• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : بحوث ودراسات .
                    • الموضوع : المرجعية الدينية ودورها في المجال السياسي .
                          • الكاتب : د . رزاق مخور الغراوي .

المرجعية الدينية ودورها في المجال السياسي

مدخل البحث[1]:

      الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه المبعوث رحمة للعالمين أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين وبعد ...

     تعد المرجعية الدينية الامتداد الحقيقي اللازم للإمامة التي تشكل بدورها الامتداد الطبيعي للنبوة في أبعادها المختلفة وخاصة في بعديها العقائدي والسياسي ، وقد رسم هذا الإمتداد للمرجعية الطريقة التي تنتهجها وتسلكها للتعامل مع جميع الظروف والأوضاع بما فيها الأوضاع والظروف السياسية ، وحسب الشروط والخطوط التي وضعها  أل بيت العصمة( ع ) ، فقد مـــر أهل البيت ( ع ) بمراحل وأدوار ذات ظروف وعوامل مختلفة جعلتهم يتصرفون مع تلك الظروف بما يتلائم مع شروط كل مرحلة ودور .

     وبما ان المرجعية الدينية هي الامتداد الطبيعي للامامة فان عملها يجب ان يكون في ظل  ما قام به أئمة أهل البيت ( ع ) من أدوار ومواقف مختلفة .

     وقد عُرِّفت المرجعية الدينية منذ الصدر الأول للاسلام عن طريق رجوع الناس الى العلماء من الصحابة الذين عُينوا من قبل الرسول الأعظم (ص) وأئمة أهل البيت (ع) ، وقد تضمنت النصوص الشريفة تصدي بعض علماء الشيعة لذلك مثل أبان بن تغلب ،  الذي قال له أبو جعفر الباقر ( ع ) ( اجلس في مسجد المدينة وافتِ الناس فاني أحب أن يُرى في شيعتي مثلك ، فجلس ) الفهرست 17 .

فالمرجعية الدينية في رأي العلماء هي رجوع عامة الناس الى المرجع ( المجتهد ) الجامع للشرائط الشرعية المنصوص عليها في رسائلهم العملية ، وبالاستناد الى قول الإمام المعصوم الحجة (عج) { أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا } وسائل الشيعة ج18 ص 101.

لقد تقلدت المرجعية الدينية وظائف وواجبات عديدة جعلتها تحمل أمانة الرسالة المحمدية و مارست الأدوار والمواقف والمراحل ضد حركة الانحراف والتدهور مثلما مارسها أئمة أهل البيت .

ومن خلال تصفح سفر تاريخ المرجعية الدينية والاطلاع على الوظائف والأدوار التي قامت وتقوم بها لقيادة المجتمع الإسلامي ، تتضح العلاقة المهمة بين المرجعية والسياسة في أن الأولى تؤمن بالضرورة المطلقة للقيادة السياسية التي تعتبرها الحد اللازم لضمان حقوق الناس وادارة المجتمع بصورة عادلة ، وترى المرجعية ووفقاً للشريعة الإسلامية بوجوب وجود حكومة أو قيادة سياسية تقود المجتمع نحو العدل والمساواة، وتؤكد المرجعية الدينية على ضرورة وجود القيادة السياسية مهما كانت الظروف حتى لو كانت القيادة فاجرة وآثمة تسلب الشعوب الكثير من حقوقهم ، لأن الفائدة من وجود تلك الحكومة هي إنها تذلل مصاعب الحياة وتحقق الأمن الاجتماعي والاقتصادي  لأجل المحافظـة على وجودها ، وهذا الأمن  يضمن ديمومة الحياة للأخيار والفجار على حد سواء وقمع الفتن التي تسود المجتمع وهذا لا يعني أن الإسلام المتمثل بالمرجعية الدينية يقر بشرعية الحكومة الفاجرة أو أفضليتها ، وإنما مثل هذه الحكومة تكون أفضل من حالة عدم وجود قيادة أو حكومة ، لأن عدم وجود قيادة أو حكومة يؤدي حتماً الى حدوث الفتن والشغب والفوضى وهذا لا يقره الإسلام ولا يريده بأي حال من الأحوال ، ومن هذا ترى الشريعة الإسلامية ،إن حكومة الأمير الفاجر افضل من لا حكومة تسودها الفوضى والفتن والشغب من باب المزاحمة والتسليم لأقل الأضرار، كما قال النبي –ص- (الإمام الجائر خير من الفتنة) شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني ج2 ص103 ،وكما قال الإمام أمير المؤمنين علي (ع) {أسد حطوم خير من سلطان ظلوم وسلطان ظلوم خير من فتنة تدوم } كنز الفوائد ج 1 ص 136 ، وبحار الأنوار ج 75 ص 359.

ومرت المرجعية الدينية وعبر تأريخها الطويل بعدة مراحل وتعرضت لضغوطات وصعوبات خارجية وداخلية عديدة ، الا انها وبعناية الله ولطفه ورعاية إمام العصر والزمان الحجة بن الحسن (عج) وبجهود العلماء الأعلام والفقهاء العظام ، تجاوزت كل تلك الصعوبات والمحن وبقيت متماسكة متأسية ومقتدية بخط أهل البيت (ع) .فقد تصدت المرجعية الدينية على سبيل المثال للحركات والتيارات الفكرية المنحرفة وما تحمله هذه التيارات من أفكار أجنبية دخيلة على الدين الإسلامي ، وكان دور المرجعية العملي ومواقفها التاريخية وجهادها المستمر هو خير دليل على أصالة هذه المؤسسة العظيمة وتحت راية صاحب العصر والزمان الحجة (عج) الذي يرعى هذه المؤسسة العظيمة ببركاته ودعائه .

وبما ان المرجعية هي امتداد لخط الامامة ، ولما قام به ائمة اهل البيت (ع) من أدوار ومواقف تجاه الحكام والظلمة من التحفظ والتزام التقية أحياناً وذلك للحفاظ على بيضة الاسلام ومنع حدوث الفتن والفوضى وضمان تحقيق المصالح العليا للمجتمع الاسلامي ،فان المرجعية الدينية بزعامة مراجعنا العظام قامت وتقوم بنفس هذه الأدوار والمواقف عند تعاملها مع الحكومات الجائرة ، فنراها مرة تتحفظ تجاه أمور أو تلتزم الصمت ، ومرة أخرى تتصدى لهذه الحكومات الجائرة وفق المصالح والمفاسد وشروط ومواقف كل مرحلة ، فهذه التصرفات التي تقوم بها المرجعية الدينية ومن يمثلها من العلماء والمراجع الأعلام إنما تكون مبنية على أسس صحيحة ومتينة ومستندة على النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة المروية عن أهل البيت (ع) ، لذلك لا ينبغي الطعن بهذه التصرفات أو انتقادها من قبل عامة الناس ، أو بعض الأشخاص الغير متخصصين (دون المجتهد)المحسوبين على هذه المؤسسة العظيمة .

 كما لا ينبغي إفساح المجال لأي شخص كان أن يقدح  بمرجعٍ من مراجع المسلمين متعارف على عدالته واجتهاده واستقامته وورعه عند العلماء والأوساط الحوزوية الموثوقة ،لأن العدالة والورع والاستقامة هي من ضمن الشروط المنصوص عليها من قبل أئمة أهل البيت (ع) ، في تعيين مرجع التقليد الواجب اتباعه ، فقد ورد عن الإمام الحسن العسكري (ع) انه قال : (من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فعلى العوام أن يقلدوه ،وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم ، فأما من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة ، فلا تقبلوا منهم عنا شيئاً ولا كرامة ) ، وسائل الشيعة ج18 ص94 . إضافة إلى الشروط السابقة فإن هنالك شروطاً أخرى لا بد من توفرها في مرجع التقليد وهي( الاجتهاد الأعلمية والحياة ، وهذه الشروط مثبتة في الرسائل العملية لمراجع التقليد ).

