• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : (تُجّارُ) العقيدة المهدوية! .
                          • الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .

(تُجّارُ) العقيدة المهدوية!

 بسم الله الرحمن الرحيم
 
إِنَّ لِلْغُلَامِ غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُوم.. انَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ يَمْتَحِنَ الشِّيعَةَ! فَعِنْدَ ذَلِكَ يَرْتَابُ المُبْطِلُون‏! (الكافي ج1 ص337).
 
كلمةٌ عجيبةٌ للصادق عليه السلام، تكشفُ أنَّ امتحاناً سيقع فيه الشيعة بعد غيبة الإمام عليه السلام، يسقط فيه (المبطلون)!
 
المبطلون هنا ليسوا من أعداء الإمام فقط، فأولئك قد خسروا الدُّنيا والآخرة، عندما انحازوا إلى معسكر الباطل، وعادوا الله بمعاداة أوليائه، وكفوا الشيطان أنفسهم، وصاروا له أعواناً وأنصاراً.
 
وقد حان بالغيبة وقتُ امتحان الفرقَةِ المُحقَّة، كي تُمَحَّص وتُغَربَل، ويمتازَ المُبطلُ فيها من المحقّ!
 
وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام عن المهدي المنتظر عليه السلام:
وَلَيَغِيبَنَّ عَنْهُمْ تَمْيِيزاً لِأَهْلِ الضَّلَالَةِ، حَتَّى يَقُولَ الْجَاهِلُ: مَا لله فِي آلِ مُحَمَّدٍ مِنْ حَاجَةٍ (الغيبة للنعماني ص141).
فالجاهل يزعم قولاً أو عَمَلاً أنَّ له استبدال آل محمدٍ بسواهم! وأنَّ غيرَهم قد يحلُّ محلَّهم.. ويأخذ مكانتهم ودورهم..
 
وقد قال الباقر عليه السلام: شِيعَتُنَا يُمَيَّزُونَ وَيُمَحَّصُونَ، حَتَّى تَبْقَى مِنْهُمْ عِصَابَةٌ لَا تَضُرُّهَا الْفِتْنَةُ (الغيبة للنعماني ص211).
 
نرجعُ بالزَّمَنِ إلى الوراء.. لنلقي نظرةً على ما عايشه الشيعة من تَمحيصٍ في (العقيدة المهدوية)، منذ أوائل الغيبة.. ونتوقَّف عند حال بعض الطوائف والجماعات من الشيعة في بدايات الغيبة الكبرى، التي بدأت سنة 329 للهجرة.
 
ننظر في وثيقةٍ تاريخية مهمة تركها الشيخ الصدوق رحمه الله، وهو المُخَضرَم الذي عايَشَ الغيبتين، فكان عمره حين بدأت الغيبة الكبرى 29 عاماً، وكانت بقيَّة أيامه في الكبرى حتى وفاته سنة 381 للهجرة.
 
قال رحمه الله في مقدَّمة كتابه (كمال الدين وتمام النعمة):
(رجعت إلى نيسابور وأقمت بها، فوجدت أكثر المختلفين إليّ من الشيعة قد حَيَّرَتهم الغيبة، ودخلت عليهم في أمر القائم (ع) الشُّبهة، وعدلوا عن طريق التسليم إلى الآراء والمقاييس) (ج1 ص2).
 
أخذ الشيخ رحمه الله حينَها في إرشاد الشيعة إلى الحقّ، ورَدِّهم إلى الصواب، بالأخبار التي وردت عن النبيّ والأئمة عليهم السلام، وكانت هذه الحالة سبباً لتصنيف كتابه المعروف (كمال الدين).
 
لكنَّ الشيخ رحمه الله أجمَلَ في هذه الفقرة، ولَم يُبيِّن كثيراً أسباب هذا الشك والحيرة، ولا أحوال الناس في ذلك..
 
إلا أنَّ مُعاصِرَه، والمتوفّى قبله بعقدين من الزَّمن (360 هـ)، الشيخ النُّعمانيّ رحمه الله، وهو من كبار فقهائنا، وأجلة علمائنا، رَفَدَنا بوثيقةٍ تاريخيَّةٍ أخرى، تُطابقُ ما رواه الشيخ الصدوق رحمه الله، حيث قال:
 
(أما بعد فإنا رأينا طوائف من العصابة المنسوبة إلى التشيع.. قد تفرَّقت كلمها، وتشعبت مذاهبها.. وشَكُّوا جميعاً إلا القليل في إمام زمانهم! وولي أمرهم! وحجة ربهم.. حتى أدّاهم ذلك إلى التيه والحيرة، والعمى والضلالة، ولم يبق منهم إلا القليل!) (الغيبة للنعماني ص21)
 
لكنَّ المُهمَّ في كلامه هو بيانه لأسباب التيه والعمى والضلالة.. التي أصابَت الشيعة في تلك الشدَّة والمحنة..
 
