من الكسر والإنكسار , وتعني الهزيمة والسقوط والإنهيار أيضا.
وكانت جدتي تحدثني عن "الكِسيرة" والتي أطلقت على هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى , ودخول الإنكليز بغداد بقيادة "مود" , حيث تركها الكثير من الأهالي خوفا من الإحتلال , ومنهم جدتي , التي شدت الرحال وزوجها وطفليها إلى أعمامهم في سامراء , التي كانت مدينة مسورة ذات أبواب تغلق ليلا , فينام الناس آمنين.
قالت جدتي " إنهزمنا سيرا على الأقدام بمحاذاة نهر دجلة متجهين إلى سامراء , وعند الإقتراب منها قررنا أن نستقر في منطقة عند الماء تسمى " إمْعيجل" , والكلمة ربما من العَجَل السرعة , وهي تصغير لها.
تذكرت الكسيرة ونحن نعيش الذكرى السابعة والأربعين للإنكسار العربي المروع في 5\6\1967 , والذي غيّر مسيرة الحياة العربية , وأرداها في عقود من التخبط والإضطراب والتداعيات , التي لا تزال تتفاقم وتتعاظم وتمعن بالإنكسار والإنهزام والتداعيات.
ففي ذلك اليوم إستيقظ العرب من سرابات تصوراتهم وأحلام أهوائهم , فاكتشفوا بأنهم الأضعف , وصاروا المنهزمين المنكسرين أجمعين , أمام دولة واحدة أصغر من أية دولة بينهم , لكنها الأقوى والأعقل والأحكم والأقدر بالمقارنة بهم جميعا.
إنكسر العرب , فازدادوا تمزقا وتفتتا وخرابا واضطرابا , حتى استخدموا ثرواتهم الوفيرة لتحقيق أعلى درجات الخراب في ديارهم والصراع فيما بينهم , وكأن في أعماقهم صوت ينادي فيلقي باللائمة على كل واحد منهم , وذلك الواحد يريد التبرؤ من المسؤولية فيلقيها على غيره وهكذا صاروا منزهين ولا مسؤولين , فالفاعل والمفعول به تقديرهما هو وهو!!
إنكسر العرب ولايزالون يتكسرون كالأحطاب اليابسة المنخورة بالأُرضة , فلا يقوَ الواحد منهم أن يكون عمودا في خيمة وجودهم أو وتدا متمسكا بخيمة العروبة والدين , بل أن الأعمدة تتساقط والأوتاد تتحارب , والحريق يتأجج وسط الخيمة , وكل منهم قد لجأ إلى خيمة أخرى يحتمي بها من أخيه العربي , الذي يستحضر ما يستطيعه من طاقات العدوان والإنتقام للنيل منه وإبادته.
وبعد ما يقرب من نصف قرن على تلك الكسيرة , يبدو أن براعمها قد أينعت , وأفكارها قد تطورت , ووجدتنا في القرن الجديد نتهاوى في مطبات إنكسارية إنتحارية ترفع رايات الحرية والديمقراطية , حتى صار الجار لا يعرف جاره , وإبن الوطن ينكر بلاده وينتمي إلى ما يعزز التناحر والفرقة والتشرذم والضياع والتبعية والهوان.
تلك إنجازات "الكِسيرة" العربية المتوالدة المتظافرة المتنامية , التي يتحقق فيها أعظم الإستثمار المربح في تفريغ الأوطان من قدراتها , وإستعبادها ومصادرة قيمها وأخلاقها وسيادتها وحريتها , وبيعها في أسواق المزادات الإفتراسية السكرى بالنفط.
والعجيب في أمر العرب أنهم أوجدوا طاقات إنكسارية في أعماقهم وأكدوها بسلوكهم المتواصل , حتى تمكنوا من تحقيق متوالية من الحطامات والتراكمات المتعفنة التي تبعث روائح سامة وخانقة.
فالعرب كسروا أنفسهم وحطموا وجودهم وبإختيارهم ومؤازرتهم للطامعين بهم , فلا يكسر الشعوب إلا أهلها!!
ودامت الكِسيرة , فأكثر العرب ينامون على الحصيرة , وعاشت المسيرة!!
|