراد (متلازمة داون) لهم مشاعر وأحاسيس تعبّر عن الفرح والحزن كبقية الناس الآخرين، وهم يمتلكون عاطفة حنونة ومحبة، والطفل منهم يكون لطيفاً ومطيعاً ومرحاً مما يجعله محبوباً بين الآخرين.. كما وإن درجة القصور عندهم تتفاوت من الخفيفة إلى الشديدة ولكن الغالبية تبقى محصورة في مجال القصور المتوسط، وأيضاً هم قادرون على التعليم إذا أثرينا حياتهم بدوافع وحوافز، والجميل في حياتهم أن بإمكان النساء منهم إنجاب الأطفال.
(13)
بتاريخ 21/ 3/ 2006 م، أعلنت منظمة الأمم المتحدة أن تجعل من هذا اليوم عيداً سنوياً للاحتفال بالأشخاص من حالة (متلازمة داون)، وكانت الفرحة قد ارتسمت على وجوه الصغار والكبار، فأخيراً أصبح هنالك يوم خاص بهم وأن العالم جميعاً سيتذكرهم ويزيد من علاقاتهم مع بعضهم البعض، والطريف في هذا الأمر أنّ اعتماد هذا اليوم جاء اعتماداً على حقيقة علمية بخصوص حالة (متلازمة داون)، حيث عبّر يوم الـ (21) عن الكروموسوم (21) الذي يعزى إليه سبب إصابة البشر بهذه الحالة الخلقية، أما شهر آذار الـ (3) فهو يعني اسم المرض الذي يطلق عليه (التثالث الصبغي في كروموسوم 21)، وقد أخذت منظمات حقوق الإنسان دورها خلال هذا اليوم وعبر الفعاليات المتنوعة في العالم العمل على تبديد الصورة النمطية عن (حالة متلازمة داون) وزيادة الوعي حولها، أما الغريب في هذا الأمر.. أن هذا التاريخ هو نفس تاريخ ميلاد الصغيرة (فادية) أي بعد 13 عاماً لم تعد هذه الطفلة تحتفل لوحدِها وإنما تتشاركُ مع آلاف الأصدقاء من العالم بيومهم العالمي العظيم.. وقد ازدادت فادية إصراراً ونبوغاً وألقاً كانت تشعر به دائماً وهو يدغدغ روحها.
وعندما دخلت (فادية) معهد الأمل الكائن في حي المعلمين، أحبّت المكان كثيراً وأحست بأنها تعرفه جيداً، وقد تعرفت على الكثير من الأصدقاء الذين يشاركوها نفس الهمّ والملامح ذاتها، فلم تشعر بينهم يوماً أنّها غريبة وما تتلقاه من التعليم والتشجيع والمرح أيضاً يعوضّها عما فاتها من سنين الدراسة، وخصوصاً أن في معهد الأمل هنالك معلمات طيبات وتجد صفوفاً نظيفة وموزعة على فنون مختلفة، حيث هنالك صفٌّ للرسم والقراءة والكتابة وآخر للأعمال اليدوية، كما يضمّ المعهد حديقة جميلة تضم من الألعاب ما يسدّ شهية الأطفال.
ـ ولكن ماذا عن فادية؟
لقد اكتشفت معلماتها أنّها مختلفة جذرياً وذات نبوغ وكأنّ حالتها المرضية مجرّد ثوب يزال بعملية تجميلية.. فالعقل والروح ينبضان بالألق.. وجوهرها نادر بين الخلائق.
وبعد فترة قضت فيها (فادية) بين أصدقائها ومعلماتها الطيبات.. عادت من جديد إلى أحلامها وآمالها المعتّقة بأنْ تعيدَ لنفسها البهجة وللآخرين من حولِها وهي قادرة طبعاً.. وبادرتْ نحو مزيد من الثقافة والمعرفة وقد يظن البعض عن هذا أنّه محض خيال أو توهّمات.. على العكس فهنالك حالات مشابهة في العالم نجحت في أن تكون ما تريد ويعتمد عليها... ولذا قررت (فادية) أن تترك نظرات الشامتين وتفقأ أعينهم.. وإذا ما بدت لها فرصة نحو جمال الحياة بدت كالعشبة الخضراء التي تتحدى صخور العادات السيئة للمجتمع وتخرج أحلامها للضوء... وقد استطاعت تحقيق أمنياتها.. وكذلك إدخال الفرحة على والديها الذين لم ينجبوا غيرها من الأطفال وسخّروا كلَّ شيء من أجل سعادتِها.. وقد استطاعت هي بسبب خبرتها التي أكسبتها ظروف الحياة لها ونبوغها أن تواصل تعليمها (المسرّع) وتسبق الزمنَ نحوَ النجاح.
