• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : بحوث ودراسات .
                    • الموضوع : المدخل المفاهيمي للرحمة الاسلامية .
                          • الكاتب : د . رزاق مخور الغراوي .

المدخل المفاهيمي للرحمة الاسلامية

 الحمد لله ربّ العالمين. وصلّى الله على محمّد وآله ‏الطاهرين. واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.·

مقدمة مفهوم «الرحمة» يشكّل أحد المحاور الأساسية في فكر الإنسان المعاصر، ورغم أن «الرحمة» من القيم المحورية في الإسلام ولكننا نلاحظ أن الجهات الأخرى تبنّت اليوم هذه القيمة نظرياً وعملياً، ولا نريد الآن البحث في ما إذا كان هذا التبنّي تبنّياً واقعياً أم مزيّفاً، فلهذا مجال ‏آخر، ولكن الشي‏ء الواضح هو أن الجهات الأخرى ترفع اليوم شعار «الرحمة» وتتبنّاه ‏نظرياً وعملياً، فالمسيحيون مثلاً يحاولون أن يكتسحوا العالم من خلال رفعهم هذا الشعار، وإذاعاتهم تردّد «أن المسيح رحمة» و«أنه افتدانا من لعنة الناموس» و«أنه تحمّل جميع الآلام للتكفير عن خطايا البشر».

وحتى القوى العظمى ترفع اليوم شعار الرحمة والدفاع عن حقوق الإنسان، فالغرب يرفع شعار الدفاع عن حقوق الأطفال في العالم وحقوق المرأة وحقوق السجناء و...، أما نحن المسلمين فمن المؤسف أن تبنّينا لهذه القيمة اليوم ضعيف جداً سواء من الناحية النظرية أم من الناحية العملية.

فلو اعتقل أحد المؤمنين في إحدى البلاد الإسلامية، فربما يبقى أعواماً لا يُعرف عنه شيء، في حين انه لو اعتقل فرد من دين آخر فإن لجان‏ الدفاع عن حقوق الإنسان قد توجّه ضغوطاً كبيرة إلى الدولة التي تعتقله حتى تطلق‏ سراحه.

لقد بقي الشيخ بهلول معتقلاً في السجون الأفغانية زهاء ثلاثين عاماً ولم يُفرج عنه حتى حدث خلاف بين‏ الحكومة الأفغانية ودولة أخرى قامت بفضح الحكومة الأفغانية في مجال اضطهاد حقوق الإنسان، وأشارت إلى اعتقال الشيخ بهلول، فاضطرت الحكومة الأفغانية إلى إطلاق سراحه‏ وإلاّ لربما بقي سجيناً حتى نهاية عمره!

الرحمة في النصوص الإسلامية إن النصوص الإسلامية مشحونة بمفهوم الرحمة، فأول ما تفتح كتاب‏ الله تعالى يواجهك شعار الرحمة (بسم الله الرحمن الرحيم)، كما أن هذا الشعار مطلع كلّ سورة في القرآن الكريم.

وقد تكررت كلمة «الرحمة» ومشتقّاتها في القرآن الكريم مئات المرّات، ولكننا نكتفي هنا بذكر آيتين كريمتين؛ الأولى منهما ترتبط بالجانب‏ التكويني، أما الثانية فترتبط بالجانب التشريعي.

أمّا الآية الأولى فهي قوله تعالى: (إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم) [1].

إن اللغز الذي حيّر العقول منذ القدم هو: لماذا خلق الله الإنسان؟ من الواضح أن الله تعالى خلق كلّ الأشياء من أجل الإنسان، ولكن ما هي الغاية من خلق الإنسان؟ يقول الله تعالى في الجواب على ذلك: (إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم) أي خلقهم كي يرحمهم، فهذا هو الدافع وراء خلق ‏الإنسان، وهذه هي العلّة الغائية لوجوده.

أما الآية الثانية فهي قوله تعالى مخاطباً نبيّه الكريم صلّى الله عليه وآله: (وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين)[2]، و «إلاّ» تفيد الحصر، فيكون معنى العبارة أن هدف ‏البعثة متمحّض في الرحمة.