فمَن عَرَفَ الأسباب واجتنبها، نَجَا من التيه في أيامنا، وكان مِنَ الثابتين، وقد لا يزيدون عن مقدار الملح في الطَّعام!
ومَن وَقَعَ فيها اليوم.. وكَرَّرَ تجربة السابقين، كان حالُهُ كتلك الطوائف الحائرة.
 
ولقد ذكر رحمه الله أسباباً أربعة، تستحقُّ التوقُّف عندها، والتأمُّل فيها مَليَّاً:
 
السبب الأول: الجهل
 
أو (قلة الرواية والعلم، وعدم الدراية والفهم)، (فمنهم من دخله بغَير رويَّة ولا علم، فلما اعترضه يسيرُ الشبهة تاه) (الغيبة ص22).
 
السبب الثاني: طلب الدنيا
 
(ومنهم من أراده طلباً للدنيا وحطامها، فلما أماله الغواة والدنياويون إليها، مال مؤثراً لها على الدين) (الغيبة ص22).
 
السبب الثالث: طلب الرئاسة
 
(ومنهم من تحلى بهذا الأمر للرياء، والتحسن بظاهره، وطلباً للرئاسة، وشهوةً لها، وشغفاً بها، من غير اعتقادٍ للحق، ولا إخلاص فيه) (الغيبة ص22)
 
السبب الرابع: ضعف الإيمان
 
(ومنهم من دان به على ضعفٍ من إيمانه.. فلما وقعت هذه المحنة التي آذَنَنَا أولياء الله (ع) بها مذ ثلاثمائة سنة تَحَيَّر) (الغيبة ص23).
 
امتحان اليوم
 
وأنتَ أيُّها المؤمن إذا تأمَّلتَ في حالنا اليوم، ونَحنُ المُبشَّرون بالغربلة والتمحيص:
 
1. خِفتَ على نفسك إن كان فيك شيء من الأربعة..
2. وحَمَدتَ الله على نعمة الهدى والثبات إن سَلِمتَ منها..
 
ولئن كانت قِلَّة الرِّواية عن الصادِقِينَ عليهم السلام مُصيبةً قد وَقَعَ فيها بعضُ كبارنا اليوم.. فإنَّ انعدام الدراية والفهم أشدُّ وأطمّ!
 
فلو تناهى إلى سَمعِكَ ما يُقال ويُحكى ويُنشر على بعض المنابر والشاشات، والجلسات والمؤتمرات.. والكتب والمقالات.. لذُهِلتَ مِن كَمِّ الشُّبُهات، وكثرة الجَهالات، ولَتَعجَّبتَ مِن حَشوٍ غريب.. وفَهمٍ عجيب..
 
فعندما يُكثِرُ أهلُ القياس من التنظير للعقيدة المهدوية، تُمسَخُ العقيدة! بل تُمحَقُ كما يُمحَق الدِّين!
 
وعندما يتكلَّمُ الجاهل، فيجدُ أعواناً، ويتكلَّم العالم، فيُقهَر! يكون الشرُّ قَريباً!
وعندما يتكلَّم الجاهل.. يختلف النّاس!
 
وعندما يذرو أحدهم الروايات ذَروَ الرِّيح الهشيم.. ويلوي أعناقها.. يصيرُ بابُ الشُّبهات مفتوحاً على مِصراعيه! و (يَرْجِعَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ مَنْ كَانَ يَقُولُ بِهِ)! ذاكَ حيثُ تصدَّى الجُهَّالُ لعقيدةٍ تُعَدُّ أسَّ المذهب في زَمَن الغيبة!
 
فآهٍ من قلَّة الرواية.. والدراية! ثمَّ آه..
 
ثُمَّ لو تأمَّلت أيُّها العاقلُ في حالِنا اليوم.. لَوَجدتَ بابَ المَهدويَّة قَد طُرِقَ أيضاً لحُطام الدُّنيا! وللرياء! وللرئاسة! مِن غَير إخلاص!
فالنّاسُ هُمُ النّاس.. لطالما مالوا.. إلى مَن عندَهُ مالُ..
 
فلئن كانت العقيدة المهدويَّة في أوَّل الغيبة قد استُغلَّت لذلك، من بعض الطوائف، والشيعة مقهورون مظلومون، مضطَّهدون محارَبون، فكم يا تُرى هو مقدار الاستغلال اليوم؟ والدُّنيا قَد فتحت ذراعيها لمن يقول بهذا الأمر؟!
 