(14)
عاشت فادية بين عهدين سياسيين مختلفين في الأسماء والألقاب ومتشابهين بالتفكير والجنون، فيما مضى كانت تذكر كلام والدها عن القائد الضرورة ودكتاتورية العهد السابق التي أفسدت على العراقيين شهية الحلم وبين الواقع بعد 2003 م، ولم تلحظ به أي تغيير على الرغم من سقوط هبل فهنالك الآلاف الذين تناسلوا من ماءه الآسن، تسمعهم يتكلمون عن التغيير ولكنهم لم يغيروا بعد بأنفسهم وينقمون على سياسة السماء السيئة معهم.
فيما مضى راحَ خالها كمئات الشباب شهيداً لحروب صدام الطائشة وشهيته المفرطة للدم والمقابر الجماعية، والآن فقد تطور الموت وأخذ يحصد بالأبرياء الذين أصبحت مدنهن ثكنات عسكرية وساحة للحرب التي يجهلون فيها عدوّهم!!
قبلُ وبعد.. شلال من الذكريات والمفارقات المبكية ينصبّ على (فادية) وهي تجلسُ وحدها في غرفتها.. تطل منها عبرة نافذة اليأس فترى أن الأمر لم يتغير بل قد ازداد سوءاً عن الماضي الذي تخشى أن يفزّ من سباته ويلتهمها.. فهنالك الآمال الضائعة والأيتام الذين خلفتهم الحروب طوابير من الجياع، حتّى الوطن الغالي فقدَ إحساسه بالأمومة ولا أحد يعرف بعد ماذا يكمن في دهاليزه السرية؟
(15)
أصبحت (فادية) ناضجة وواعية، وقد أحبت بربيع عمرها فكرة الوقوف طويلاً أمام المرآة تحدثها عن نفسها وتسألها: هل أنا جميلة يا مرآتي العزيزة.. أو أنّ ذنوبي التي لا أراها تجد ظلّا لديكِ فتمتعضين مني كلما حملقت أمامكِ ساعاتٍ وساعات..!! 
ـ يا مرآتي.. وحدُكِ من يجد مرفأً للسؤالات وتضعين حدّاً للتكهنات.. اكشفي لي عن مستقبلي وافتحي صدركِ لأنظر ما سيخبأ بعد القدر، أولسنا عندما نبصر فيك نرى مستقبلنا.. أم هو مجرّد سراب وما نحن سوى عبيد مكبّلين بالذنوب وكنا نظن أننا آلهة من دمٍ ولحم؟!
بادر داون وألقى على المرآة سحراً عظيماً، وإذا بها تحدّث (فادية) بلسان ملائكي: يا صديقتي.. ماذا أنظر وكل أوجاعكِ تحاصركِ وتحجب عني روحكِ الطاهرة.. وأي جمال تتكلمين عنه وأنتِ طفلةُ النورِ والأمنيات.. ستكونين على خيرٍ.. ستكونين على خيرْ.
شعرت فادية بالسعادة الممزوجة بالنعاس، وأطلقت جدائلها بغنج تمشطّها وكأنّها تعزف على قيثارة.. أول مرةً تخبر نفسها أنّها قد أصبحت فتاةً جميلة وهنالك طبعاً من يروم التواشج مع روحها البهية، فهي كالعصفورةِ المعجونة بالدلال، ومثلما فكّرت بالتعليم وأن تعيش حياتها بطمأنينة، فكرت بالزواج.. نعم!.. مثل أي فتاةٍ تنقّب في حياتها عن الحبّ.. وتحلم بفارس يخطفها على فرس من الدهشة لعالم غريب غير موجود على خريطة، عالم لا يحدّه زمان أو مكان، لقد تمنّت زوجاً كأبيها الذي أخلص لأمّها وأحبّها بصدق، وكفى جنوناً أن تبقى معلقة الآمال وتدور في دائرة مغلقة من جحيم العزلة.. الحبيب هو وحده من يحرّر روحها وينتزعها من حرائق الضياع وارتكاب الحماقات.. زوجٌ يحتضنها فيبدوان "كجسم واحد بظهرين"! 