اتضح إذن أن الرحمة تمثّل قيمة محورية في نظام التشريع، كما تمثّل قيمة محورية في نظام التكوين.

كيف يكون نبيّنا صلّى الله عليه وآله رحمة للعالمين؟ وهنا سؤالان قد يخطران في الأذهان عن قوله تعالى:(وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين):

السؤال الأول: إذا كان النبي صلّى الله عليه وآله رحمة للعالمين، فلماذا لم‏ ينتفع الكفّار بهذه الرحمة؟

وإذا كان العلماء يقولون: «ما يعلم أنه لا يترتّب على شي‏ء لا يعقل أن يكون ‏غرضاً منه» فكيف يكون الغرض من بعثة الرسول صلّى الله عليه وآله هو الرحمة للجميع مع أنها لم تترتّب‏ عليه؟

هناك إجابات عديدة على هذا السؤال ولكنا نكتفي بالإشارة إلى إحداها وهي: أن الرحمة من ‏الحقائق المشكّكة - حسب الاصطلاح الفلسفي - أي أن لها مراتب، وبعض مراتب هذه الرحمة شملت الجميع.

لقد كان السيد محمد الشيرازي رضوان الله عليه قبل ‏زهاء شهرين من وفاته، يحثّ العلماء والكتّاب الذين يزورونه على الكتابة عن‏ فضل النبي صلّى الله عليه وآله على الحضارة المعاصرة، وكان يقول: يمكن تأليف كتاب ضخم في هذا المجال ولكن ليس لديّ الوقت الكافي للقيام بذلك، ولذلك أؤكّد عليكم أن تقوموا أنتم بذلك، فإنّ ما ينعم به إنسان اليوم من خير مدين به للنبي صلّى الله عليه وآله.

لقد كان الغرب في القرون الوسطى يغطّ في ظلام الجهل والتخلّف في كلّ ‏المجالات كما يعترف مؤرّخوهم بذلك. ففي المجال الصحي كانت مستشفياتهم كاصطبلات الحيوانات، أما الوضع العلمي فيكفي أن نعرف أنهم كانوا يقتلون علماءهم ‏ويحرقونهم، والمقصلة الموجودة في لندن والتي كانت تفصل رؤوس العلماء - وغيرهم - عن أجسادهم شاهدة على ذلك.

وأما المرأة فكانت محتقرة أيّما احتقار، حتى بُعث نبينا صلّى الله عليه وآله وغمر العالم بأنواره، وما مبادئ حقوق الإنسان وحرية الرأي وما يعبّر عنه‏ بالديمقراطية في عالم اليوم إلاّ حصيلة احتكاك الغرب بالحضارة الإسلامية. فإذا كان الإنسان المعاصر ينعم بقدر من الحرية والأمن والعلم والمعرفة فإنما ذلك ببركة النبي الأعظم‏ صلّى الله عليه وآله. ولقد أشارت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء سلام الله عليها إلى بعض الجوانب من هذه النقلة النوعية التي حقّقها رسول الله صلّى الله عليه وآله ‏في قولها سلام الله عليها: «فأنقذكم الله برسوله صلى الله عليه وآله»[3].

اتضح إذن أن النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله لم يكن رحمة للمؤمنين أو المسلمين ‏فقط بل كان صلّى الله عليه وآله رحمة للعالمين جميعاً.

لا منافاة بين الرحمة والعقوبات الإسلامية السؤال الثاني: إذا كان الإسلام دين الرحمة والرسول صلّى الله عليه وآله نبيّ ‏الرحمة، فكيف نفسّر العقوبات الجزائية في الإسلام، أليست هذه العقوبات منافيةً للرحمة؟

نشير في الجواب - على نحو الإجمال أيضاً - إلى نقطتين:

النقطة الأولى: إن نظام العقوبات يمثّل جزءاً محدوداً من الإسلام، وإن قيمته ‏الكاملة تكمن في كونه يمثّل جزءاً من النظام الإسلامي كلّه، ولو فصلنا أي ‏جزء من المجموعة التي ينتمي إليها وعرضناه على أنه يمثّل الكلّ فإن الصورة التي يعكسها هذا الجزء قد لا تكون جميلة، بل ربما تكون قبيحة منفّرة.