أن معرفة الحق لا تؤخذ من الرجال (غيـر المتعارف على ورعهم واستقامتهم ) مهما كان دورهم في المجتمع ، فالحق له أساس ومفهوم واضح يعرف عن طريق الفطرة الإنسانية السليمة ، كما يمكن معرفته بالأمور الحصولية (الكسبية) الناتجة عن الدراسة العقلية الصحيحة ، والحق هو الذي يعرِّف الرجال لا الرجال تعرِّف الحق ، كما قال مولانا أمير المؤمنين (ع) ما مضمونه ( اعرف الحق تعرف أهله ، اعرف الباطل تعرف أهله ) ، ومن هنا فإن من الأسس الصحيحة والمفهومة عقلاً وشرعاً ، إن الشياع المفيد للاطمئنان من قبل العلماء الأعلام والأوساط الحوزوية الموثوقة والمؤمنين عامة ، حول المراجع والعلماء ، هو أحد الطرق الموثوقة والصحيحة التي تؤكد على نزاهة وعدالة هذه المؤسسة العظيمة المتمثلة برجالها الأشراف ، ويوضح دورها الكبير في الحفاظ على مبادئ الإسلام وقيادة الأمة ونشر راية الهدى بعناية ورعاية صاحب العصر والزمان الإمام الحجة (عج) .وقد أكد علمائنا الأعلام على وجوب وجود الحكومة الإسلامية بزعامة الفقيه الجامع للشرائط الشرعية ( إذا توفرت الشرائط الشرعية لقيام مثل هذه الحكومة ) ، ويكون التسليم له كالتسليم للإمام المعصوم (ع) فالمكلف في حالة عدم رجوعه الى إمام مفترض الطاعة من الله يكون قد عمل بهواه ولم يهتدِ بهدى الله حيث قال المولى جل شأنه في كتابه المجيد ( ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ) القصص 50 .

     وبسبب الضبابية والغفلة التي تعيشها الأمة في هذه الأيام العصيبة وذلك بعد إثارة الشبهات والاستفهامات على المرجعية الدينية من قبل الوصوليين والعملاء والاستكبار العالمي ،وبسبب الشك والالتباس الذي يدور بخلد الكثير من الناس حول هذه المؤسسة الحقة ،لذلك رأينا أن نقوم بتكليفنا الشرعي للدفاع عن هذه المؤسسة العظيمة من خلال التعريف بالمرجعية الدينية وتوضيح المواقف والأدوار التي قامت وتقوم بها تجاه القضايا السياسية وغيرها من القضايا التي تهم الإسلام والمسلمين والتركيز على القضايا السياسية وكيفية التعامل مع علماء ومراجع الدين ، لأنها محور البحث الحالي.

ويتضمن البحث بعد معرفة ماهية المرجعية في مدخل البحث ثلاثة مباحث رئيسية هي:

المبحث الأول:الوظائف الأساسية للمرجعية الدينية.

المبحث الثاني:دور المرجعية الدينية في المجال السياسي.

المبحث الثالث:منهج التعامل مع مراجع الدين.

 المبحث الأول :الوظائف الأساسية للمرجعية الدينية/

يمكن تقسيم الأدوار و الوظائف الأساسية للمرجعية الدينية الى ثلاثة أقسام هي :

1. الإفتاء : وهو بيان معالم الدين والأحكام الشرعية للمكلفين وفق الشريعة الإسلامية السمحاء من قبل المجتهد الجامع للشرائط الشرعية ، فالأحكام الإلهية جاءت من خلال النصوص القرآنية أو النبوية المروية عن الرسول الأعظم (ص) بواسطة أئمة أهل البيت (ع) حيث ورد في الحديث عن الإمام علي (ع) أنها تناولت حتى أرش الخدش ، الذي هو مقدار العوض الذي يدفع للخدش البسيط لجسم الإنسان ، وقد جاءت الأحكام الشرعية في ضمن هذه النصوص المروية عن النبي محمد وأهل بيته وبالتالي تحتاج الى شيء من الأستنباط من قبل الفقهاء وذلك لأنهم الأقـدر على توضيح واستنباط الحكم الشرعي من مداركه المقررة .

2. القضاء : هو الفصل في الأمور التي يختلف فبها شخصان أو أكثر في أمر ما ، بمعنى تطبيق الحكم الشرعي على الواقعة الخارجية تشخيصاً يتطابق مع الحق ، ثم يطبق الحكم الشرعي  للفصل في هذه الخصومة والحسم لهذا النزاع ، فالقضاء من المهمات والمسؤوليات التي يمارسها المجتهد الذي يرجع اليه الناس ، فعن عمر بن حنظلة قال:سألت الصادق (ع) عن رجلين من أصحابنا بينهم منازعة في دين أو ميراث فتحاكما الى السلطان الجائر أيحل ذلك ، قال (ع) : من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به  ، قال الله تعالى( يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ) ـ النساء 60ـ قلت فكيف يصنعان ؟ قال (ع) : ينظران من كان منكم ممن روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعر ف أحكامنا فليرضوا به حكما فاني قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد والراد علينا راد على الله وهو على حد الشرك بالله (المجلسي بحار الأنوار ج104 ص262 ) وعن أبي عبدالله الصادق (ع) قال : القضاة أربعة : ثلاثة في النار وواحد في الجنة ، رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو  بالنار ، ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة ( وسائل الشيعة ج11 حديث6).

3. الولاية : تعتبر الولاية من الوظائف الدينية الرئيسية للإمام المعصوم (ع) وهي أهم منصب إلهي في النظام الإسلامي كما صرح القرآن الكريم بذلك قال تعالى { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ...} ـ المائدة 55 ـ ، وكذلك النصوص الواردة عن أئمة أهل البيت    ( ع) ، فهي ثابتة لهم قطعاً و يقيناً ، أما النصوص الواردة في بيان أن المجتهد العادل العالم بإلاحكام الشرعية له حق الولاية العامة بعد أهل البيت (ع) فهي قليلة وغامضة عند أكثر العلماء ، حيث ذهبوا الى عدم وجود النص على تعيين المجتهد (خصوصاً) لهذا المنصب الإلهي ، لكنهم رأوا بأن هذا المنصب الإلهي لا يمكن أن يترك خالياً من المسؤولية وإن المجتهد هو الذي يتولى هذا المنصب ولكن في دائرة الأمور الحسبية  التي تشمل مجمل القضايا التي يحتاج إليها المسلمون في معاشهم ومعادهم ودنياهم وآخرتهم ولا ينتظم من دونها دينهم ولا دنياهم ، ومن بين القضايا التي تهم المجتمع الاسلامي والتي يتعامل معها الفقيه الجامع للشرائط الشرعية ،هي القضايا والاحداث السياسية التي تمر بهذا المجتمع ،حيث يقوم الفقيه باستنباط الاحكام الشرعية السياسية الملائمة لكل مرحلة وظرف وزمان ، وعلى الرغم من اختلاف الاساليب وتعدد الادوات التي يستعملها الفقهاء عند تعاملهم مع تلك الاحداث والقضايا ،الا ان هدفهم واحد على مر العصور والازمنة ، الا وهو حفظ بيضة الاسلام واعلاء كلمة الله ، لذلك فهم يعتمدون في تعاملهم مع هذه القضايا على القواعد العامة والخطوط العريضة التي حددها اهل البيت (ع) في مختلف الادوار والمواقف التي مروا بها .

على أساس ذلك فإن دور أو عمل المرجعية لا يقتصر على إصدار الفتوى بل يمتد ليشمل حفظ بيضة الإسلام والدفاع عنه ، وقد ذكر سماحة السيد محمد سعيد الحكيم (دام ظله) في أحد الإستفتاءات الموجهة لسماحته حول دور ووظيفة المرجعية ما نصه ( نعم لا ريب إن من جملة الواجبات الشرعية حفظ بيضة الإسلام والسير بالإسلام والمسلمين نحو الأفضل وهو لا يخص المجتهد المقلَّد بل يعم كل أحد حتى عامة الناس ، لكن ضوابط العمل لا بد أن تكون شرعية وتمييز الضوابط الشرعية وتحديدها لغير المجتهد لا يتم إلا بالتقليد ، ومع إختلاف المجتهدين يتعين التقليد بالضوابط المذكورة في الرسائل العملية للتقليد ، لأنها هي التي دلت عليها الأدلة الشرعية ، وذكر ضوابط غيرها تلاعب بالأحكام الشرعية لا يسوغه الإهتمام بالوظيفة المذكورة بعد أن كان المطلوب القيام بتلك الوظيفة على الوجه الشرعي ، لا على وجه آخر إلا يأذن به الله تعالى ولا يبرئ الذمة معه ، نعم إذا عين المجتهد المقلَّد ضوابط العمل لنفسه وللناس فله أن يستعين في أداء الوظيفة بذوي الإختصاص والمعرفة ) المرجعية الدينية للسيد محمــد سعيد الحكيم ص 140.

فلا بد إذن من مرجع ديني تتوفر فيه الشروط الشرعية ( العدالة ، الإجتهاد ، الورع ،  الأعلمية ) لقيادة الأمة ، وهذه القيادة ناتجة من الضوابط الشرعية المبرءة للذمة ، أما في حالة السير وراء الأشخاص الذين يتخبطون يميناً وشمالاً ولا يعرفون من إحكام دينهم ودنياهم إلا الغرور والكبر البعيد عن الوجه الشرعي فإنهم لا يصلون الى الطريق المستقيم ، لإن العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا أرتحل ، ولا يكون العامل بلا عمل إلا كمن يسير على غير هدى لا تزيده سرعة السير إلا بعداً ، ومن هنا نفهم أن المتفقه بالدين يمثل عنصراً رئيسياً في قيادة المجتمع الإسلامي ، والقاضي الذي يفصل الخلافات التي تحدث بين الناس ، ويبلغ الأحكام  الإلهية التي نزلت من السماء ضمن ضوابطها الشرعية ويبين للناس المنهج الذي يجب أن يقتدوا به .