ولكن هل سيقف مظهرها الخارجي حاجزاً سيئاً أمام أمنياتها.. وأي رجل ذاك الذي يتقبّل العيشَ مع فتاةٍ حُكمَ عليها بالشيخوخة المبكرة ووصلت سنّ اليأس قبل أن يحين.. أين ذلك الرجل القادر على الهزيمة.. الرجل الخارقُ ذو القلب المضيء الذي يبدد عنها ظلمةَ التعاسة ويوصلها إلى ضفافِ الأحلامْ؟
إلا أن (فادية) بحضورِها الملحِّ تستطيع أن تجذب الرجال نحوَها، أن تتحدى الخوفَ القابع في نفوس الناس والنزعة السادية نحو الغرور، ولم تكن وحدها تحلم بالزواج.. فحُلمُ والديها بدا قريباً جداً منها.. وها هو أحمد يخبر زوجته أن أحد أصدقائه طلب يد (فادية) لتزويجها من ابنه (مخلّد).. وقال له بأنّه سيطلعها على الأمر.
زينب: حقّاً.. هل لهذا الشاب أن يواسيها على الفجيعة ويقتص جذور حزنها ليغرسها في حديقة التفاؤل والحياة السعيدة؟ أتمنى ذلك. 
(16)
وصل عمرُ فادية تقريباً 19 عاماً، وقد قرّرت بصورة مفاجئة أنْ تؤجّل فكرة الزواج في الوقت الحالي، فربما سيتصالح معها القدرُ ويبعث لها بالنصيب.. إنّها الآن تعيش على شرفة للأمل وتعيد ترتيب فصول قصّتها لتبدو أكثر واقعية.. لقد نجحت في إكمال دراستها الثانوية وفكّرت بدخول الجامعة لكي تفهمَ نفسها جيداً وتؤسس لمشاريع مستقبلية تنفع المجتمع، وفعلاً انطلقت بثقة عالية في مسيرتها الكبرى لتوعية الناس وتعريفهم بحقوق بني آدم من ذوي الاحتياجات الخاصة وكيف يمكن أن نطبق معهم سياسة الدمج التي اتبعتها أكثر الدول المتطورة اليوم في العالم حيث وجدوا أن بإمكان هؤلاء ومن بينهم المصابين بحالة (متلازمة داون) يستطيعون التعلم واكتساب المعرفة وزجّهم مع أقرانهم من الأسوياء في المدارس النظامية (الأكاديمية) بدلاً من الخاصة حيث سيتقبلون واقعهم أولاً وسيكون لهم أصدقاء يستطيعون الاندماج معهم ومن ثم مع المجتمع والعمل.
لقد ظلّت (فادية المقدسة) ثابتة العزيمة لا تحركها ريح التشاؤم ولا تهزّها أحجار الشامتين مثل شجرة السدرة المبجّلة، كانت مؤمنة تؤدي صلاتها وطقوسها الدينية بحبّ، كما أنّها مثل والدتها قد تربّت على العفّة والشرف، وعندما تخرج إلى السوق أو زيارة الصديقات ترتدي حجاب الرأس والعباءة العراقية (الزينبية) حيث كانت تخاطب نفسها دائماً.. أنها أنثى وجميلة ولكن لا يعني أنّ عليها أن تهدرها أمام أعين المتلصصين فالأنثى بجمال الروح وصدق الإيمان، وهو ما كانت تتحدث به مع صديقاتها وجاراتها أيضاً، وتروي لهنّ قصصاً عن الفتيات اللواتي تحدين عهر المجتمع وحافظنّ على عفتهن، وكانت لا تنزعج إذا ما رأت إحداهن يلعب الهواء بشعرها أمام أنظار الشباب، بل تبادر فوراً للحديث معها عن الجوهرة الثمينة التي لابدّ أن نحافظ عليها بالمحارة، وتقرّب شيئاً فشيئاً موضوع الحجاب وبأنه لا يعدّ قيداً للمرأة أو سوءاً يقبع على عقلها ويحجّم إرادتها، على العكس فإن دعوات نساء هذه الأيام ومظاهراتهن العارية للمطالبة بخلع الحجاب ليست إلا مفسدة للروح، وبدلاً من أن تتظاهر النساء والرجال أيضاً على الحجاب والعفة لماذا لا يتظاهرون على حرمانه الكثير من النساء في العالم من التعليم والثقافة والرعاية الصحية وبعضهن يتعرضن للعنف والاغتصاب.. لماذا نجد اليوم حتى في البلدان التي تدعي التدين والقداسة مطالبات بالسفور وإطلاق حرية المرأة تتحكم بجسدها كيفما تشاء.. ولكن ماذا عن الروح.. عليهم أن يطلقوا الحجاب عن الروحِ لا الجسد.. فجوهر الإنسان في روحه.
ومع تكرار حديث (فادية) مع الصديقات تجدهنّ يتغيرن تدريجياً (لا إكراهَ في الدين)، وتزداد علاقتهن بها حيث يجعلنها المثل الأعلى في الحياة.  