فليسأل أحدُنا نفسه.. وليقف مع ربِّه..
 
هل كان مَصيري إلى هذه العقيدة لأجل قُوَّة دليلها؟ وانحصار الحقِّ بها؟
وهل أنِّي على استعداد للتضحية لأجلها بكلّ ما أملك؟! مِن نفسٍ وأهلٍ ومالٍ؟ فأكون صادقاً في قولي (بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، وَنَفْسِي لَكَ الْوِقَاءُ وَالْحِمَى‏)؟
 
أم أنَّني أحوطُها ما درَّت عليَّ معاشاً؟!
وأورثتني راتباً.. وقيادةً.. وزعامةً.. وحِراسةً.. ورئاسة؟!
 
وإن كُنتُ كذلك.. ألا أكون ممَّن يُتاجرُ بأقدَس المقدَّسات.. لحُطام دُنيا زائلة..
ألا أكون من قُطّاع طريق عباد الله؟
ومِن (تُجّارُ) العقيدة المهدويَّة!
 
وما حالي لَو أخذتُ المؤمنين إلى حيثُ لا ينبغي؟ باسم الإمام.. ودون رضاه!
وإذا نُبِّهتُ على ذلك أخذتني العزَّةُ بالإثم! وعَصَفَ بي الغرور والكبرياء!
 
ثمَّ ما حالي لو سَلِمتُ من ذي وذا.. ولكن.. كنتُ ضَعيفَ الإيمان.. (يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ لِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ)!
فماذا سأفعل عند اختلاف الرّايات؟! وقد قال الصادق عليه السلام: (وَلَتُرْفَعَنَّ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَايَةً مُشْتَبِهَةً، لَا يُدْرَى أَيٌّ مِنْ أَيٍّ)؟! (الكافي ج1 ص339).
 
وقال عليه السلام: (لَا يَخْرُجُ الْقَائِمُ حَتَّى يَخْرُجَ اثْنَا عَشَرَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ كُلُّهُمْ يَدْعُو إِلَى نَفْسِهِ) (الغيبة للطوسي ص437).
 
فليست كلُّ رايةٍ تُرفَعُ لبني هاشم هي راية حقّ.. بل ليس من راية حَقٍّ تُرفَعُ لهم ولا لسواهم إلا راية الإمام المنتظر عليه السلام..
 
على أنَّ أمره عليه السلام، وأمر الأطهار الأبرار، ليس مُلتَبِساً بحال.. فإنَّ (أَمْرنَا أَبْيَنُ مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ)، وهو (أَضْوَأُ مِنْهَا)، كما عن الصادق عليه السلام (الكافي ج1 ص339، والغيبة للنعماني ص152).
 
وكما كان أمرُهم كذلك.. كانت العلامات التي ينبغي توقُّعها، وتَرَقُّبُها، وانتظارها، وعدم الخروج قبلها، في غاية الوضوح، فعن الباقر عليه السلام:
 
لَا تَخْرُجُوا عَلَى أَحَدٍ فَإِنَّ أَمْرَكُمْ لَيْسَ بِهِ خَفَاءٌ، أَلَا إِنَّهَا آيَةٌ مِنَ الله عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَتْ مِنَ النَّاسِ، أَلَا إِنَّهَا أَضْوَأُ مِنَ الشَّمْسِ، لَا تَخْفَى عَلَى بَرٍّ وَلَا فَاجِرٍ، أَ تَعْرِفُونَ الصُّبْحَ؟ فَإِنَّهَا كَالصُّبْحِ لَيْسَ بِهِ خَفَاءٌ (الغيبة للنعماني ص201).
 
فإذا كان أمرُهم أضوأ من الشَّمس، وعلاماتُ ظهورِ أمرِهم، وإظهار دينهم على الدين كلِّه يعرفها البرُّ والفاجر..
لا جَرَمَ كان المُنحَرِفُ عنها وعنهم من غير أولياء الله تعالى.. (وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ لَا يَرْتَابُونَ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَرْتَابُونَ مَا غَيَّبَ حُجَّتَهُ عَنْهُمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ) (الكافي ج‏1 ص333).
 
اللّهم بحق الغائب المنتظر، اجمع كلمة الشيعة على التقوى، وخذ بيدهم، وأرشدهم، وثبِّتهم، واستخلص نيَّاتهم، واجعلهم تابعين لإمامهم، غير متقدِّمين ولا متأخِّرين عنه، واجعلنا منهم.. إنك سميعٌ مجيب.
 
والحمد لله رب العالمين
الأربعاء 22 شعبان 1444 هـ الموافق 15 – 3 – 2023 م




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=179418
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 03 / 15
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19