     بما أن المرجعية هي الامتداد الطبيعي لبحر الإمامة والعصمة وما يكنزه هذا البحر من جواهر عقائدية وسياسية ، فان عمل المرجعية يكون وفق ما قام به أئمة أهل البيت (ع) من أدوار ومواقف مختلفة ، وبدءاً بالموقف العلوي وانتهاءً بالموقف العسكري والحجة بن العسكري(عج)، حيث أن مراجع الدين لا تقتصر وظيفتهم على كتابة الرسائل العملية وإدارة شؤون الحوزات العلمية ، وإن كانت هي من أهم الوظائف، ولكن هنالك مسؤولية مهمة اخرى وهي لمن يكون قادراً على أن يشخص للأمة النمط الصحيح للتعايش وفق الظروف والمعترك السياسي الحاصل ، هل هي شرائط أمير المؤمنين (ع) حتى يكون الموقف أو الدور علوياً ، أم هي الظروف السياسية  للإمام الحسن حتى يكون الموقف حسنياً ، أم هو المعترك السياسي والظرف الذي عاشته الامة زمن الإمام الحسين (ع) حتى يكون الموقف حسينياً ، وهكذا الى آخر قائمة أهل البيت (ع) ، أي فكما اختلفت أدوار ومواقف الأئمة (ع) على الرغم من أن هدفهم واحد ، فكذلك تختلف مواقف وأدوار مراجع التقليد من ظرف الى آخر ، فمنهم من قام وقاوم بالمواجهة المسلحة ضد الحكومات الجائـرة في زمانهم ، لأنهم رأوا أنة التصدي العسكري لهذه الحكومات الظالمة هو الأنسب لذلك الظرف ، ومن أمثال هؤلاء المراجع العظام ، الشيخ محمد تقي الشيرازي والسيد محمد سعيد الحبوبي والشيخ أحمد الناراقي والسيد محمد المجاهد بن السيد صاحب الرياض ، والسيد الشهيد محمد باقر الصدر ، والسيد الشهيد محمد باقر الحكيم ، وجماعة كثيرين (قده) ، في حين قام جمع آخر من المراجع باتباع أسلوب التصدي السلمي أو الفكري للحكومات الجائرة ومن أمثال هؤلاء ، الشيخ محمد جواد البلاغي الذي تصدى للمد الشيوعي والإلحادي ، وسماحة السيد حسين البروجردي الذي تصدى لحكومة الشاه ، والسيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الموسوي الخوئي اللذان تصديا للحكم البعثي الظالم فضلاً عن ذلك فقد تصدى السيد عبد الأعلى السبزواري والسيد محمد الصدرللحكم البعثي البائد، وقد استمرت من بعدهما المرجعية الدينية بزعامة السيد علي الحسيني السيستاني(دام ظله) بالتصدي لهذا الحكم الظالم وإفشال مخططاته في تمزيق وحدة الصف الإسلامي، ومن هذا المنطلق فإن الواجب الشرعي للمكلف هو الإنصياع التام لمرجع التقليد الذي يقلده ، وعليه السمع والطاعة وليس من حقه أن يقدح المرجع الذي يقلده أو غيره من المراجع ، فلكل مرجع تقليد موقفه الشرعي تجاه الأمور والقضايا التي تحيط بالأمة ، ومن ذلك يتضح أن وظيفة ودور المرجعية الدينية هي إصدار الفتاوى الشرعية لبيان الأحكام الشرعية ، وتوضيح معالم الدين وتبليغها للناس ، وكذلك من واجباتها الشرعية حفظ بيضة الإسلام والدفاع عنه ، فلولا جهود ومواقف علماؤنا الأعلام وفقهاؤنا العظام لذهبت واندرست معالم الدين الإسلامي الأصيل .

 المبحث الثاني:دور المرجعية الدينية في المجال السياسي/

تمهيد :

     إن من أهم الوظائف الأساسية للمرجعية الدينية هي إصدار الفتاوى في الأحكام الفقهية، وذلك لتعريف الناس بالأحكام الشرعية تجاه الأحكام الصادرة من الله سبحانه وتعالى في العبادات والمعاملات والديات وغيرها من الأحكام ، وهذا الدور أو الوظيفة أو الأمانة التي حملتها المرجعية منشأها الأنبياء والأوصياء (ع) وصولاً  للخاتم (ص) وأهل بيته (ع) الذين أسسوا المدرسة الفقهية ضمن المنهج المرسوم لهم من الله سبحانه وتعالى حيث غرسوا بذورها و ثبتوا جذورها حتى وصلت بنور الرسول الأعظم (ص) وأهل بيته الى المقام المحمود مقام الصراط المستقيم ألا وهو مقــام النجاة ، إن دور المرجعية الدينية ناتج من دور الأنبياء (ع) على أساس النظرية الإسلامية الهادفة الى تفقيه المجتمع وقيادته وإدارته نحو الطريق الصحيح وضمن الضوابط الشرعية .

المواقف والادوار القيادية لأهل البيت (ع) :ـ

     لقد قام السيد الشهيد محمد باقر الصدر في كتابه ( أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف  ص 115 ، 116) ، بتحديد الأدوار القيادية للأئمة (ع) وما قاموا به تجاه المجتمع من جهة ، وتجاه الحكام والمنحرفين من جهة أخرى ، وذكر (قده)  أن هنالك ثلاث مراحل تاريخية في قيادة الأئمة للمجتمع وهي :

المرحلة الأولى :

وهي مرحلة تفادي اضرار صدمة الإنحراف وقد عبر عنها الشهيد الصدر( قده ) بقوله ( هذه المرحلة هي التي عاش فيها قادة أهل البيت (ع) مرارة الإنحراف ، وصدمته بعد وفاة الرسول (ص)وكانت مرارة هذا الانحراف ، وصدمة هذا الانحراف الذي كان من الممكن أن تمتد وتقضي على الإسلام ومصالحه وعلى الأمة الإسلامية ، فتصبح قصة من قصص التاريخ لا وجود لها ألا في الزمن الماضي .

الأئمة (ع) في هذه المرحلة عاشوا صدمة الإنحراف وقاموا بالتحصينات اللازمة بالقدر المستطاع بكل العناصر الأساسية للرسالة ضد صدمة الإنحراف ،  فحافظوا وحفظوا الرسالة الإسلامية المحمدية الاصيلة .

     وقد بدأت هذه المرحلة بعد وفاة الرسول (ص) واستمرت حتى حياة الإمام الرابع من أئمة أهل البيت (ع) .

المرحلة الثانية : 

     بناء الكتلة الواعية وقد وصفها السيد الشهيد الصدر( قده ) بالمرحلة التي شرع فيها قادة أهل البيت (ع) بعد أن وضعوا التحصينات اللازمة وفرغوا من الضمانات الأساسية ضد حركة الانحراف ، ببناء الكتلة ، بناء الجماعة المنظمة تحت لوائهم ، المتعايشة مع كل الحدود والأبعاد والمفاهيم الإسلامية مسترشدون بإرشاداتهم مطيعون لأوامرهم(ع) ، حتى تكون هذه الجماعة هي الرائد والقائد والمحامي للوعي الإسلامي الذي حصن بالحد الأدنى . هذا العمل مارسه الإمام الباقر (ع) على مستوى القمة وأن هذه المرحلة استمرت الى زمن الإمام الكاظم (ع) وفي زمنه(ع) بدأت المرحلة الثالثة .

المرحلة الثالثة :

     ظهور الكتلة الواعية بمستوى تسلم زمام الحكم وقد وصف السيد الشهيد الصدر(قده) هذه المرحلة بقوله ( لا تحدد هذه المرحلة بشكل بارز موقف الحكم المنحرف من الأئمة (ع ) أنفسهم  وذلك لأن الجماعة التي نشأت في ظل المرحلة الثانية التي وضعت بذرتها في المرحلة الأولى نشأت وتمت في ظل المرحلة الثانية ، هذه الجماعة غزت العالم الإسلامي آنذاك ، وبدا للمخالفين ان قيادة أهل البيت (ع) أصبحت على مستوى تسلم زمام الحكم والعودة بالمجتمع الإسلامي الى حظيرة الإسلام الحقيقي ، وهذا خلف بشكل رئيسي ردود الفعل للمخالفين تجاه الأئمة ( ع) من أيام الإمام الكاظم (ع) .

