• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : ما فائدة الإمام الغائب؟ .
                          • الكاتب : شعيب العاملي .

ما فائدة الإمام الغائب؟

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الإِمَامُ كَالشَّمْسِ الطَّالِعَةِ المُجَلِّلَةِ بِنُورِهَا لِلْعَالَم‏..
 
هذه هي عقيدةُ الشيعة في الإمام، يتميَّزون بها عن سائر فِرَق المسلمين، ويعتقدون أنَّ: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّة (كفاية الأثر ص296).
 
يطرح المنكرُ لهذه العقيدة والجاحدُ بها، على المؤمنين سؤالين في غاية الأهمية:
 
أوَّلهما: ما هي فائدة الإمام الغائب؟ وأين نوره؟ وكيف يستفيد الناس منه؟
 
ثانيهما: كيف يكون الإمامُ حجَّةً لله تعالى وهو غائبٌ عنكم أيُّها الشيعة وعن سواكم؟
 
1. كيف يستفيدُ الناس من الإمام؟
 
أوَّلُ الأسئلة: ما فائدة الإمام الغائب؟
سُرعان ما يجدُ المؤمن ضالَّتَهُ في حديث النبيِّ صلى الله عليه وآله لجابرٍ، حين سأله عن انتفاع الشيعة بالإمام الغائب، فقال صلى الله عليه وآله:
وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالنُّبُوَّةِ، إِنَّهُمْ لَيَسْتَضِيئُونَ بِنُورِهِ‏، وَيَنْتَفِعُونَ بِوَلَايَتِهِ فِي غَيْبَتِهِ، كَانْتِفَاعِ النَّاسِ بِالشَّمْسِ إِنْ سَتَرَهَا سَحَاب (كفاية الأثر ص55).
 
ومثله جوابُ الإمام الصادق عليه السلام حين سُئِل: كَيْفَ يَنْتَفِعُ النَّاسُ بِالحُجَّةِ الغَائِبِ المَسْتُورِ؟
فأجاب عليه السلام: كَمَا يَنْتَفِعُونَ بِالشَّمْسِ إِذَا سَتَرَهَا السَّحَابُ (الأمالي للصدوق ص186).
 
يتأمَّل المؤمنُ فيُدركُ جملةً من بركات وثِمار وجود الإمام ولو كان غائباً، منها:
 
1. الثمرة الأولى: أمانٌ لأهل الأرض، في عالم التكوين
 
يحاولُ المؤمنُ أن يتدبَّرَ في حديث النبيِّ صلى الله عليه وآله، فما هي فائدة الشَّمس المستورة بالسحاب؟
هل تمنعُ السَّحابُ كلَّ تأثيرٍ للشَّمس، فتنعدمُ كلُّ فائدةٍ لها؟ أم أنَّ هذا القول فاسدٌ بالوجدان؟
هل تحجبُ الغيومُ نور الشَّمس حتى كأنَّها لم تكن؟ أم تحجب منها جزءاً ويصل للأرض جزءٌ آخر يساهم في الحفاظ عليها ويؤثِّرُ في استقرارها؟
 
ليس خفيّاً أنَّ النهار لا يصيرُ ليلاً عندما تسترُ الغيومُ الشمس، وأنَّ الأرض تظلُّ تنعمُ بفوائدها، وكذا الإمام.. وهو نورُ الله في الأرض، وهو الذي يسترشد به المؤمنون، فلا يضيرُه أن يُغطِّيه شيءٌ من السحاب، إذ لا يحجب السحابُ كلَّ نور الشمس.
 
بل إنَّ في بقاء الشمس ولو مستورةً بالغيومُ بقاء الأرض بأكملها، فلو انعدمت الشمس تماماً، وانقلب النَّهارُ ليلاً، لفسدت الحياة على وجه البسيطة، وما أمكن للإنسان أن يحيا عليها.
 
إنَّ درجة الحرارة تنخفضُ بشكل هائل لولا الشمس، حتى تصيرَ الأرضُ كتلةً جليديةً خلال أيام قليلة، ولا يبقى فيها أثرٌ للإنسان أو الحيوان أو النبات..
 
فأوَّلُ الثِّمارِ من وجود الإمام تكوينيٌّ إذاً، ولئن كانت الأرض لا تحيا بغير الشَّمس إلا وقتاً يسيراً، وسُرعان ما تنعدمُ الحياة فيها، فإنَّها لا تحيا دون الإمام لحظةً واحدة، كما قال الإمام الرضا عليه السلام: لَوْ خَلَتِ الأَرْضُ طَرْفَةَ عَيْنٍ مِنْ حُجَّةٍ لَسَاخَتْ بِأَهْلِهَا (بصائر الدرجات ج1 ص489).
 
وعن الباقر عليه السلام: لَوْ أَنَّ الإِمَامَ رُفِعَ مِنَ الأَرْضِ سَاعَةً لَسَاخَتْ بِأَهْلِهَا، وَمَاجَتْ كَمَا يَمُوجُ البَحْرُ بِأَهْلِه‏ (الغيبة للنعماني ص139).
 