والمشكلة أن بعض الناس يتصوّر أن الإسلام ليس سوى نظام عقوباته ‏الجزائية، فما إن يذكر اسم النظام الإسلامي حتى يتبادر إلى ذهنه أنه النظام الذي ‏يطبّق تلك العقوبات، فإذا قيل له مثلاً "لنعمل من أجل أن يصل الإسلام إلى الحكم" قفزت إلى ذهنه صورة قطع يد السارق وإقامة الحدّ على الزاني، مع أن الإسلام ‏أوسع من ذلك بكثير، ولو راجعتم كتب الفقه فسترون أنّ الحيّز الذي يشغله النظام ‏الجزائي ككتاب الحدود والقصاص والديات صغير قياساً إلى باقي الأجزاء مثل العبادات والمعاملات ‏والعقود والإيقاعات وغيرها.

وكان السيد محمد الشيرازي رحمة الله عليه يذهب - على تفصيلٍ ذكره - إلى أن نظام ‏العقوبات لا يُطبق إلاّ إذا طبِّق الإسلام كمجموعة متكاملة، فكان يقول: ينبغي أن يكون ‏النظام الاقتصادي إسلامياً وكذلك النظام الاجتماعي والسياسي ثم نقوم بعد ذلك بإجراء الحدود.

وقد روي أنه جي‏ء برجل سارق عند المأمون ليقطع يده، فاعتذر الرجل باضطراره، فالتفت المأمون للإمام الرضا سلام الله عليه ‏وسأله: ما تقول؟ فقال الإمام سلام الله عليه: فللّه الحجة البالغة، أي لقد احتجّ عليك فردّه بالحجة، فغضب المأمون على الإمام سلام الله عليه![4]

فكأنّ الإمام سلام الله عليه يقول في جواب المأمون: إذا كان النظام الاقتصادي فاسداً فقام فقير بالسرقة مضطرّاً، فلا معنى لتطبيق العقوبة عليه.

ولذلك نلاحظ أنه عندما كان النظام الإسلامي مطبقاً إلى حدّ ما، لم يكن ‏القضاة يعرفون بعض الحدود، لأنهم لم يكونوا بحاجة إلى تنفيذها، ولقد روى المؤرّخون: أن سارقاً سرق في عهد الإمام الجواد سلام الله عليه وجي‏ء به إلى القضاء، ولكن القضاة لم‏ يعرفوا مِن أين ينبغي أن تُقطع يده واختلفوا، حتى قاضي القضاة لم يعرف ‏الجواب فلجأوا إلى الإمام سلام الله عليه فبيّن لهم الحكم![5]

أما النقطة الثانية: فهي أن كلّ قانون بحاجة إلى ضمانة تنفيذية، ومن دونها لا ينجح القانون، والعقوبات تشكّل إحدى الضمانات لتنفيذ القانون، وعلى هذا جرت سيرة العقلاء؛ ولذلك يقول علماء الكلام: إن محركية القانون لا تتمّ إلاّ بالوعد والوعيد. ففي ظلّ نظام لا يعاقب المجرمين يفقد الناس الأمان ويطاردهم شبح العدوان ‏على أموالهم وأعراضهم وأرواحهم... ولا يهنأون بعيشهم؛ ولذلك قال‏ الله تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)[6]، فإن في موت القتلة حياة من سواهم من الأبرياء، وهذا يعني أن العقوبات الإسلامية رحمة للناس لأنها تحقّق لهم‏ حياة آمنة.