     وهذه المرحلة امتدت من زمن الإمام الكاظم (ع) الى الإمام العسكري (ع) ، وقد قام الائمة (ع) في هذه المراحل الثلاثة بالتحصينات اللازمة لصد الإنحرافات التي حدثت بعد وفاة الرسول الأعظم (ص) ، وبعد الفراغ من الضمانات الأساسية ضد حركة او هجمة الانحراف ، اتجهوا الى بناء كتلة واعية منظمة بكل الحدود والأبعاد الإسلامية المتبناة من قبلهم ، لتكون هذه الجماعة الحاملة للفكر الإسلامي الأصيل والقائدة والحامية والمدافعة عن الدين الإسلامي المحمدي الأصيل ، وبالتالي وبكل إطمئنان تصبح على مستوى يمكنها من تسلم زمام الحكم والعودة بالمجتمع الإسلامي الى حظيرة الإسلام الحقيقي ، وهذه المراحل خلفت وبشكل رئيسي ردو الفعل للمخالفين المنحرفين عن خط الرسالة السماوية تجاه الأئمة (ع) ، وبهذا فإن الأئمة (ع) وعلى إختلاف أدوارهم وقفوا على خطين رئيسيين في تصديهم لهذه المهمة أو لهذا الإنحراف والضياع ( أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف للسيد محمد باقر الصدر ( قده ) ص 116 ):

الخط الأول:  هو خط تسلم زمام التجربة ، زمام الدولة ، ومحو آثار الإنحراف ، وإرجاع القيادة الى موضعها الطبيعي .

الخط الثاني : هو خط تحصين الأمة ضد الإنهيار ، بعد سقوط التجربة واعطائها من المقومات القدر الكافي ، لكي تبقى وتقف على قدميها .

     وقد قام الأئمة (ع) بأداء الخط الذي يتلائم مع ظروف كل مرحلة من المراحل الثلاثة السابقة ، فترى أن الخط الأول الذي هو تسلم زمام الحكم لم يتلائم مع الظروف التي أعقبت وفاة الرسول الأكرم (ص) وكان ذلك يرجع الى عدة أسباب أهمها فقدان الوعي الإسلامي مما أدى الى عدم وجود المساندة الفعلية من قبل الأمة لذلك فقد إتجه تركيز الأئمة (ع) الى اداء الخط الثاني وهو تحصين الأمة من الانهيار ، وأول من قام بأداء هذا الخط هو الإمام علي (ع) بعد وفاة الرسول (ص) وأحداث سقيفة بني ساعدة  حيث واجه الإمام علي (ع) بعد وفاة الرسول الأعظم (ص) معضلات ومشاكل غاية في الصعوبة والتعقيد في المجالين السياسي والاجتماعي ، فبعد أن استولى الأول على مقاليد الحكم وأبعد أمير المؤمنين (ع) عنها ، حدث الانحراف والتدهور في الدولة الإسلامية ، فكيف واجه أمير المؤمنين (ع) هذا الانحراف والتدهور ؟ لقد قام (ع)باحراز القدر المستطاع وذلك بتحصين المجتمع الإسلامي من هجمة الانحراف والتدهور من خلال تقويم التجربة ونشر الفكر الإسلامي المحمدي الأصيل، وتنازل عن حقه في الولاية على المسلمين لأجل حفظ بيضة الإسلام، فعن اميرالمؤمنين (ع) قال (فما راعني الا انثيال الناس على فلان يبايعونه فامسكت بيدي حتى رايت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام يدعون الى محق دين محمد (ص) فخشيت ان لم انصر الاسلام واهله ان ارى فيه ثلماً او هدماً تكون المصيبة به علي اعظم من فوت ولايتكم التي انما هي متاع ايام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب او كما يتقشع السحاب فنهضت في تلك الاحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه . (نهج البلاغة الخطبة الشقشقية) .

فنرى أن هذا الدور لأمير المؤمنين (ع) قد تميز بانتهاج أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة والأبتعاد عن إستخدام أسلوب المعارضة المسلحة وذلك مما يتلائم مع ظروف هذه المرحلة ،حيث أن ظروف هذه المرحلة قد شابها موانع كثيرة أدت الى أن ينتهج أمير المؤمنين (ع) مرغماً ذلك الموقف السياسي والذي كان من أهمها فقدان الوعي الإسلامي وقلة الناصر ، ووجود قطاع واسع من المنافقين في المجتمع الإسلامي ، فعن أمير المؤمنين (ع) قال( اللهم انك تعلم أن النبي (ص) قد قال لي ان تمّوا عشرين فجاهدهم وهو قولك في كتابك  { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين }ـ الأنفال 65ـ قال الراوي وسمعته يقول اللهم وانهم لم يتموا عشرين حتى قالها ثلاثاً  ) المجـلسـي البحــار ج 28 ص 229 .

لذلك نرى ان هذه العوامل والظروف قد شكلت معوقات كبيرة أمام الإمام  (ع ) في تسلم زمام قيادة الامة ، ومن ثم أدت فعلاً الى عدم تسلمه السلطة والقيادة الشرعية ، ولكن عندما تولى الإمام علي (ع ) الخلافة وأصبحت لديه القوة والمساندة الكافية ، تغير موقفه السياسي هذا واتجه نحو التصدي المسلح والمباشر للأنحراف في معاركه الخالدة ضد الناكثين والمارقين والقاسطين ، ومن ثم فقد انتهج الإمام(ع) أكثر من خط ، وذلك وفقاً لظروف وشروط كل مرحلة ، وبسبب وجود نفس الموانع التي واجهت الإمام علي(ع ) في زمن الإمام الحسن (ع) ، فقد قام الإمام الحسن (ع) باتباع نفس الخط الذي رسمه أمير المؤمنين(ع) وهو اتباع أسلوب الهدنة والمعارضة السلمية من أجل حفظ الإسلام والمسلمين ،حيث قام بعقد الصلح مع معاوية الذي يعتبر طاغوت ذلك الزمان والتصدي للإنحراف الذي واجه الأمة الإسلامية والقيام بتعبئة الأمة فكرياً وإنضاج وعيها حول حجم الإنحراف ووضعها أمام مسؤولياتها .

أما في عهد الإمام الحسين (ع) فقد بلغت الأمة حداً من النضج والوعي حول الأوضاع المتردية والمنحرفة للحكومة وضرورة تغييرها والإستعداد للمواجهة لإعادة الأمور الى وضعها الصحيح ، لذلك فقد ركز الإمام الحسين (ع) على الخط الأول بحيث أتجه الى الثورة والمواجهة المسلحة للتصدي للإنحراف الأموي ، فرأى الإمام الحسين (ع) أن من شروط هذه المرحلة هي أن يستخدم القوة المسلحة ضد الحكومة الأموية ، قد أوضح السيد الشهيد الصدر (قده) في كتابه ( أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف )، المبررات التي دفعت الإمام الحسين (ع) الى ذلك بقوله ( ان الأمة كانت مصابة بمرض الشك في زمن معاوية ابن أبي سفيان وقد عالجه الإمام الحسن (ع) بالصلح مع معاوية ، أما في زمن يزيد فان الأمة برأت من ذلك المرض وكانت تعرف الحق وأهله وتعرف الباطل وأهله ولكنها أصيبت بمرض آخر وهو مرض فقدان الإرادة أو فقدان الضمير وهذا المرض لم يكن له من علاج لكي تبرأ الأمة منه سوى أن يقدم الإمام الحسين (ع) على التضحية بنفسه وأهل بيته وأصحابه لكي يهز بها الضمائر الميتة ويبعث الشجاعة والإرادة فيها ).

وفي زمن الإمامين الباقرين (ع) كانت الأمة الإسلامية تمر بمرحلة إنتقالية من الدولة الأموية الى الدولة العباسية ، وكانت هنالك فرصة متاحة كما يقول السياسيون لأهل البيت للقيام بثورة عسكرية للسيطرة على الحكم وإرجاعه الى أهله ، ولكن بدلاً من ذلك قام الإمامان (ع) بتأسيس أكبر جامعة علمية في ذلك العصر لنشر أفكار أهل البيت (ع) ، أي إنهما وقفا على الخط الثاني ، وهو تحصين الأمة من الانهيار وإعطائها من المقومات القدر الكافي لكي تبقى وتقف على قدميها .