(17)
لم تكنْ (فادية) وحدها التي خذلتها الحياة وقست معها السماء، فقريباً من أوجاعها كان هنالك من يشاركها نفس الأنين.. فالفتى الكربلائي المهذّب (علاء العبودي) الذي يبلغ من العمر (17) عاماً مصابٌ أيضاً بحالة (متلازمة داون) ويعيش مع أبيه، وأخويه مالك وحيدر وهما متزوجان ويعيشان حياة طازجة وملذات وصخب، بينما علاء الذي شهد زواج أبيه بعد وفاة أمه وكذلك زواج أخويه وأخواته الكبيرات يعيش واقعاً من الضياع والحسرة التي ارتسمت جروحاً وخربشات على وجهه النقيّ.
لم يتلقَ علاء مثل غيره التعليم في المدارس، ولكنه يمتاز بذكاء شديد حتّى أنه تعلم لوحده قيادة السيارة ويتحدث بلغة الكبار.. ويحلم أيضاً أن تكون له زوجة وأولاد وهو بالفعل قادر كما يبدو لأبناء الجيران إذ أنه يتميز بروحٍ مرحة ويحبه الناس وله علاقات اجتماعية تفوق علاقات أخويه وهو نضيف الهندام ويعتني بشعره كثيراً.
مرةً قال له أحد الأقارب: سأزوّجك ابنة الجيران المولودة بستة أصابع.. وقد ضحك علاء للمرة الأولى ولكنه حلم بها وتمنى فعلاً أن تكون زوجته كيفما كانت.. ولكن ذلك كان سخرية منه طبعاً.. ولم يجد لدى أحد من أقاربه وحتى داخل البيت الموبوء بـ (زوجة الأب) من كلام التشجيع والعطف عليه، وهو أمر هام جداً لحالات (متلازمة داون) حيث ثبت علمياً وبحسب ما قالته مديرة معهد الأمل في كربلاء: أن ذلك أمر واقعي ومن الممكن تأهيل المصابين وزجّهم في المجتمع.. ونحاول أن نصنع منهم أناساً نافعين، فهنالك في الغرب اليوم الرسامون ومهندسو التقنيات والعاملون في المجال الصحي من نفس هذه الحالة وقد تقبلهم المجتمع الغربي بإنسانية عالية عكس المجتمع العربي!!، كما يقال بأن هنالك حالات زيجية ناجحة بين ذكر وأنثى من حالة (متلازمة داون) وقد أنجبوا أطفالاً.
فمثلاً.. نجحت عائلة استرالية بتزويج الشاب "ريتشارد" عندما كان عمره (20) عاماً من الشابة "بروك" وهي بعمر (17) عاماً بعد أن أنهيا دراستهما الثانوية بنجاح، وهما من حالة (متلازمة داون).. حيث كان أبويهما نشطين للغاية ولاسيما في الشهور الأولى من العمر، حيث لم يدخرا جهداً في تأمين وتطبيق كل وسائل التدخل المبكر من علاج طبيعي وعلاج نطقي وأنشطة رياضية.
ففي جنوب أستراليا وفي الريف بالذات لم يكن هناك إلا القليل من أساليب التدخل المبكر للأطفال الذين لديهم متلازمة داون، ولكن مع أولياء أمور كوالدي ريتشارد وبروك أصبحت هناك خبرات ومجالات كبيرة لتقديم الخدمات للأطفال الذين لديهم هذه المتلازمة.
والآن فان "ريتشارد" يعمل في مطعم "ماكدونالد" بدوام جزئي ويقضى بقية يومه في تقديم برامج تدريبية وله أخ وأخت اكبر منه سنا وقد رزق به والداه بعد أن تجاوز الثلاثين من العمر.
أما "بروك" فتعمل في فرن لدى جمعية محلية وهى سيدة نشيطة ناجحة اجتماعيا ولها ثلاث أخوات اكبر منها سناً وقد رزق بها والداها عندما كانا في الثلاثين من عمرهما.
