لا يخفى ان بدايات النحو العربي كان مرتبطة بمقولة مفادها : ان الأعاجم لما دخلوا في الإسلام ، ادخلوا اللحن معهم الى اللغة العربية ، فكان هؤلاء يلحنون في قراءة القران ، في تنغيم الأصوات بما لم تعرفه الأذن العربية ، كقلب الظاء زايا ، والحاء هاء ، والواو ، فاء ، والطاء تاء .. الخ ، فمثلا : كلمة ( ضحك) ، تقرا (زحك) و( محمد) تحول الى ( مهمد) وهكذا ، هذا فضلا عن عدم إتقانهم لبناء الجملة العربية ، في مواضع : الرفع والنصب والجر، وحفاظا على سلامة القران الكريم من اللحن ، وضع الإمام علي (ع) – كما تشير معظم المصادر الى ذلك – بعض أبواب النحو وقال لأبي الأسود انح هذا النحو ، (( وكان أبو الأسود ممن صحب عليا ، عليه السلام ، وكان من المتحققين بمحبته ومحبة ولده ، وفي ذلك يقول :
- يقول الارذلون بنو قشير طوال الدهر لا تنسى عليا
- أحب محمدا حبـــا شديدا وعباسا وحمزة والوصـــيا
- فان يكن حبهم رشدا أصبه ولست بمخطئ ان كان غيـــا
وكان نازلا في بني قشير بالبصرة ، وكانوا يرجمونه بالليل ، لمحبته لعلي وولده ، فإذا أصبح وذكر رجمهم ، قالوا : الله يرجمك ، فيقول لهم : تكذبون ، لو رجمني الله لأصابني ، وانتم ترجمون ، فلا مصيب .))(أخبار النحويين البصريين ، ابو سعيد السيرافي ،67)
وتجمع الروايات على سبب واحد ، هو الحفاظ على لغة القران الكريم ، فضلا عن ان : (( ان الشعوب المستعربة ( الذين نسميهم اليوم بالمستشرقيين ) أحست الحاجة الشديدة لمن يرسم لها أوضاع العربية إعرابها وتصريفها حتى تتمثلها تمثلا مستقيما ))( المدارس النحوية ، د. شوقي ضيف ،21) وتأتي هذه الروايات لتشكل الإطار الذي أسهم في صناعة النحو العربي بوصفه قواعد لغير العرب ( لغير الناطقين بها) ، كما تبين الرواية التي نقلت عن أبي الأسود الدؤلي ، فقد (( مر بابي الأسود سعد ، وكان رجلا فارسيا من أهل بوزجان ، وكان قدم البصرة مع جماعة من أهله ، فدنوا من قدامة بن مظعون الجمحي ، فادعوا أنهم اسلموا على يديه ، وأنهم بذلك من مواليه ، فمر سعد هذا بابي الأسود وهو يقود فرسه ، قال مالك يا سعد لا تركب ؟ قال : ( ان فرس ضالع )، فضحك به بعض من حضره ، قال أبو الأسود : هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام ودخلوا فيه ، فصاروا لنا أخوة ، فلو علمناهم الكلام ، فوضع باب الفاعل والمفعول ))( أخبار النحويين ، 69) وهناك رواية أخرى ترفد الزعم أن النحو كان عبارة عن قواعد وضعت لغير الناطقين بها قد أوردها أبو سعيد السيرافي عن سيبويه فقال : (( كان سيبويه يستملي على حماد يوما ، فقال حماد يوما : قال رسول الله (ص) : ( ما من احد من أصحابي إلا وقد أخذت عليه ، ليس أبا الدرداء ) فقال سيبويه : ليس أبو الدرداء ، فقال حماد : لحنت يا سيبويه ! ، فقال سيبويه : لا جرم لا طلبن علما لا تلحنني فيه أبدا ، فطلب النحو ، ولزم الخليل ))( أخبار النحويين ، 90)