وقد كانت تأتي الرسائل من خراسان الى الإمام الصادق تدعوه للموالاة والثأر لأهل البيت (ع)، لكنه كان يقوم بحرقها ويقول (ع) ( يا فلان ليس الزمان زماني ولا فلان من رجالي ) ، فقد كان (ع) يؤكد على الدرس ونشر العلوم الإسلامية ، أما الإمام الرضا (ع) فنراه قد قبل ولاية العهد من قبل المأمون العباسي ، وهذ القبول كان يتماشى مع الظروف التي كانت سائدة في تلك المرحلة ، وهنالك رواية توضح موقف الإمام الرضا (ع ) من قبوله لولاية العهد ، فعن أبن الصلت قال : ان المأمون قال للرضا (ع) : يا بن رسول الله قد عرفت فضلك و علمك وزهدك وورعك وعبادتك وأراك أحق بالخلافة مني ، فقال الرضا (ع) بالعبودية لله عز وجل أفتخر وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا ، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم ، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله ، فقال المأمون إني رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك وأبايعك ، فقال الرضا (ع) : إن كانت هذه الخلافة لك وجعلها الله لك فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسه الله لك وتجعله لي، أو إن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك ، فقال يابن رسول الله لا بد لك من قبول هذا الأمر ، فقال لست أفعل (فأصر عليه كثيراً والإمام يرفض ذلك ) فقال الرضا (ع) : حدثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين عن رسول الله(ص) أني أخرج من الدنيا قبلك مقتولاً بالسم مظلوماً تبكي علي ملائكة السماء  وملائكة الأرض ، فقال الرضا (ع) والله ما كذبت منذ أن خلقني ربي عز وجل وما زهدت في الدنيا للدنيا وإني أعلم ما تريد ، فقال المأمون وما أريد ، فقال الإمام الرضا (ع) : تريد أن تقول الناس إن علي بن موسى الرضا لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه ، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً بالخلافة ، بحار الأنوار مجلد 49  ص 128.

هكذا كان دور أئمة أهل البيت مع حكام وطواغيت زمانهم ، حيث كانوا (ع) يعملون وفق الشروط والظروف المتاحة لهم .

المبحث الثالث:منهج التعامل مع علماء الدين/

ويتناول هذا المبحث ثلاث نقاط رئيسية هي:

1- التعامل مع العلماء على أساس التقديس .

2- التعامل معهم على أساس الطعن.

3- التعامل مع العلماء على أساس التوازن الشرعي .

أما بالنسبة التوجه الأول: فقد يقال بعدم وجود مثل التوجه كظاهرة يمكن تسليط الضوء عليها في الوقت الحاضر , ولكن الأمر ليس كذلك وذلك أمر تكذبه الوقائع الخارجية , فان الكثير من أتباع بعض العلماء ربما يصل بهم الأمر الى عدم فرض وقوع الخطأ منهم وهذا في الأمور الشخصية قد يكون متصورا لأنه يلزم منه نسبته الى الخلل ولكن الأمر قد يصل أحيانا حتى الى القضايا العلمية التي لم يقل احد بحرمة نسبة الخطأ الى أصحابها واستثنيت من موارد الغيبة في الفقه الإسلامي .

      ومن خصوصيات هذا التوجه انه قد يصدر من أشخاص تغيب عنهم الرؤية الصحيحة في التعامل مع القضية المذكورة كما هو الغالب في مثل هذه الفئة التي تفتقر الى القصور تارة والى التقصير أخرى .

     وهذا التوجه من غرابته انه قد يجمع بين توجهين متناقضين وهما التوجه الأول والثاني وهذا يدل على وجود سلوك نفسي منحرف عند هؤلاء ويكشف عن ذلك عدم قبول نسبة الخطأ الى من يحبونه في الوقت الذي يعيشون حالة الانحراف الأخلاقي بالنسبة للعلماء الآخرين .

وأما بالنسبة الى التوجه الثاني: فانه توجه يرتبط بالتوجه الأول من جهة إمكان الاجتماع في مورد واحد ويفتقر عنه بأنه قد يكون فكرا كما في حالة تبني أفكار بعض المندسين على الفكر الإسلامي ممن كتبوا حول سيرة بعض العلماء فانزلوا أمراضهم النفسية وتفاهاتهم الكتابية في مؤلفات لا يبحث عنها إلا التافهون من أنصاف المثقفين أو الغائبون عن الفكر الإسلامي ممن ولج الى الفكر الإسلامي عن طريق كتابات بعض المتطفلين وهذا التوجه يعد اخطر التوجهات الموجودة في الساحة الدينية من جهة أن التوجه الأول عندما يتمحض في الذود عن سمعة العلماء ويمنع من الكلام فقد لا يصاحبه طعن في الطرف المخالف .

  وهذا التوجه في الغالب أصبح منطلقا من توجهات خاصة أو من أخطاء وقعت هنا أو هناك من قبل البعض واعتبرها هؤلاء سنة يجب الالتزام بها والتقيد بتفصيلاتها في الوقت الذي كانت هذه الأمور قد صدرت في غفلة من الزمن ولم يكن مطلقها أفضل حالا عند الله من الملتزم بها غفلة وغرورا .

وأما التوجه الثالث: فهو التوجه الذي يدعو له كاتب هذه السطور انطلاقا من عدة عوامل شرعية تمنع انتهاج المنهجين الآخرين في التعامل مع العلماء كما إن النهج المذكور لا يعبر عن انحراف نفسي أو سلوكي في تصرفات الأشخاص وهو متناسب مع الشخصية السوية من الناحية النفسية فان الطعن من الناحية النفسية يعتبر توجها نحو الاعتداء وهو سلوك مرضي في نظر علماء النفس والأخلاق لأنه يتضمن خروجا عن جادة الوسطية بين الإفراط والتفريط .

وقبل الخوض في خلفيات القضية من الناحية الفكرية يجب الوقوف على العوامل المؤيدة للنهج المختار وهو المنهج المتوازن في التعامل .

أسباب صيانة حرمة العلماء :

        إن الخوض في سيرة الناس باعتباره فعلا من أفعال المكلفين فهو يحتاج الى تنظير فقهي , والتنظير الفقهي لمثل هذا الأمر بالنسبة الى المؤمنين فضلا عن العلماء هو الحرمة لان الفرض أن الكلام عنهم يكون في الغالب في حال غيبتهم , والحكم الثابت في مثل هذه الحالة هو الحرمة , ومنه يبدو مدى الغفلة التي يعيشها أؤلئك المنتهجين للمنهجين الأول والثاني , وقد يظن البعض إن المسالة كما إن لها أصلا محرما لمثل هذا التصرف فانه من الممكن القول أن هناك موارد قد أجيز فيها الخوض في سيرة الناس دون محذور شرعي ؟؟؟؟

          والجواب عن ذلك إن تلك الحالات المذكورة في الفقه لم تتضمن مثل هذه الحالة لان تصوير الحالة هو الذي يحدد الموقف الشرعي منها , ومن الواضح أن الموارد المذكورة لا تنطبق على هذه الحالة التي نبحث عن حكمها, إذن فمن الناحية الفقهية ليس هناك أي منفذ يمكن الاستناد إليه في مثل هذه القضية فالمخالفة - بحسب هذا التصوير على حد تعبير الأصوليين قطعية .

         وقد يحاول البعض تبرير مثل هذه الأمور بان الحديث يختلف عندما يتعلق الأمر بالحديث السياسي عن مصير الأمة الإسلامية أو مستقبل المذهب باعتبار إن هذا الأمر من الأهمية بمكان تزول معه كل هذه القيود التي توضع في الحالات العادية ؟؟؟

          والجواب هو ان الحديث  عن مصير الأمة الإسلامية لا بد أن يكون على منهج الإسلام لا منهج الرغبات المرضية التي تحملها بعض النفوس الضعيفة .

 كما المتحدثين في هذه الأمور يمثلون هذا التوجه الإسلامي وهو يمنع من مثل هذه التجاوزات الصارخة والتي تعد من أهم الاختراقات الفكرية   التي غابت عن ذهنية هؤلاء الذين خدعوا أنفسهم بمشروعية ما يقومون به وهم يخدمون تلك التوجهات من حيث لا يشعرون .

      ومن خلال هذا الطرح يتبين النهج السليم في التعاطي مع هذه القضية وذلك من خلال حفظ كرامة العلماء وحرمتهم لا من جهة الايمان فقط بل من جهة إن الوارد في الروايات أن العلماء قادة  أو حكاما  حتى على الملوك وهذه القيادة والحاكمية  المذكورة ليست منحة شخصية يمكن التنازل عنها واعتبارها سبة في الوقت الذي ينبغي أن تكون سببا لاحترام متعلقها .

المساحة الشرعية في الرد على العلماء :

 قد يفهم البعض من خلال الحديث المتقدم إن مسالة الحديث مع العلماء تشبه الى حد بعيد الحديث المحرم بين الجنسين لان الحرمة التي تمخض عنها يشير الى ذلك عمليا, ولكن الأمر ليس كذلك لان الحديث  يختلف باختلاف نوعه لان الحديث الممنوع شرعا وتترتب عليه تلك الآثار هو الحديث عن العلماء بالسوء وليس الحديث مع العلماء في القضايا التي ليس فيها سلطان لأحد ما دام مستجمعا لمواصفات المحاور من الناحية العلمية, ولذلك نجد الحديث في القضايا العلمية داخل الحوزة العلمية مفتوح لكل احد وهو المستثنى من موارد الغيبة عندما يكون ردا على فكرة فاسدة أو عقيدة مضللة وان استلزم التقليل من شخصية قائلة لعدم إمكان التفكيك بين القول أو العقيدة وصاحبها .