(18)
وفي حيّ الثورة أو كما يحبّب للبعض أن يطلق عليه حي (الزعيم) في إشارة إلى الزعيم الأسطوري (عبد الكريم قاسم) الذي بناه إبان الخمسينات من القرن الماضي، كانت طوالع الكثيرين سيئة أيضاً، وهنالك الشاب (سالم هندي) أحد أصدقاء (فادية) القريبين إلى روحها، حيث وُلدَ لأسرة ذائعة الصيت في الحيِّ المذكور وأخوته من المشهورين بلعب كرة القدم في الفرق الشعبية، وهو من المصابين بحالة (متلازمة داون) التي لم تشوّه إنسانيته كما يظنّ البعض وأما مظهره الخارجي فلا يعني له شيئاً، فقد عاش حياته إنساناً سوياً وناضجاً بمعنى الكلمة، له أخلاق عالية وإيمان يدفعه دائماً نحو الله والمقدّسات التي يتزوّد منها طاقته العجيبة.. شابٌ ذكي ونقي يخرج صباحاً للعمل في السوق ويأتي بمصروفه ليضعه بيد أمه التي كانت تجمعه للأيام السوداء كما يقال، ولم يغفل عند أداء فرائضه وإلقاء بسمته على كل من يصادفه أمامه، وإن كان في داخله حزن عظيم فهو يحلم أن يعيش حياةً يكون فيها قادراً على الحياة.
أما (هدى ـ 2005)، فقد تكون حظوظها أسوء من غيرها، فليست مصابة بهذه الحالة المرضية فحسب وإنما عاشت طوال حياتها معاقة عوقاً كلياً تعجز معه عن الحركة، وكما أن مشيئة الربّ ظلمتها فكذاك الأهل أيضاً.. نعم حتى أقرب الناس إلى قلبها (أمّها) التي أرادت أن تعيش حياة الترف والدلال ولم تتحمل رعاية طفلتها في ظل غياب الأب الطويل الباحث أبداً بغريزة حيوانية عن بائعات الهوى، لقد قررت والدتها تركها ليلاً عند المسجد لعل أحدهم يكون أرأف منها وحناناً عليها، وقد طلع الصباح ووجد المصلون جثة هامدة لطفلة عبثَ بها الزمان وحل الموت مكان روحها.. طفلة جاءت الحياة وغادرتها دون أن تعرف أي معنى للسعادة والجمال. 
ومن مأساة إلى أخرى، كان (زمن) الذي يبلغ من العمر (18 عاماً) يسكن قريباً من منطقة القنطرة البيضاء بكربلاء المبجلة؛ فقد أضاق أهله الحزن والكمد، وأجبرت حالته المأساوية أخته الكبيرة على رعايته حتى بلغت من العمر 42 عاماً ولم تتزوج.. رفضت كل خاطبيها من أجل أن تسهر على رعاية أخيها الذي بقي الوحيد لها بعد وفاة والديها، ومسكين هذا الفتى الذي لا يدرك شيئاً من الحياة وظل رغم عمره الكبير يتمسك مثل الطفل بأطراف عباءة أخته أينما حلّت، وكانت كثيراً ما تخشى عليه من ألسنة الأسوياء السيئين وحجارة الأطفال التي تلاحقه وتأخذ منه مأخذاً، أما الطريف في قصته برغم مرارتها أنه عندما كان أحدهم يسأله أين الحكومة ولماذا لا تساعدك الحكومة.. يخرج (زمن) قضيبه!! ويتبول في حالة من السخرية اللاذعة والغضب الشعبي العارم.. ويقول: بابا يا حتـ(ك)ـومة هاي!
(19)
على الرغم من الأحكام والقوانين التي شرعتها الديانات السماوية حول الاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصة من المرضى والمعاقين وتقديم المساعدة لهم، وعلى رأسها الإسلام، إلا أنّنا نجد اليوم مسلمين بلا إسلام، فالتنابز والسخرية من الضعفاء والفقراء والمعوزّين والمرضى ومن بينهم حالة (متلازمة داون) أصبحت أمراً عادياً وكأنّ هذا الدين لم يصقل روح البشر بل جرّدهم من إنسانيتهم، وأكيد أنه لا الدين ولا حتى إرادة السماء هي السبب بل في النفس الإنسانية الحقيرة التي تلبّست بالكراهية والشرّ.
لقد عانت فادية وكثيرون غيرها من هذه النفس الدنيئة، وكانّ لابدّ أن يعطفوا عليهم ويقدمونهم على أنفسهم، فهم بحاجة إلى العطف والحنان لا رميهم بنظرات السخرية والاستهزاء، ولو أن أي أحدٍ عاد لدينه وقرأ ما جاء به الوحي السماوي لأدركَ جيداً كيف أنه مجبول بالذنب والخطأ اتجاه هذه الشريحة من المجتمع.