وظيفتنا تجاه الإسلام إذا عرفنا أن الإسلام دين الرحمة وأن نبينا صلى الله عليه وآله هو نبي ‏الرحمة كما روي عنه أنه صلى الله عليه وآله قال عن نفسه الشريفة: «إنما أنا رحمة مهداة»[7]، فما هي وظيفتنا تجاه هذا الدين الذي هو دين الرحمة؟

نقول في الجواب إن وظيفتنا الأولى تجاه الإسلام هو عرضه، ولا يكفي ‏عرضه نظرياً، بل لابدّ من عرضه عملياً أيضاً.

إن كثيراً من الناس لا يعرفون حقيقة الإسلام، ولو عرف الناس الإسلام على حقيقته ‏لأقبلوا عليه، فإن في الإسلام دقائق تكشف عن عظمته. إن الإسلام ليس رحمة للإنسان‏ فحسب بل هو رحمة للحيوان أيضاً. ولو راجعتم كتب الروايات للاحظتم روايات‏ عجيبة في هذا المجال. فهناك حقوق يذكرها الإسلام ‏للحيوان لم يصل إليها الإنسان المعاصر رغم الشعارات التي يرفعها في الدفاع عن حقوق‏ الإنسان وحقوق الحيوان.

من الروايات العجيبة في هذا المجال ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «نظّفوا مرابض الغنم وامسحوا رغامهنّ»[8].

فالإسلام يقول لأتباعه: حتى مرابض الغنم ينبغي أن تكون نظيفة، والأعجب من ذلك أنه يدعوهم لمسح رغامها أي ما يخرج ‏من أنوفها، فهل تجدون نظيراً لذلك في عالم اليوم؟

وهناك رواية مرويّة عن الإمام الصادق سلام الله عليه يعدّد فيها ستة حقوق ‏للدابة على صاحبها؛ يقول سلام الله عليه: «1. لا يحملها فوق طاقتها، 2. ولا يتّخذ ظهرها مجالس يتحدث عليها» فإنه إذا كان معذوراً أن يركبها حال السفر والتنقل، ‏فهذا لا يعني أن يتعبها من دون ضرورة فلا ينبغي له أن يظلّ راكباً عليها يحدّث‏ صديقاً له بل ينبغي له أن يترجّل عنها ثم يتحدّث!

«3. ويبدأ بعلفها إذا نزل» وهذا أيضاً من عجائب التشريع الإسلامي؛ فإن ‏السفر يُتعب الإنسان عادة، وعندما يصل المسافر يكون عادة منهكاً يفكّر في راحته وغذائه ‏أولاً - وهذا ما نلمسه عندما نسافر اليوم، فكيف إذا كان السفر على الدواب‏ وعبر الطرق القديمة - ولكن الإمام سلام الله عليه يقول: ينبغي أن تفكّر في علف الدابّة أولاً وليس في طعامك وشرابك.

ومن الحقوق «4. ولا يسمها» فإنهم كانوا يضعون علامات على ‏الدوابّ عن طريق كيّها في مواضع من بدنها، فنهاهم الإسلام عن ذلك.

ومن الحقوق أيضاً «5. ولا يضربها في وجهها فإنّها تسبّح، 6. ويعرض عليها الماء إذا مرّ به»[9].

وفي رواية أخرى «وأن لا يضربها على النفار»[10]، أي عندما تنفر.

والروايات في هذا الباب كثيرة سواء عن النبي صلّى الله عليه وآله أو عن‏ الإمام الصادق سلام الله عليه وهكذا عن سائر الأئمة سلام الله عليهم، وما أعظم ‏قول الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه في هذا المجال: «واللهِ لَوْ أُعْطِيتُ الأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ»[11].

ولصاحب كتاب «الحدائق» رحمه الله تعالى بحث حول حقوق الحيوان فيه بنود متعددة، يقول في البند (د): «قد صرّحوا - أي الفقهاء - بأنه حيث إن ديدان القزّ إنما تعيش‏ بالتوت - أي على أوراق التوت - فعلى مالكها القيام ‏بكفايتها منه (أي هذه وظيفته الشرعية) وحفظها من التلف فإن عزّ الورق» وشحّ في السوق ‏مثلاً وغلا ثمنها «ولم يعتن بها» فإن المالك قد لا يعتني في مثل هذه الحالة لأنه يرى أن ذلك يكلفه «باع الحاكم من ماله واشترى لها منه ما يكفيها»[12].