هكذا يفهم المؤمنُ قولَ الإمام الحجة عليه السلام: وإِنِّي لَأَمَانٌ لِأَهْلِ الأَرْض‏ (كمال الدين ج2 ص485).
وهكذا تُحفَظُ الأرض بوجود الإمام، لأنَّه يمثِّل حجة السماء، والله تعالى لا يُبقي الأرض لحظةً بلا حجَّة.
 
2. الثمرة الثانية: هداية الإمام الناس إلى الله
 
وكما أنَّ الأثرَ الأوَّلَ خفيٌّ لا يراه العباد، كذلك للإمام أثرٌ في عالم الهداية والإرشاد مع غيبته، لا يراه غالبُ النّاس، وإنَّما يتلمَّسُ أثرَه الساعون لإرشاد عباد الله، حيث يرون الظروفَ كلَّها معاكسةً لهم بشكلٍ عجيب، ثم يرون فلاحاً ونجاحاً وتوفيقاً لا يناسب موازين الأسباب الظاهرة، فيدركون أنَّ الإمام هو الذي يُدَبِّرُ الأمور، والإمامُ يَدُ الله تعالى.
 
الله تعالى يهدي العبادَ بالإمام، ويسهِّلُ لهم سبل الرشاد، والأسبابُ في ذلك تكون خفيَّةً لا يراها كلُّ أحد.
وهو معنى قول الصادق عليه السلام: إِنَّ الأَرْضَ لَا تَخْلُو إِلَّا وَفِيهَا عَالِمٌ، كُلَّمَا زَادَ المُؤْمِنُونَ شَيْئاً رَدَّهُمْ، وَإِنْ نَقَصُوا شَيْئاً تَمَّمَهُ لَهُمْ (بصائر الدرجات ج1 ص331).
وفي الروايات الشريفة أنَّه لولاه عليه السلام لاختلطت والتَبَسَت على الناس أمورُهم، ولم يُعرف الحق من الباطل.
 
وفي الحديث: وَالله مَا تَرَكَ الله الأَرْضَ مُنْذُ قَبَضَ الله آدَمَ إِلَّا وَفِيهَا إِمَامٌ يُهْتَدَى بِهِ إِلَى الله، حُجَّةً عَلَى العِبَادِ، مَنْ تَرَكَهُ هَلَكَ، وَمَنْ لَزِمَهُ نَجَا، حَقّاً عَلَى الله (المحاسن ج1 ص92).
 
إنَّ مُلازمةَ الإمام تعني ملازمةَ نهجه وطريقه، فليس المعاصرُ للإمام الحاضر ملازماً له من حيث المكان والظهور والخفاء، بل ملازمٌ لنهجه، مُتَّبِعٌ لأمره، يعلمُ أن في تركه الهلاك وفي اتِّباعه النجاة والرشاد، وقد يعجزُ كثيرٌ من أصحاب الأئمة عليهم السلام عن رؤية الإمام الذي كانوا في أيامه، ومع ذلك لا يتركون نهجه، ولا يفارقون سبيله.
 
وفي الحديث: لَنْ تَخْلُوَ الأَرْضُ مِنْ حُجَّةٍ عَالِمٍ يُحْيِي فِيهَا مَا يُمِيتُونَ مِنَ الحَقِّ (بصائر الدرجات ج1 ص487).
هو الذي: يَدْعُو النَّاسَ إِلَى سَبِيلِ الله (الكافي ج1 ص178) سواءٌ تلمَّسنا ورأينا أثراً لدعوته وهو حاضر، أو كان ذلك خفياً علينا وهو غائب.. سواءٌ علمنا كيف يُبقي شعلةَ الحقِّ وَقَّادَةً في أسوأ الظروف، أم غفلنا عن ذلك وغاب عنا وجهه.
 
3. الثمرة الثالثة: رعاية أوليائه
 
بعدما حَفِظَ الإمامُ الأرض بوجوده، وحَفِظَ باب الهداية وأبقاه جليّاً للناس كافَّةً، اهتمَّ عليه السلام اهتماماً خاصاً بالفئة التي آمنت به، واتَّخذته إماماً، وأطاعت أمرَه.
 
إنَّ هذه الفئة كانت ولا زالت قليلةً لا حولَ لها ولا قوَّة، تكالَبَت عليها الأمَم، سيَّما الحُكّام الظَّلَمَة، أعداءُ آل محمدٍ عليهم السلام.
إنَّ مقدار عداوة أعداء الله لأوليائه مَهولٌ وعجيب، وهو يقتضي وفق قوانين الأسباب أن يستأصل المخالفون المؤمنينَ عن وجه الأرض، ولا يبقوا لهم من باقية.
 
لكنَّ الإمام عليه السلام، وهو بابُ الله، يعلمُ أنَّ الحقَّ محصورٌ بهؤلاء، ولو أُبيدوا عن وجه الأرض لاندرس الحق تماماً، فأحاطهم برعايته، وحفظهم بحفظ الله تعالى.
 