يقول القدوس الأعلى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11]
وفي أحد كتبِ والدها، قرأت (فادية) ان نبيّ الإسلام محمد الأمين كان يراعي ذوي الاحتياجات الخاصة رعاية كاملة ويفرد لهم جل اهتمامه وهو بعظمته وإمبراطوريته كان يقف باحترام لكل إنسان مهما كان شكله أو لونه أو منصبه، وقد تساءلت فادية في داخلها عن السبب الذي جعل الناس تغير من طباعها الإنسانية وترمي بها هاوية الجحيم؟
وقد قالت لها إحدى معلماتها: إن النبلاءَ هم من يقدّرون الآخرين ويحترمونهم، بينما ستجدين التافهين وضعيفي النفوس يظهرون قوتهم على الفقراء والمساكين، وأي عذاب سيلقونه يوم الحساب.
وقد أخبرها صديقها (داون) أنّ الرب لم يخلق آدم وحشياً ويتعطش للقتل وسفك الدماء والانتقاص من الآخر.. ولكن ظهر أن ذريته قد أصيبت بعدوى الضلال والغرور.. وأصبحت تنظر لنفسها أنّها الأفضل بين المخلوقات وإنها على حق بكل ما تفعله حتّى لو وصل الأمر إلى القتل، كما فعل هتلر الذي أخذه الغرور وأمر بقتل المعاقين والمرضى، وقد أحدث محرقة كبرى  لهم، وكان بينهنّ طفلة تدعى (كرستا) مصابة بحالة (متلازمة داون).
(20)
لليلِ مع (فادية) سرٌ مختلف، فهنالك من يتخذه لباساً ويلقي بكل أثقالهِ على سريره البارد، وهنالك العاشقان المحمومان على سريرِ النزوة والملذات، وهنالك الشاعر الذي وضع قصيدتهُ الأخيرة تحتَ وسادته وبلّلها بموعد لقاء بحبيبة مغمورة، بينما (فادية) فتاةُ العشق العذريّ لا تنامُ إلا سويعات قصيرة فيما كانت تسهر أكثر ليالها تفكّر في همومها الشخصية، وكيف تؤثث لحلمٍ شهيٍّ تقضي معه الوقت حتّى طلوع الفجر، حيث تنهض وتؤدي الصلاة مع والديها.. وقد أجّلت أحاديثها الداخلية لليل آخرَ تشعلُ فيه شموعَ غربتها التي تحسُّ فيها وهي بين آلاف المحبين لها.. لا أحدَ يعلمُ مدى شعورها بالغربة.. وهل هي غربة الروح أو غربة الجسد.. وكيف كانت تصبّر نفسها وتطاوع الحياة على انقضائها حتّى يحينُ أجلُها.. وتنسحب خلسةً من الدنيا دونَ أن يشعر بها أحد.. لتنامَ بطمأنينة وتحلمُ أحلامها الطفولية البريئة.. بالدمى التي كانت سلوتها في الصمتِ والسكوت المجبر، بالفارس الذي تخيلتهُ مزهوّاً على حصانٍ ذهبي لتصعد معه ويطيرا عالياً وعالياً حتى يتحسسا دفء الشمس الباردة.
الليلُ هذا الكائن الأسود المخيف الذي يخبّئُ خلف عباءته خفايا وأسراراً ومخاطِراً وملذات، أنّه بسكون غير مألوف وبطعمِ غريبٍ تستعذبه (فادية) وتعيش معهُ مثل حبيبين يتشاركان أغاني ومواويل عن الغرامْ.. وجرّبت فيه أن تقرأ الروايات والقصائد التي تقفز بذائقها الأدبية نحو الذهول كما أخبرتها معلّمتها (جنان)، وقد قرأت العديد من القصص التي تشبهها إلا أنّ الشعر كان يجذبها أكثر.. وعندما تفتح نافذة غرفتها المطلّة على الحديقة وتبصر حلكة الليلِ تردّدُ أبياتاً من قصيدة الإنسان العظيم بدر شاكر السياب!!
الليلُ أجملُ في بلادي
من سواها والظلامْ
حتّى الظلامُ هناك أجملُ
فهو يحتضنُ العراقْ
فادية: آه أيها العراقُ الذي يعيشُ فيَّ أسطورةً حقيقية.. وخيالاً معبئاً بالأزاهير.. وطوفاناً من القدّاس والصلوات.. يا أبي الذي عجنني من ترابِهِ وأطعمني حدّ التخمة بالحنان.. كيف أجازيكَ يا منْ يصبّرني فيكَ وجدُكَ أيها المالئُ العيونَ ضوءً من حمامْ.