وهكذا نلاحظ أن رحمة الإسلام تشمل حتى ديدان القز، فكما إن للإنسان ‏حقوقاً فكذلك للحيوان بل إن رحمة الإسلام تشمل حتى النبات أيضاً كما يظهر بمراجعة «بحث النفقات» من كتاب «النكاح»، ولو عُرضت أحكام الإسلام وتعاليم النبي والأئمة المعصومين سلام الله عليهم ورواياتهم على ‏العالم عرضاً صحيحاً لأقبل نحوها أيما إقبال.

ولا بأس أن نستطرد لنذكر ما نقله أحد الإخوة المؤمنين[1] - وكان يعيش في الغرب - حيث ذكر أنه ‏أقيم احتفال لشخص يسمى «هارفي» باعتبار أنه مكتشف الدورة الدموية الصغرى، ‏فارتقى المنصّة وتحدّث عن اكتشافه، فصفّق له الحاضرون. يقول الأخ: وبعد أن انتهى تصفيقهم‏ أخذت أصفّق وحدي، فأخذوا ينظرون إليّ وسألوني عن سبب هذا العمل، فقلت‏ لهم: إنني لم أصفق لهارفي بل صفّقت لرجل منّا نحن المسلمين كان يعيش قبل ‏حوالي ألف وأربعمائة عام، هو الذي اكتشف الدورة الدموية الصغرى، فقيل لي: من‏ هو؟ قلت: إنه إمامنا جعفر بن محمد الصادق سلام الله عليه، فقد ذكر ذلك لتلميذه المفضّل بن ‏عمر، كما ورد في كتاب (توحيد المفضّل) ويمكنكم مراجعة الكتاب والتأكّد مما أقول، فصفّق الحاضرون كلّهم هذه ‏المرة معي ولكن للإمام الصادق سلام الله عليه.

إن تراثنا غني جداً ولكنا مع الأسف حصرناه في زوايا محدودة ولم ننشره للعالم.

بعد الحملة العالمية التي شُنّت على ‏الإسلام والتي رمته بالإرهاب والعنف، سألت أحد الإخوة المؤمنين الذين يعيشون في الغرب عن أثر هذه الحملات ‏على المجتمع الغربي، فقال: لقد ولّدت عندهم رغبة جامحة في التعرّف على هذا الدين. فقلت له: أهي مجرد رغبة في المعرفة أم هناك اعتناق أيضاً، فأجابني: المعرفة طريق الاقتناع والاعتناق.

وقد نقل أن في الغرب اليوم إقبالاً على تعلّم اللغة العربية لأنها لغة القرآن، كما نقل أن المصاحف الكريمة نفدت من الأسواق.

إن القرآن حقّ، ومن طبيعة الحقّ أنه يهزم الباطل. إن الحقّ يخيف أهل الباطل، لأن الناس إذا عرفوه تركوا الباطل واتجهوا إليه، كالشمس عندما تشرق، حيث تُطفَأ المصابيح التي كانت ‏مسرجة طوال الليل ويتمّ الاستغناء عنها، بل المصابيح الكهربائية نفسها عندما اخترعت قضت على المصابيح النفطية والشموع القديمة.

إن القرآن الكريم يؤثّر في أعماق الإنسان، وإنه ليؤثّر فينا ويهزّنا نحن‏ الذين عشنا في أجوائه منذ نعومة أظفارنا، فكيف بمن يسمعه لأول مرة؟!

ما ألذّ سماع القرآن وهو ينطلق من المآذن خاصة في الأسحار! وما أعظم أثره‏ في النفوس! إن الطاقة التي يولّدها القرآن في النفوس لا تماثلها طاقة.

وهكذا الأمر في أحاديث النبي صلّى الله عليه وآله وأحاديث ‏الإمام الصادق وأحاديث سائر الأئمة المعصومين سلام الله عليهم، كنهج البلاغة والصحيفة السجادية.