      ومن الجدير بالذكر ان أكثر الكتاب الذين يصنفون على الانحراف كانوا قد انطلقوا من هذه النقطة الجوهرية وهي التدخل في الحديث التخصصي دون ان يكون عندهم علم أو دراية وهذا ما يفسر لنا ظاهرة انتشار مثل هذه المؤلفات بين ضعاف النفوس لأنهم سيقرؤون على أيديهم تلك الأمراض التي تأصلت في نفوسهم المريضة خاصة الكتاب الذين لهم تاريخ مع بعض الجهات , ولذلك نجد التأكيد في بعض كتابات هؤلاء على الجهات التي كانوا يعملون معها وعند الرجوع الى كتاباتهم في تلك الأزمنة سنجد التبجيل والتعظيم للأعمال فيما نجد خلاف ذلك تماما في كتاباتهم الأخيرة مع العلم ان أكثر هؤلاء لا يحملون تخصصا فيما يكتبون وربما لا يصدق على بعضهم أكثر من صحفي تقمص شخصية كاتب أو مؤرخ أو مفكر ...

        كما ان من الغريب جدا ان الحصة الأكبر من هؤلاء كانوا يتعاطون العمل السياسي في وقت من الأوقات مع بعض التنظيمات الإسلامية وقد خرجوا على تلك التنظيمات بصورة الجنين المشوه الذي لن يعيش طبيعيا لان التشوه قد أصاب عقله قبل ان يصيب بقية الجوانب في شخصيته .

      وترى تلك المؤلفات يحرص أصحابها على التعرض للشخصيات التي لا تتعاطى العمل السياسي مخافة السطوة أو الذين يملكون دينا ولا يلجاؤون الى السطوة حتى مع العمل السياسي .

الخلفيات الفكرية للطعن بالعلماء:

حرص الاستعمار منذ أن وطأت أقدامه  الأراضي الإسلامية على أن يقوم بما يفتت وحدة العقيدة التي تجمع المسلمين في كل حدب وصوب لذلك فانه قد حاول وكما هو معلوم لمن ألقى السمع وهو شهيد أن يحقق ما يصبو إليه من ذلك الوجود اللاشرعي في هذه البلاد الغافلة عن نواياه السيئة ومخططاته الشيطانية .

ولقد كان هذا العدو الغاشم يعلم جيدا كيف يجمع المعلومات عن هذه البلاد المستضعفة بواسطة عيونه ومستشرقيه الذين ملأوا البلاد الإسلامية فكانت التقارير تصل إلى دوائر التخطيط والهدم الشيطانية بشكل متواصل .

وقد علم من خلال تواجده المذكور إن هناك أشياء لا يمكن مقامتها وهناك أشياء قد تكون اقل تأثيرا من غيرها وقد فحص جيدا تلك الجوانب ليوجه سهامه إليها ليحقق بعض النصر ما دام النصر الكامل لا سبيل إليه.

من هنا  فانه قد نجح في كثير من الأحيان في التغلغل بين الأذهان الساذجة وطرح أفكاره باعتبارها تمثل الجانب الإصلاحي في العقيدة لذلك فانه لن يحتاج إلى تجشم عناء الإجابة إذا قيل لأولئك المصلحين (حسب زعمهم) إن ما طرحتموه لم يكن مقبولا وقاومه الكثيرون من أهل الفضل والعلم لأنه قد استفاد من مقولة شائعة بين الأوساط الدينية خاصة والأوساط العلمية عامة إن كل جديد يحاربه الناس وذلك لا يحتاج إلى كبير عناء لإثباته وقد يستشهد بسيرة العلماء المصلحين لدعم ما دعا إليه وليبرر ما لقيه من عدم القبول من الآخرين .

ولكن في الجانب الآخر كان هناك من اكتشف هذه الفرية التي غرسها أولئك في النفوس لغاية شيطانية لكن الحقيقة هي أن هذه الحالة المذكورة مسلمة لان الكثيرين من أبناء هذه الأمة المصلحين قد حوربوا بشدة في بعض الأوساط المنحرفة مما جعل بعض المغفلين ينسبون تلك المحاربة إلى مراجع الدين وأصحاب الكلمة الأولى في المجتمع لأنهم  لم يستطيعوا أن يجدوا في سيرتهم ما يحقق أمانيهم الشيطانية - إن كانوا ملتفتين إلى ذلك طبعا- لذلك فأنهم عمدوا إلى تعميم الأخطاء الواقعة من بعض الحواشي والمتزلفين إلى صاحب الحاشية ولو أنهم تأملوا لعلموا بان ذلك سيجعلهم في نفس المصير لأنه غالبا لا يخلو الحال في الإفراد الذين يلتفون حول المراجع من وقوع مثل هذه الزلات المتعمدة تارة وغير المتعمدة تارة أخرى وان كان السبب

الخفي وراء ذلك كله هو الحرص على بقاء الأمور على ما هي عليه ليتسنى له القيام بمهامه والعيش بسلام في ظل ذلك التي مالا حاجة إلى تجديد أو حداثة ومن أسباب تلك المحاربة هو ذلك الحرص الذي تمكن من بعض النفوس لإبقاء الحال على ما هو عليه وعدم السماح بتغيير ما فيه لئلا ينسحب ذلك إلى تغيير في موقع هذا أو ذاك من الأشخاص وقد يكون بعضهم غير مؤمن بذلك ولكن جمعتهم الرغبة في بقاء الحال فصارت إلها يعبد من دون الحق سبحانه .

    وفي حياة العلماء جوانب متعددة قد تكون من اشد الأمور على الأعداء ألا وهي الجوانب الخلقية في مسيرتهم العطرة التي ما انفكت تعبر عن تلك السجايا والفضائل التي صار بها أولئك من أعلام الأمة الإسلامية .

وقد يكون من الصعوبة بمكان على الإنسان أن يفكك بين الإنسان وسيرة الأفراد الذين يحيطون به لذلك فان جميع الأصوات التي نادت بتلك الأشياء عاليا لم تكن تنسب تلك الأمور إلى ذلك العالم إلا من خلال توسط أولئك الإفراد مع أنهم لا يقدرون على نسبة ما في أدمغتهم الفارغة من خزعبلات وتفاهات صدرت من هذا أو ذاك من المنسوبين إلى العالم مع عدم اطلاعه على تلك الأخطاء بل قد يحرصون على عدم علمه بها ليتمكنوا من إقامة الحجة عليه ظاهرا لأنهم مرضى من حيث لا يشعرون ...... ولو أنهم تمكنوا من نسبة تلك الأخطاء إلى مراجع الدين مباشرة لفعلوا ولكنهم لما عجزوا عن الحصول على ذلك مباشرة فقد موهوا على الآخرين نسبة ذلك والنتيجة واحدة عند مرضى النفوس لأنهم ينظرون بنور الشيطان..!

    ونجد بعض المفكرين عندما يقع مثل ذلك من قبل  المرجع نفسه ينظر إلى أسباب ذلك بموضوعية وتجرد ولا ينسبه إلى العالم(المرجع)وان صدر الأمر منه مباشرة , فمع إن الظلم الذي ناله في كل مكان كان نتيجة سماع ذلك المرجع تلك الأقاويل عنه من بعض الإفراد المحيطين به فذلك المظلوم العظيم الفذ تراه يمجد ذلك المرجع بعد موته بشدة ويتساءل  بعد ذلك عن توهم بعض المرضى من التفاوت بين نقده لحاشية المرجع ومدحه إياه فتراه يعبر عن ذلك بما يدفع الفهم الخاطئ والمريض الذي يحاول البعض التشبث به , وهذا العالم العملاق ترك الحوزة مضطرا نتيجة وشاية بعض الأشخاص الملتفين حول ذلك المرجع وغم ذلك تراه يتحدث عن ذلك المرجع ويمجده كما يمجد العظماء بل وعدد مآثره ومواقفه المشرفة في خدمة الدين مميزا بين أولئك المنحرفين وبين ذلك المرجع الفذ الذي يقف على هرم المرجعية  وهذا الموقف الجليل منه يعبر عن عمق الوعي والتجرد في كل ما كتب ونظر مؤلفات ومحاضرات صارت بعد استشهاده قل أن يجود الزمان بمثلها مع كل تلك المضايقات النفسية والاجتماعية    ومن هذا وغيره يظهر إن المطلوب من أولئك المرضى بهذا الداء العضال أن يفكروا جيدا قبل أن يعمموا هذه الأشياء إلى مواقع لم تصدر منها أمثال هذه الأمور وقد يكون في التاريخ الذي نقراه للنبي الأعظم – صلى الله عليه واله- ما يمثل ذلك تمثيلا واضحا فكم هي الأحداث التي وقعت من قبل أشخاص أرسلوا من قبل النبي- صلى الله عليه واله- ولكنهم أساءوا التصرف بل وخان بعضهم الأمانة وسفكوا الدماء....