ومع هذا الحبّ الصادق لموطنها السومري العظيم.. فهي لم تعترف يوماً أمام أحد أنّها مغرمة ببلادها المقدّسة.. حيث "أن الوطنيينَ متهمونَ دائماً بخيانتهم"!! كما كانت تحدّث نفسها، وأنّ على الإنسان في هذا العصر الذي يكثرُ فيها المتطفّلون أن يخفي أمور حياته.. فالحاكم الدكتاتور يعلمُ بكل شاردة وواردة وما يخطرُ على بالِ الآدميينَ.. "حتى لو كانوا في (الحمّام)!!" كما يقول والدها.
(21)
بعد أن باتت (فادية) تمارسُ ليلاً لعبةَ الحديث مع ذاتها فقد تفتّحت شهيتها نحو الكتابة بأشكالها، المهم أنّها تريد أن تبوحَ لأحدهم، نعم فهنالك على بعد بيتين منها كان الشاب (زياد) مولع بفطنتها وحلاوة روحِها.. وكان هو أوّل من بادر بكتابة رسالة يكشف فيها عن إعجابه بها.
في أول رسالة لزياد كتب فيها:
محبّات وورود لفادية العظيمة..
أيتها الفراشة الساحرة.. كيفَ حالكِ..؟ أتمنى أن تكوني بخيرٍ يا عزيزتي.. 
لست من الذين يتقنون كتابة الرسائل ولكني لم أجد وسيلة للتحدث معك غير الكتابة، ولأن لا حمام الآن ليأخذها إليك فقد وضعتها (خائفاً) عند صديقتك (شجرة السدرة) لتقرئيني جيداً وتعلمين أنني أود أن أكون صديقاً لكِ.. لا تجدي في كلامي ومبادرتي هذه مزحة.. أبداً فأنا قد أشاركك نفس الحزن يا صديقتي، فأنا في قطب والعالم كله في قطب آخر، إننا متباعدان جغرافياً ونسيبان بالروح.
شكراً لأنكِ تقرئين حروفي الآن.. تحياتي
زياد
كانت فادية في وضع حرج جداً وحواس متحجّرة.. ما هذا هل حقاً هنالك من يبادلها المحبة والألق.. وأيّ روح نقية تكمن في جسد هذا الشاب حتى يراها دون كل الصبايا قريبةً إلى قلبه..؟ 
ـ وماذا إذن أليس هو رجل له نزواته وغرائزه، هل يعقل أن كلامه يخفي روحه الحيوانية كأي الرجال الذين يجدون في الأنثى فريسة سهلة يوجب التهامها؟ أو أن زياد غير ذلك..
ـ يا الله هذا الموضوع يجعلني أموتُ من الفرح!!
تأخرت فادية عن الردّ على جارها (زياد).. حتّى جاءت الفرصة السانحة وتفتحت وردة الكتابة أمامها:
جاري العزيز.. وصديقي الجميل.. زياد.. السلام عليكم
كنتُ متردّدةً جداً وأنا أضع بين يدي القلم والورقة لأكتب لكَ يا صديقي، وكانت أسطر ورقة الرسالة بعد لم تنضجْ حتّى بذرت فيها كلماتي التي بين كفّيك الآن..
أيها الكائن الأسطوري الذي أعاد لي بهجة الحياة وأيقظني من سبات الشجن، أنا الآن أشعر بالتفاؤل وقد أصبحت أكثر عقلانية وأنا أرتب هذه الكلمات، فلعلّ فيها بوحاً صادقاً يقرب روحينا أكثر، وأشكرك كثيراً لأنّك بادرت ومددت خيط الحديث الطيّب بيننا.. سلام.
فادية
ومع بساطة حروف هذين العاشقين، إلا أنّهما داوما على الكتابة، كان يبوح لها بما في داخله.. وهي أيضاً تبادله الشعور ولذة الألم أيضاً.. وقد اكتشفت (فادية) فيما بعد أن من يكاتبها شاب مقعد على كرسيّ متحرّك.. فهو مصاب ولادياً بعوق في رجليه.. ولكنّ روحه لم تمسسها يد الشيطان وظلت نقيةً تناغي قداسة الصديقة (فادية). 
ولم يكن بين فادية وزياد غير المكاتيب اللطاف التي يبوحان من خلالها عن الأحلام والآمال، يتحدثان عن واقعهما وكيف يمكن لهما أن يعيشا فيه بكل جبروته وسذاجته المرهقة.
وصادف أن التقيا بالطريق، وقد أخذت تدفع بكرسيه المتحرّك صوب البيت وهما يتبادلان الحديث كأي صديقين يربطهما رباطُ مقدّس، سألته عن حاله وكيف يقضي الآن أيام سجنه في هذه الحياة البائسة، وقد بادرها بنفس السؤال ولا جواب سوى دهشة تغلّف وجهيهما وزفرات تخرجُ في صمت.