إن الشعوب إذا عرفت الإسلام أقبلت عليه، ولكن الحكومات المعادية للإسلام هي التي تتّهم الإسلام بالإرهاب وتسعى لتضليل شعوبها وتزييف وعيهم من خلال إلصاق التهم بالإسلام.

وقد نقل أحد الإخوة المؤمنين ممن يعيشون في الغرب أن البقال الذي‏كان يتبضّع منه، طلب منه بعد الأحداث المعروفة أن لا يأتي إلى محلّه بعد ذلك، وعندما سأله عن السبب قال: إني أشعر بالخوف عند مشاهدتك لأنك مسلم!! هكذا ملأوا أدمغة الناس بالتهم والأباطيل؟!

كما نقل أخ آخر أنه التقى شخصاً من كبارهم فقال له: إني عندما أرى هذه ‏المشاهد يقشعرّ بدني وأقول أحقّاً هذا هو الإسلام؟

يقول الأخ المؤمن: فقلت في جوابه: لا تظلم الإسلام، فهؤلاء لا يمثّلون الإسلام إنما هم فئة منحرفة؛ لأن نبي الإسلام هو نبي العفو والرحمة والتسامح والصفح والأخلاق العظيمة، وإنه عفا حتى عمّن جيّش الجيوش ضدّه ‏وقاد الجبهة التي قاومته وهو أبو سفيان، وعفا عن كلّ أهل مكّة، وعندما سألهم ‏وقد ربح المعركة: ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.[13]

ثم قال صلّى الله عليه وآله: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن![14] وأبو سفيان‏ بالنسبة للمسلمين كان كهتلر بالنسبة لكم، فهل كنتم ستعاملون هتلر لو ظفرتم به ‏كما عامل النبي صلّى الله عليه وآله أبا سفيان وقد أظفره الله تعالى به ونصره عليه نصراً مبيناً؟!

إذن علينا أن نعرض الإسلام من خلال سيرة النبي صلّى الله عليه وآله ‏والأئمة الأطهار سلام الله عليهم، وقد روي عن الإمام الرضا سلام الله عليه أنه قال: فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا.[15]

 
المصادر والمراجع

[1] سورة هود، الآية 119.

[2] سورة الأنبياء، الآية 107.

[3] بحار الأنوار: 29/ 236.

[4] قال ابن سنان: كان المأمون يجلس في ديوان المظالم يوم الاثنين ويوم الخميس ويقعد الرضا عليه السلام على يمينه، فرفع إليه أن صوفياً من أهل الكوفة سرق، فأمر بإحضاره فرأى عليه سيماء الخير، فقال: سوءاً لهذه الآثار الجميلة بهذا الفعل القبيح! فقال الرجل: فعلت ذلك اضطراراً لا اختياراً وقال الله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانف لإِثْمٍ فلا إثم) وقد منعت من الخمس و الغنائم. فقال: وما حقك منها؟ فقال: قال الله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ) فمنعتني حقي وأنا مسكين وابن السبيل وأنا من حملة القرآن، وقد منعت كل سنة مني مائتي دينار بقول النبي صلى الله عليه وآله. فقال المأمون: لا أعطّل حدّاً من حدود الله وحكماً من أحكامه في السارق من أجل أساطيرك هذه. قال: فابدأ أوّلاً بنفسك فطهّرها ثم طهّر غيرك وأقم حدود الله عليها ثم على غيرك. قال: فالتفت المأمون إلى الرضا عليه السلام فقال: ما تقول؟ ... قال: إن الله عزّ وجل قال لنبيّه صلى الله عليه وآله: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) وهي التي تبلغ الجاهل فيعلمها بجهله كما يعلمها العالم بعلمه، والدنيا والآخرة قائمتان بالحجة، وقد احتجّ الرجل. قال: فأمر بإطلاق الرجل الصوفي وغضب على الرضا في السرّ. (مناقب آل أبي طالب عليه السلام، محمد بن شهرآشوب المازندراني المتوفى عام 588هـ، مؤسسة العلاّمة للنشر، قم، 1379هـ.

