التوجه الجديد في المجتمعات المتقدمة ومنذ الدراسة الإبتدائية وما قبلها , يسعى نحو تعليم التلاميذ آليات وكيفيات تكوين الفكرة وإسنادها بالحجج والأدلة , لكي تبدو واضحة وذات قوة وقدرة على الإقناع والتفاعل والعطاء.
أي أن التلاميذ يتعلمون كيف يفكرون ويتفاعلون بعقلانية ومنطقية , وسببية ذات معالم واضحة ومشتركة.
فالفكرة لابد لها من البراهين لكي تعطي المعنى وتؤسس للدور الجدير بها.
وفي هذا التوجه تحفيز لقدرات الإدراك وتأهيل العقل لكي يكون المنار , والقوة الفاعلة في رسم معالم السلوك.
ومحاولة جادة ومثابرة للإرتقاء بالإنسان بعيدا عن العواطف والإنفعالات , والإندفاعات الهوجاء التي تورثه الويلات والتداعيات , إذ يتعلم التلميذ صناعة الرؤية والموقف ووجهة النظر , التي قد تتغير إذا وجدت حجة قادرة على ذلك , أي أن ما يراه لا يتمترس في صناديق إنفعالية عاطفية , وإنما يكون جاريا في نهر الحياة , ويتعرض لتحدياتها وإختباراتها , وأمواجها الفكرية والثقافية والإدراكية.
وفي هذا الأسلوب من التعليم تشجيع للعقول على الإبداع والعطاء الأصيل , وتأهيل للإبتكار والإتيان بما هو جديد.
فعندما يتعلم التلاميذ كيف يفكرون ويكوّنون الفكرة , فأنهم سيستخدمون عقولهم بوقت مبكر , وسيحققون إضافات حضارية في أعمار لا تتجاوز العشرين , ذلك أن عمر الإبداع الحقيقي والتغيير الجوهري , يكون مسلحا بأدوات التعبير الخلاق عن إرادة التجدد وصناعة الأصيل.
إن هذا السلوك يحدد الفصل ما بين المجتمعات المتقدمة والمتأخرة , ويرسم معالم المستقبل , حيث ترى التلميذ في مجتمعات متأخرة مطمورا بالعواطف والإنفعالات , ولا يمتلك قدرات التفكير الحر المعزز بالبرهان والحجة والدليل , ولا يستطيع التعبير المنطقي عن الفكرة بالكلام والكتابة , وإنما يحتار فيما يقوله ويكتبه.
وهذا واضح في معظم المقالات المنشورة في صحف تلك المجتمعات , إذ يبدو فيها الإنفعال سائدا والعقل والمنطق مغيبا , وكثيرا من السب والشتم وإستخدام المفردات النابية والمنفعلة , التي تدريك بأن صاحبها لا يمتلك شيئا من أدوات المنطق , وقدرات تكوين الفكرة وتعزيزها بالأمثلة والحجج , التي توضحها وتزيد من صحتها ودرجة صوابيتها.
وهذا يعني أن معضلة التأخر تربوية بحتة , ومن صنع الأجيال , التي لا تعرف كيف تبني حاضرها وتسعى لمستقبلها , ومَن لا يعرف تربية النشأ الجديد , لا أحسبه بقادر على إمتلاك مستقبل زاهر.
وما يجري في واقع معاناة المجتمعات أن الأجيال تُربّى على تفاعلات سلبية فاسدة مناهضة لذاتها وموضوعها ومدمرة لكيانها الوطني والإجتماعي , وبعاطفية عالية متأججة لا يمكن للعقل أن يكون له دور فيها , وإنما هي سَوْرة إنفعالية ذات طاقات تدميرية وتخريبية هائلة , وبسبب ذلك تجني المجتمعات المزيد من التداعيات والصراعات الخاسرة , ولا يمكنها الخروج من مأزقها الأليم , إلا بإعادة النظر بآليات تربيتها وتفكيرها ورؤيتها , والإرتقاء بأبنائها إلى مدارات العقل والمنطق , والنظر الحضاري المعاصر الرشيد.
فهل سنفكر أم سنبقى في دوامة المنفعل؟!!
|