بقيت (فادية) مثل قليل من النساء (المختارات) من سيّدات الأرض والسماء طاهرةً طوال حياتها، فنبوغها وإيمانها الصادق بالسماء كان يدفعانها دائماً نحو جادّة العفة وبعيداً عن مستنقع الرذيلة، لقد أصبحت في عمر الـ 20 ربيعاً آنسةً جميلة يلفّها الوقار وتملؤها البهجة كلّما زارها أحد من الأقارب أو عند لقاء صديقاتها، فربما درست فادية تاريخ وسيرة السيدات العظيمات على طول التاريخ البشري وأدركت كنه المرأة وكيف يجب أن تحافظ على وقارها وأنوثتها.
لقد حازت (فادية) خلال حياتها على علاقات اجتماعية واسعة وشاركت الكثيرين أفراحهم وأحزانهم لأنها تعلم جيداً أن وجودها في هذه الحياة الفانية أنّها مثل نبية وعليها تأدية رسالتها المعظّمة والأخذ بيد الأسوياء اللاهثين خلف اللذة والمتعة اللعينة، كما أنّها كسبت ألذّ الأعداء إليها والذين كانوا يعدّونها مسخاً يثيرُ الضحكَ والتأنيب، بينما ألقمت كل واحد منهم حجر الدهشة من سماحتها وفجر انتمائها للسماء والسلام والمحبة، فادية وكما كان يقول عنها والدها (أحمد): هي بضعتي التي علمتني كيف أحبُّ اللهَ وأكسبه لصالحي.. أنها امرأة من نور يبدد ذكرها وحضورها ظلمة النفوس ويدفعها نحو ألق الاطمئنان.
(22)
كان عمرُ فادية على وشك الانتهاء وورقتها الخضراء استعدت لرحلة السقوط من السماء البيضاء إلى تحت ظلمة الأرض المدلهمة، ومع كبر فجيعتها بالحياة فقد أصيبت بالزهايمر فهو أمر عادي يحدث لبعض حالات (متلازمة داون) حتّى أنساها كل شيء.. ماذا تبصر الآن أمامها.. لا تعرف أحداً.. حتّى ما كانت تحسبها ذكريات أليمة ستشعل فيها فتيلَ العذابات قد انمحت تماماً.. أما داون فهو الوحيد الذي كان قريباً منها.. إنه دونَ أيِّ أحد آخرَ يعرفها جيداً.. وكانت تعلن عن تذكرها ومحبتها له بابتسامتها التي ظلت مرتسمة على شفاهها النقية، إنها مبتسمة مثل الهلال رغمَ كل حرارة الألم التي بداخلها فهي لم تنطفأْ وما يقال عن المصابين بالزهايمر أنهم ينسون كل شيء.. فما عدا الألم الذي يشعرها دائماً بالذنب وبلذّة ثقلها وعبئها على هذه الحياةِ السخيفة.. الألم الذي محى فصول حياتها التي تركت رغم أنفه بصمة الخلودِ الأبديّ في قلوب من أحبّها وخبر براءتها.
وبتاريخ الـ 1 من نيسان عام 2014 م، توفيت فادية وصعدت روحها الطاهرة نحو السماء ملبيةً نداء الربّ الذي قرر أخيراً أن يرحمها ويبذر روحها في السماء ويلقي بقلوب الناس محبّتها، وقد أوصت والدها في وصية كتبتها بخطّ يدها قبل مرضها أن تدفن سراً في حديقة المنزل الخارجية قرب صديقتها (شجرة السدرة).. فهي طالما شعرت بالأمان قربها، ومن يزور بيت (فادية) اليوم يجده منكفئاً على نفسه فقد أخذت معها كل الزهو والفرح بينما تركت أحزاناً تدور في قلوب من أحبّها.. سوى أنّها تركت شيئاً يذكّرنا أبدَ الدهر بها.. حيث نمت بالقرب من شجرة (السدرة).. شجرة نخيل باسقة تشي بالحياة ولربما هي ذاتها (فادية)!!.
يقول سقراط العظيم: جميعُ نفوس البشر خالدة، ولكنَّ أرواح الصالحين خالدة وإلهية!!
ـ ولكن أين داون..؟!
ـ لا أحد يعلم بسرّ هذا الملاك الطاهر، هل مات هو الآخر حزناً وكمداً على متلازمته أو ربما راحَ يعيش قصّة جديدة..؟ فلكلّ شيء نهاية إلّا أوجاع المظلومين..!!
..النهاية..



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=71302
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 12 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28