[5] رجع ابن أبي داود (قاضي القضاة) ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتمّ فسئل عن السبب، فقال: وددت اليوم أني قد متّ منذ عشرين سنة. قيل له: ولم ذاك؟ قال: لما كان من هذا الأسود (الإمام محمد بن علي الجواد عليهما السلام) اليوم بين يدي الخليفة (يعني المعتصم) قيل له: وكيف كان ذلك؟ قال: إن سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحد عليه فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر محمد بن علي، فسألنا عن القطع في أيّ موضع يجب أن يقطع؟ فقلت: من الكرسوع. قال: وما الحجة في ذلك؟ قلت: لأن اليد هي الأصابع والكف إلى الكرسوع؛ لقول الله في التيمم (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وأَيْدِيكُمْ) واتفق معي على ذلك قوم، وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق. قال: وما الدليل على ذلك؟ قالوا: لأن الله لما قال (وأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) في الغسل، دلّ ذلك على أنّ حدّ اليد هو المرفق. قال: فالتفت إلى محمد بن علي فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ فقال: قد تكلّم القوم فيه فدعني. قال: أي شي‏ء عندك؟ قال: اعفني عن هذا. قال: أقسمت عليك بالله لما أخبرت بما عندك فيه. فقال عليه السلام: أما إذ أقسمت عليّ بالله أني أقول: إنهم أخطأوا فيه السنة، فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكفّ. قال: وما الحجة في ذلك؟ قال: قول رسول الله صلى الله عليه وآله: السجود على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، وقال الله تبارك وتعالى: (وأَنَّ الْمَساجِدَ للهِ) يعني هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) وما كان لله لم يقطع. قال: فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكفّ. قال ابن أبي داود: قامت قيامتي وتمنّيت أني لم أك حيّاً. (بحار الأنوار: 76/ 191).

[6] سورة البقرة، الآية 179.

[7] بحار الأنوار: 16/ 115.

[8] كتاب المحاسن للبرقي (أحمد بن محمد بن خالد - البرقي الابن) ج 2 ص 485، وسائل الشيعة: 11/ 513، الحديث 15403.

[9] الكافي: ج 6 ص 537.

[10] السَّكُونِيِّ عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عليهما السلام قَالَ: لِلدَّابَّةِ عَلَى صَاحِبِهَا سَبْعَةُ حُقُوقٍ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ (السابق) وَزَادَ: و لا يَضْرِبُهَا عَلَى النِّفَار (أمالي الصدوق ص 597).

[11] نهج‏ البلاغة: ص 346- من كلام له (عليه السلام) يتبرّأ من الظلم.

[12]- الحدائق الناضرة، للمحقق البحراني: ج 52 ص 143.

[13] لما كان فتح مكة ... دخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنّون أن السيف لا يُرفع عنهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله البيت و أخذ بعضادتي الباب ثم قال: لا إله إلا الله أنجز وعده ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده، ثم قال: ما تظنّون وما أنتم قائلون؟ فقال سهيل بن عمرو: نقول خيراً ونظن خيراً، أخ كريم و ابن عم. قال: فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)... فاذهبوا فأنتم الطلقاء. فخرج القوم كأنما أنشروا من القبور ودخلوا في الإسلام (بحار الأنوار: 21 / 132 باب 26- فتح مكة).

[14] عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله يوم فتح مكة لم يسب لأهلها ذرية، وقال: من أغلق بابه وألقى سلاحه أو دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

(بحار الأنوار : 21 / 117 باب 26- فتح مكة.

[15] بحار الأنوار : 2/ 30.

[1] المحاضرة لسماحة آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (حفظه الله).

ألقيت هذه المحاضرة في 15 ربيع الأول من عام 1425هـ ، على جمع من طلاّب العلوم الدينية في مدينة قم المقدّسة.

 
 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=57457
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 02 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18