فلو قيل إن النبي – صلى الله عليه واله- معصوم بخلاف العلماء ونحوهم , قلنا بان هذه النكتة في صالح الحق بتقريب إننا لو غضضنا النظر عن ذلك الأمر الزائد في شخص النبي لوصلنا إلى نفس النتيجة وقد حدث أن حاورت احد الإخوة من أولئك المبتلين فقال إن الذي يمنعنا من نسبة هذه أمور إلى النبي والأئمة هو العصمة فقط فلولاها لقلنا وقلنا ....فقلت هل قرأت الكتاب الكذائي   قال نعم ... فتعجبت من كلامه وقلت له بأنك على شفا جرف هار اذهب والتمس لك إنسانا له دين ليهديك سواء السبيل فانك تسير إلى الجحيم من حيث لا تشعر .

وقد تسألني هل أنت على يقين مما تقول وهل هذا الكلام هو الواقع الذي نعيشه في النجف وغيرها من المدن الإسلامية....؟ أم أن هذا تاريخ مضى ولا تحبون أن ينسب إليكم الخطأ فتحاولون أن تجدوا التبريرات والمسوغات لذلك.؟

والجواب طويل ولكن يلخص في هذه الكلمات البسيطة ...إن ما تذكرونه بين الجانب النظري والعملي ليس فيه خلاف ولكن ليس إن الواقع يخلو من الممثل لذلك الأمر النظري , بل على العكس من ذلك قد نجد إن الممثلين يتجاوزون كل ما نتصوره ونعتقده . والسبب إن هذا الجانب مطبوع في اغلب الأحيان بطابع الكتمان لان تحصيل الإخلاص فيه حدوثا وبقاء يتوقف – غالبا – على ذلك وهذه سيرة الأئمة الأطهار – عليهم السلام – قد مثلت هذه المسالة تمثيلا واضحا فكان احدهم يقوم بخدمة الآخرين ولا يخبرهم بشخصه بل لا يفعل ذلك وان سمع منهم ذمه لعدم علمهم بأنه المحسن إليهم والواصل لرحمهم إن كانوا أرحاما ولأخوتهم إن كانوا غيرهم ...

 ومن الجدير بالذكر إن هذه الأمور لا يطلع عليها في الغالب إلا صاحبها وأما غيره فلا يعلم بذلك ولكنه يعلم بان العمل إذا لم يكن خالصا لوجه الله تعالى فانه سيكون وبالا على صاحبه لان الله تعالى هو الحاكم في ذلك كله فلا بد إذن من توفير مستلزمات الإخلاص في كل عمل وهكذا هي سيرة علماء الدين الأفذاذ منذ قديم الزمان وحتى هذه اللحظة وأما مايختلج في بعض النفوس من عدم كون ذلك الأمر النظري موافقا للواقع الموجود فذلك يحتاج إلى بعض البيان .

من المسلم إن هذه الأفكار موجودة منذ فترة طويلة في أذهان الكثيرين من المنتسبين إلى الحوزة العلمية فضلا عن غيرهم من المرضى وهذه الأفكار لها أسباب نفسية في أكثر الأحيان إن لم يكن السبب الحقيقي وراء ذلك هو طبيعة الشخصية من حيث التكامل وعدمه فمثلا تجد بعض الأشخاص ينكرون وجود حتى وجود عالم واحد له مزايا وصفات  فاضلة وتراه يقيم استدلاله في دحض ذلك على ما مشاهداته وتجاربه الشخصية وبدلا من أن يقول إن هذه تجربتي الشخصية مع هذه الجهة أو تلك الجهة على فرض قيمتها في ذلك المحل المحدود وتراه يقول بان كل العلماء هم على شاكلة العالم الذي رآه وعاشره وهذا الصنف من المساكين إنما يعبرون تعبيرا صادقا عن قول علماء النفس بان الإنسان يقيس كل شيء بنفسه وهذه ثابتة في الشرع    ولكنه لما كان غافلا عن السبب الذي حركه إلى اتخاذ هذا الموقف المتأزم لم يكن باستطاعته الوصول إلى الأسباب الواقعية فحاول أن يلتمس لما يقوم به ويتخذه من مواقف وتبريرات ظاهرية  ثم إن من جملة الأسباب وراء ذلك إن الإقرار بان العلماء قد اتصفوا بهذه الصفات الفاضلة سوف يعكس الفارق الكبير بين ما يتصف به أولئك الأفذاذ وبين ما يتصف به هذا الطاعن المعترض لذلك فهو لا يستطيع الإقرار بشيء يحرمه من الصفة التي يحرص عليها وهي وراثته أولئك العلماء فلا بد أن ينزلهم إلى مستواه لأنه لا يستطيع العروج إلى مستواهم مثله كمثل شخص قتل غيره والمقتول ليس له قرابة ووريث إلا القاتل فهو لا يستطيع الإقرار بذلك فان أنكر القتل ورث المقتول وكل أوصافه وان اقر بالقتل حرم من ذلك الميراث المادي والمعنوي إضافة إلى الآثار التي  تترتب على ذلك فالذي نريد أن نعبر عنه هو إن المسالة لا تتعلق بالجانب النظري فقط بل قد تنسحب وهي كذلك إلى الجانب النفسي فأنت لا تجد بين أولئك الذين يدعون لهذه الأفكار شخصا سويا مائة بالمائة 0

ولكن لا يعني ذلك عدم صحة وقوع بعض الأخطاء في بعض المواقع ولكن لا بد من تحديد كل شيء بحسب المقياس الصحيح ولا يصار إلى التعميم سواء كان ذلك مرغوبا أم مرفوضا من قبل الآخرين فليس  للعاطفة في مثل هذه الأمور- التي يقحم البعض نفسه فيها بلا تأمل- دور في ذلك بل يعتبر ثقته بنفسه سلاحا يشهره على الآخرين ويظن بفكره القاصر إن سكوت الآخرين عن جهل بالواقع وعندما يحاول طرح الأفكار فانه ينتهز الفرصة ويعلن تلك الأفكار بين ذوي الذهان السقيمة والإرادات الضعيفة وهكذا....

وقد يعترض البعض بان هذا الكلام دعوى صريحة لتقديس العلماء الذي ذمه الكثير من العلماء والمفكرين.!

فنقول إن التقديس الذي ذمه أؤلئك العلماء في أحاديثهم وكتاباتهم هو تقديس الزي العلمائي على ظاهره والعناوين الفارغة التي لا تحمل بين طياتها المعنونات التي تمثلها 0000

وهذا شيء لا نختلف فيه بل ذكره أكثر العلماء  في كلماتهم بل التعظيم الذي ندعو إليه هو احترام العلماء بالمعنى القابل لذلك لا مطلق من صدق عليه انه عالم 0000  فهذا الاعتراض تمويه وتزييف للحقيقة وهو أسلوب استخدمه الأعداء ضد علماء الدين وحفظة الشرع المبين 0

وقد صادفنا الكثير من المساكين الذين يحاولون تفسير النص كما هي حقيقتهم ويسحبون القدسية التي للنص لتفسيرهم الذي يعتقدون ظهوره من ذلك النص 0

والمهم في كل هذا أن نعرف جذور هذه المسالة وقد قضيت مدة طويلة في البحث عنها بين طيات البحوث التي كتبت حول هذه المسالة إضافة إلى القصص والخواطر التي ذكرها العلماء في ذكرى وفاة أساتذتهم فتبين إن للمسالة نحوين من الطرح يتعلق الأول بالجانب الأخلاقي والثاني بالجانب الفكري 0

أما الجانب الأول فيمكن التعرف عليه من خلال ما ذكره السيد الخميني في تفسير البسملة  فقال تحت عنوان (سر انتقاص الآخرين) :-

