• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : عيد مؤجل* / قصة قصيرة .
                          • الكاتب : د . مرتضى الشاوي .

عيد مؤجل* / قصة قصيرة

    أوشك شهر رمضان بحليته الروحانية وبقداسته الإلهية أن يجرّ ثوبه القشيب كما ينبغي في حساب الصائمين ؛ لأنّهم في آخر يوم منه قد شعروا بفراقه إذ تصرمت أيامه ولياليه كحبال الدلو المتهرئة بعد عناء السقي .
     ظلّ الناس – كعادتهم - في حيرة ولهفة انتظار بزوغ الهلال وهو يبدو دائما ً كزورق فضي ، فلا العين المجردة تراه بوضوح ، ولا العين المسلحة ( الدربين )* تكشف سرّه عند الغروب  .
     كانت أعناق النساء مشرئبة نحو الأفق غارقات في الأوهام وخيالات المساء ، وينتظرن مداعبات الصباح الآتي من جديد   ، وكذلك تمتمات كبار السن تتوالى نحو السماء بهتاف ونفحات قدسية يا الله ... يا الله ! ، أما الأطفال فهم في انتظار الفرحة الكبرى ، جموح ولعب وابتسامات وقهقهات تتعالى وأصوات : يا رب ، يا رب .....!!!
متى يطلع الهلال ؟ وكيف نراه بثغر شوال المبتسم ؟ كيف أقابل أصدقائي وقراباتي غداً ؟ كيف أعانق والدتي ؟ ، وكم يعطيني أبي من المال ؟ وماذا تشتري لي والدتي من الحلوى ؟ أسئلة تتراكض وأجوبة مؤجلة في طيات الغد المؤمّل .
إنّه الحاضر في كلّ ليلة والغائب قبيل ليلة ، قد امتطى صهوة الليل السوداء فجأة ؛ ليغيب عن عيونهم الناعسة ، ويخرج بغرة فرس بيضاء يبهر الأطفال بانحنائه أجلالاً لهم ، هكذا اعتادت نفوسنا الظامئة وقلوبنا الوالهة وأفكارنا الغارقة  ؛ لرؤية الهلال ذلك " الدائب السريع ".
الكلّ ينتظر إلى طلعته البهية ، لكن لم يبدُ بعدُ ذلك المشهد عند الغروب إذ اختفى خلف غيوم بيضاء راكضة تناثرت وتسابقت بسرعة تدفعها ريح هائجة .
كم مذهل ومريع هذا المساء ؟ لا يحمل تباشير فرحة العيد ، ربما يجرّنا إلى يوم آخر .
 لقد طبع في أوجه الناس الحزن ، واعتاد الصائمون في نحو ما أن يعتمدوا على الرؤية بالعين المجردة كحكم شرعي أولاً ، وثانياً على مضي ثلاثون يوماً من الشهر كان العاشقون يتنافسون في ضيافته الرحمانية ، لكنّ الناس لم يروا شيئاً قط ، ولم يبن ضوئه المعتاد فظنوا أنّ العيد في خطر فراحوا يتهامسون... ويتهاجسون ... وووو .
صاح الناس : الهلال في خطر !!! ونحن ننتظر الفرج . هل من راءٍ ينفذ بصره خلف السحاب ، فزرقاء اليمامة ما كان عليها لترمق السماء ؛ لأنّ عيونها خلقت لترى معالم الصحراء .
ما الحل ؟ إذ لا حلّ !!!، فالأخبار من الأماكن البعيدة تأتي متأخرة ولا يمكن الاعتماد إلا على رؤية شاهد يعتدّ به .
     باتت القرية الريفية النائية في صمت بلا مذياع صوتي أو مرئي ينقل لهم نبأ حلول العيد ، فأجهزة الراديو التي تعمل على البطاريات قليلة ونادرة الاستعمال، فلا اتصال سلكي كان موجوداَ ولا جهازاً محمولاً كالذي هو في وقتنا .
أغرق الناس في النوم بعد جهد وتعب في كشف ذلك المخلوق المطيع ، وأرادوا أن يعلموا عن أمر إطلالته فلم يفلحوا .
راحوا ينتظرون ملامح الهلال فجراً ، وهو يطلّ بثوب شاب حسن ، وهي مسلمة في ظهوره يقيناً ، ولكنّ آمالهم تبددت بالفشل ، وتيقنوا أنّ فرحتهم بالهلال قد سرقت من قبل سماء صارت سوداء مكتظة بالغيوم ، إذ الإمطار تساقطت بغزارة وانهمرت في كل مكان بلا انقطاع ، وغاصت الشوارع بالمياه الموحلة بالطين فلا شعاع من شمس قادم إلى بيوتهم ولا ( طارش )*** يخبرهم بحتمية العيد .
 ظلّ سكان القرية صائمين في ترقب الطريق الطيني ، علّهم يجدون بارقة أمل تطلّ عليهم من بعيد .
أقبل الظهر بأذانه كأنّه شيخ جليل عليه سمات الوقار، ولم يبادر أيّ أحد في إطراء تحيات العيد نحو الآخرين ، إذ لا عيد لهم ما لم يتحققوا من ظهوره بشهادة رجل عدل ، وشيوع رؤيته في المدن القريبة .
وفجأة قدم ( أبو علي ) ذلك المسافر الذي شدّ السفر في كلّ سنة  لزيارة أحد أقربائه في القرية الغارقة بالمطر بمناسبة حلول عيد الفطر ، وأخبرهم أنّ العيد قد تحقق في المدن الكبيرة وعند رجال الدين منذ الصباح الباكر... فرح الناس بهذا الخبر السارّ إذ ردّت المياه إلى تقاسيم وجهوهم ، وتصافحوا يغبط بعضهم الآخر. 
وسارع الأطفال في تحياتهم يجوبون الطرقات باحثين عن حلوى عيدهم السعيد المفقود في صبيحته بأقدام ملطخة بالوحل ظهراً حتى المساء .
_______________
*حدثت القصة في أوائل السبيعنيات في قرية ريفية نائية من قرى جنوب العراق عندما كانت الوسائل السمعية والبصرية  غير منتشرة في ذلك الوقت .
** الدربين : مفردة تطلق على المنظار لرؤية الأشياء البعيدة بوضوح وهو منضار الجيش مثلاً أو المنضار اليدوي ذو القبضتين ، ودربين : أي الذهاب إلى مكان ما مرتين ، وهي مشتقة من كلمة درب يعني طريق أو مسار ... وقيل يلفظ ( دربيل ) وليس( دربين ) وقد حدث بها إبدال لكثرة الاستعمال .
*** يسمي العراقيون القادم من بعيد فجأة نهاراً أو ليلاً بالطارش ؛ لأنّه يأتي خلسة بلا موعد .
 
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=20919
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 08 / 21
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28