وبدأ هذا النحو يتحول مع الأيام الى نحو افتراضي بفضل تحذلق النحاة فأصبح النحو معقدا ، يعجز عن فهمه صاحب اللغة نفسها ، لا بل يبرع هؤلاء المتعلمون إلى أن يصبحوا أئمة للنحو ، ويصبح النحو عبارة عن أحاج وطلاسم ، أسهم الترف العقلي في العصر العباسي في تعقيده ، بسبب تلك الحلقات الجدالية وكثرة المناظرات والمناقشات العقيمية حول مسائل لم ينطق بها مستعمل اللغة ، والمعروف أن القواعد تستنبط من حديث الناس ، لا أن يُصنع نحو للناس ، ثم يطالبون بالكتابة والتحدث على وفق هذه القواعد المصطنعة ، بحجة الحفاظ على اللغة العربية ، ومن ثمة الحفاظ على القران الكريم ، والسؤال الذي يطرح هو، لماذا لا نحافظ على القران الكريم نفسه الذي نزل بهذه اللغة ؟ ، لم نفسر القران بالرجوع إلى الشاهد الشعري المصطنع ؟ لماذا نذهب إلى البوادي والقفار لأخذ اللغة من أفواه الأعراب الذين لم يفقهوا ما القران ؟! وما الإيمان؟! ، تركنا القران ولغته ورحنا نبحث في سراب الصحراء عن قواعد لم يعرفها اللسان العربي ثم صنعنا نحوا لم يتكلم به الأعراب أنفسهم ، فقد سئل عيسى بن عمر عن ما وضعه من قواعد : اخبرني عن هذا الذي وضعت ، يدخل فيه كلام العرب كله ؟ قال : لا ، قلت فمن تكلم بخلافك واحتذى ما كانت العرب تتكلم به ، أتراه مخطئا ؟ قال : لا . قلت فما ينفع كتابك ؟ ))( أخبار النحويين ، 82) ونحوا لم يشتق من لغة القران ، طلابنا يدرسون الآن نحوا مصنوعا ومفترضا ، نحوا أسهم الترف العقلي في مرحلة ما في صناعته ، وراح الصناع العتاة يدافعون عن سر تلك الصنعة ، فبدلا من أن يدرس الطلبة النحو الوظيفي الذي يفيدهم في حياتهم العملية والمهنية ، راحوا يدرسون قواعد مصنوعة تستهلك لغرض الامتحان داخل القاعة الدراسية ..
إن الأمثلة على ذلك كثيرة جدا ، ونقتبس منها بعضا ليطلع القارئ على أية مصيبة ابتليت بها اللغة العربية ، ورد في كتاب الأحاجي النحوية ،
((ووفقا لروح هذه النظرية الكونية نظر علماء البصرة النحويون الى الصحة اللغوية من خلال المصطلح الاخلاقي ، وعدوا انفسهم قضاة وكل اليهم امر المحافظة عاى نظام من القيم الاخلاقية ، او قل عدوا انفسهم – على الاقل – حفظاء على نظام من قواعد خلقية في مضموناتها . وبما ان اللغة مراة للكون الخارجي ، فكل صوت وكلمة وجملة يتطلب تاييدا منطقيا يكفل وجوده لان كل واحد منها تعبير عن الفكر المطلق ، وبالخضوع لاحكام العقل تفسر اللغة من حيث هي كائن حي ويبرر وجودها خلقيا ، وعلى هذا فان الكون اللغوي يناظر ويشارك البناء الكوني العاقل الثابت ، المؤلف من الظواهر والافكار (دراسات في الادب العربي ، غوستاف فون غرنباوم ترجمة د. احسان عباس ،د. انيس فريحة ، د. محمد يوسف نجم ، د. كمال يازجي، دار مكتبة الحياة – بيروت ،1959، 16)( (ويقول التوحيدي في المقابسات 294: ان استاذه ابا سليمان المنطقي جعل من اسباب تفوق اللغة العربية على غيرها من اللغات : ان لها هذا النحو الذي حصته منها حصة المنطق من العقل )( المصدر نفسه ،32) |