((  لولا حب النفس والأنانية لما عاب الإنسان على الآخرين , فحالة تقصي معائووب الآخرين الموجودة لدى بعضنا ناشئة عن إننا نعتبر أنفسنا غاية في التهذيب والسلامة, والآخرين ذوي عيوب فنعترض عليهم بسببها , وذلك بسبب حب النفس الذي نرى بسببه إننا كاملون , في تلك المقطوعة الشعرية – لا أريد أن اقرأها – ورد إن احدهم عاب على آخر عيبا فأجابه : إنا كما قلت ولكن هل أنت كما هو ظاهرك ؟ نحن نستعرض ( مظاهر) للناس من قبيل أننا جئنا إلى هنا لطلب العلم ودراسة الشريعة وإننا من جند الله وأطلقنا اسم (جند الله) على أنفسنا فهل نحن حقيقة كما تبدو مظاهرنا ؟ هذا هو الحد الأدنى أما أن يكون الباطن شيئا آخر فهل هذا غير النفاق ؟ فالنفاق ليس فقط أن يظهر الإنسان التدين وما هو بمتدين كابي سفيان فما تقدم نفاق أيضا نفاق أن يظهر الإنسان شيئا ساميا وهو بذلك من المنافقين والفرق هو في المرتبة00))، وقال السيد الخميني تحت عنوان (الجهاد الأكبر) :-((على من يريد الخروج من هذه الأنانية أن يهاجر هذه الهجرة بالمجاهدة يجاهد   ويهاجر جئتم من الجهاد الأصغر وبقي عليكم الجهاد الأكبر وسائر أشكال الجهاد في الدنيا تبع لهذا الجهاد فلو انتصرنا لكان كل جهاد نقوم به هو جهاد وإذا لم ننجح في هذا الجهاد لكانت سائر أشكال جهادنا الأخرى شيطانية)) ، وأما الجانب الفكري للمسألة فقد ورد ذكر ذلك في مقررات حكماء صهيون مما يدلل على خطورة المسالة بالنسبة إلى الأقوال السلبية التي تنجم عنها وقد ذكر المستر همفر  الجاسوس البريطاني في البلاد الإسلامية بان التشكيك بقيمة علماء الدين هو من الأسس التي تبتني عليها قاعدة التفرقة بين المسلمين لان الالتفاف حول علماء الدين تعتبر من العقبات القوية في طريق العمل الاستعمار في بلادنا وقد جاء في البروتوكول السابع عشر قوله :-((.. وقد عنينا عناية عظيمة بالحط من الكرامة رجال الدين من الأميين (غير اليهود ) في أعين الناس وبذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كؤودا في طريقنا وان نفوذ رجال الدين على الناس ليتضاءل يوما فيوما) )ثم قال بعد ذلك :-((.. سنقصر رجال الدين وتعاليمهم له على جانب صغير جدا من الحياة وسيكون تأثيرهم وبيلا سيئا على الناس حتى إن تعاليمهم سيكون لها اثر مناقض للأثر الذي جرت العادة بان يكون لها..)) ، وقد بين الحقيقة ولكن بأسلوبه الواضح احد كبار علماء الدين في القرن العشرين فقال:- (( ..هؤلاء وكل واحد من أصحاب الآراء الباطلة والأقوال النشاز لأنهم يعلمون أن الوحيدين القادرين على التصدي لهم في المجتمع وفضح أكاذيبهم هم العلماء.. وسائر الناس أما ليسوا مختصين في هذا المجال أو إذا كان لهم اطلاع قل أو كثر فأنهم لا يعتبرون واجبهم ذلك واؤلئك السائبين الشيء الوحيد الذي يهتمون به لأجل تحقيق أهدافهم المسمومة ويقدمونه على كل شيء هو إن يوجهوا التهم والافتراءات إلى العلماء بكل وسيلة وكذبا وزورا ليفصلوا الناس  عنهم ويحقرونهم في أعين الناس ويضعفوا  تأثيرهم الروحاني بكل ما أمكنهم ليفتح أمامهم الميدان فيتصرفوا بكل اطمئنان للتلاعب بأرواح بعض الناس المساكين وأعراضهم وأموالهم 000يشهد الله إن الجهة الوحيدة التي حفظت دين الناس منذ وفاة نبي الإسلام وحتى اليوم وحالوا دون تأثير أباطيل السائبين هم العلماء ))،وقال السيد عبد الحسين دستغيب في كتابه (الذنوب الكبيرة) : (ورد الوعيد بالعقوبة الشديدة على كفران نعمة وجود العلماء منها ما ورد عن النبي الأكرم(ص):-انه قال – ( سيأتي زمان على الناس يفرون من العلماء كما يفر الغنم من الذئب فإذا كان ذلك ابتلاهم الله بثلاثة أشياء الأول : يرفع البركة من أموالهم,والثاني : سلط الله عليهم سلطانا جائرا ,والثالث يخرجون من الدنيا بلا إيمان ) وكان من اثر ابتعاد الشباب عن رعاية العلماء بسبب هذه الأفكار المنحرفة أن أصبح الكثير من أصحاب الآراء الباطلة يعول كثيرا على هذه القطيعة المصطنعة بين الطرفين للتأثير على نفوس المؤمنين من غير المطلعين في القضايا العقائدية مثلا  لكي يبث أفكارا باطلة تتعلق تارة بالإمامة وأخرى بالظهور في وقت محدد وهو أمر يحتاج إلى بحث خاص ومستقل في الأسباب المباشرة والمساعدة علاوة على إن الكثير من الزوايا غير المضاءة بنور الحقيقة لازالت في الغالب مرتعا لذوي الادعاءات من مدعي الاجتهاد ونحوهم الذين وجدوا في نشر هذه الأفكار فرصة للحصول على امتيازات هنا أو هناك وقد كشفت أوراق النظام السابق زيف الكثيرين من هؤلاء وارتباطهم بأجهزة الشيطان من قبل ومن بعد .

 وخلاصة ما ذكرناه:إن فكرة الطعن بسيرة العلماء لا تستند الى المشروعية في الجانب الفكري  وكذلك الجانب الفقهي وكذلك الكلمات الواردة على لسان كبار العلماء العاملين .

وقد تبين ان حكم مثل هذا العمل هو الحرمة بلا ادنى شك او ريبة ولا يمكن التمسك ببعض المبررات الواهية لتبرير مثل هذه التصرفات سواء كانت الاسباب المدعاة سياسية ام غيرها .

كما ان التبريرات الفقهية في مسالة الغيبة لا تتناول مثل هذه الاعمال كما هو واضح , وعند التامل في الجانب الفكري للقضية تبين ان اعداء الدين والانسانية من المستكبرين والصهاينة كانوا هم المنظرين لمثل هذه الفكرة في الجانب العملي وقد نشروا ذلك سرا في الاماكن التي سيطروا عليها باموالهم ووسائلهم الخبيثة .

وبالتالي فان الذين ينادون بهذه الافكار هذه الايام هم من الذين يقدمون خدمة مجانية للاعداء من المستكبرين والمستعمرين ويتبين الخداع الذي غفل عنه هؤلاء واخذوا يروجون له بكل قدراتهم .

ومن خلال هذا الكلام تبين المنهج الحق في التعامل مع العلماء وفق الاسلوب الشرعي الناصع والذي كان ينادي به كل العلماء العاملين ومنهم السيد الطباطبائي الذي سئل مرة عن السبب الذي جعله يحصل على المكانة العلمية التي وصل اليها فقال انما وصلت الى هذا المقام لاني احترمت العلماء الذين سبقوني .

وهذه الكلمة الناصعة يمكن جعلها أخر وصية تكتب في هذا الفصل وتكون ختام الكلام في هذه القضية التي شغلت بال الكثير من المفكرين والباحثين وغيرهم .

  المراجع والمصادر

1.    القرآن الكريم

2.     المرجعية الدينية للمرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم (دام ظله)  .

3.     وسائل الشيعة ـــ محمد بن الحسن الحر العاملي ، قم مؤسسة آل البيت 1409هـ.

4.     الفهرست ــ الشيخ الطوسي ، النجف الأشرف المكتبة الرضوية .

5.     نهج البلاغة  ـــ شرح لأبن أبي الحديد المعتزلي ، قم دار الهجرة للنشر.

6.     شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني.

7.     بحار الأنوار ــ العلامة المجلسي ، بيروت مؤسسة الوفاء 1404هـ.

8.     أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف ـــ آية الله العظمى السيد الشهيد محمد باقر الصدر .

9 .مذكرات المستر همفر الجاسوس البريطاني في البلاد العربية الإسلامية

10.بروتوكولات حكماء صهيون (الخطر اليهودي) ترجمة الأستاذ محمد خليفة التونسي (أول ترجمة عربية أمينة كاملة مع مقدمة تحليلية في مائة صفحة ) تقديم الأستاذ عباس محمود العقاد طبع دار الكتاب العربي بيروت لبنان 1961م

11.الاربعون حديثا،الامام الخميني،قم المقدسة.

12.دور المرجعية الدينية في المجال السياسي"كاتب هذه السطور".

 

[1] تم استلال واختصار البحث من كتاب "دور المرجعية الدينية في المجال السياسي:للنفس الباحث،مع الإضافة والحذف،علماً إن الكتاب غير منشور(مخطوط).
 

الباحث والكاتب في العلوم الإسلامية
وشؤون المرجعيات
-       شارك هذا البحث في مؤتمر مئة عام لحوزة النجف الاشرف من الميرزا النائيني الى السيد السيستاني في كلية الفقه/جامعة الكوفة.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=54805
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 12 / 07
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29