وهو ما عبَّرَ عنه الإمام في توقيعه الشريف:
نَحْنُ وَإِنْ كُنَّا نَائِينَ بِمَكَانِنَا النَّائِي عَنْ مَسَاكِنِ الظَّالِمِينَ، حَسَبَ الَّذِي أَرَانَاهُ الله تَعَالَى لَنَا مِنَ الصَّلَاحِ، وَلِشِيعَتِنَا المُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ، مَا دَامَتْ دَوْلَةُ الدُّنْيَا لِلْفَاسِقِينَ:
فالإمام نأى عنَّا لما فيه صلاحُهُ وصلاحُنا، وإن جَهِلنَا الوجه في ذلك.
 
فَإِنَّا نُحِيطُ عِلْماً بِأَنْبَائِكُمْ، وَلَا يَعْزُبُ عَنَّا شَيْ‏ءٌ مِنْ أَخْبَارِكُمْ..
الإمام غائبٌ عنَّا وليس بغائب: غائبٌ ببدنه الشريف عن المؤمنين، حاضرٌ بعلمه واطّلاعه ومتابعته لأمورهم..
 
يقول عليه السلام:
إِنَّا غَيْرُ مُهْمِلِينَ لِمُرَاعَاتِكُمْ، وَلَا نَاسِينَ لِذِكْرِكُمْ، وَلَوْ لَا ذَلِكَ لَنَزَلَ بِكُمُ اللَّأْوَاءُ، وَاصْطَلَمَكُمُ الأَعْدَاءُ (الإحتجاج ج‏2 ص497).
 
أي أنَّه لولا رعاية الإمام للمؤمنين لنزلت بهم شِدَّةٌ تفوق ما نزل بهم فعلاً، ولضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت، ولاجتثَّهم أعداؤهم عن وجه الأرض، واستأصلوهم عن بكرة أبيهم.
 
4. الثمرة الرابعة: قرب المؤمنين من الإمام بعد الامتحان
 
إنَّ في غيبة الإمام امتحانٌ للعباد قاطبةً، لكنَّ الظَّفَرَ والفوزَ يكون للشيعة المؤمنين بالإمام، حيث ينالون القُربَ من الله تعالى.
فإنَّ المُسَلِّمَ لإمامِه مع غيبته ممتثلٌ لأمر الله تعالى فيه، دون سائر الخلق.
 
لذا ورد عن الإمام الصادق عليه السلام:
أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العِبَادُ مِنَ الله جَلَّ ذِكْرُهُ، وَأَرْضَى مَا يَكُونُ عَنْهُمْ، إِذَا افْتَقَدُوا حُجَّةَ الله جَلَّ وَعَزَّ، وَلَمْ يَظْهَرْ لهمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مَكَانَهُ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَمْ تَبْطُلْ حُجَّةُ الله جَلَّ ذِكْرُهُ وَلَا مِيثَاقُهُ، فَعِنْدَهَا فَتَوَقَّعُوا الفَرَجَ صَبَاحاً وَمَسَاءً.
 
هذه الفئة الأولى من الناس.. المؤمنون الذين ما شَكُّوا بالإمام لحظةً، لأنَّ الشكَّ بالإمام شكٌّ بالله وحكمته وحجَته، فالإمامُ حجَّةُ الله، ولولا وجوده لما كانت حجَّةُ الله تامَّة.
 
والفئة الثانية أعداء الإمام وأعداء الله:
إِنَّ أَشَدَّ مَا يَكُونُ غَضَبُ الله عَلَى أَعْدَائِهِ إِذَا افْتَقَدُوا حُجَّتَهُ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُم‏، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ لَا يَرْتَابُونَ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَرْتَابُونَ مَا غَيَّبَ حُجَّتَهُ عَنْهُمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ (الكافي ج1 ص333).
 
هؤلاء قد بلغوا من المعرفة ما لم يبلغها سواهم، فغيرُهم آمَنَ بعدما رأى، وهم آمنوا بدلائل العقول، والحججِ والبراهين، دون أن يروا الإمام، حتى قال عنهم الإمام عليه السلام:
 
إِنَّ أَهْلَ زَمَانِ غَيْبَتِهِ، الْقَائِلِينَ بِإِمَامَتِهِ، وَالمُنْتَظِرِينَ لِظُهُورِهِ، أَفْضَلُ مِنْ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ، لِأَنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْطَاهُمْ مِنَ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ وَالمَعْرِفَةِ مَا صَارَتْ بِهِ الْغَيْبَةُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ المُشَاهَدَة (كمال الدين ج‏1 ص320).
 
هي منزلةٌ عظيمةٌ بلغها المنتظرون، فإنَّهم وإن تشوَّقوا إلى رؤية إمامهم عليه السلام، إلا أنَّ يقينهم بإمامهم لا يتوقَّف على رؤيته، فالغياب كالحضور عندهم من حيث اليقين والاعتقاد، وإن كان للحضور ثمارُه وفرحته وسروره، ففيه غاية المنى.
وليس هؤلاء ممَّن يبحثون عن شخصٍ ينصبونه دونَ الحجَّة، فإنَّ عقيدتهم في الحجَّة عظيمةٌ حتى كأنَّهم يرونه مع غيابه.
 
أما من تشوَّهَت عقيدته، فإنَّه يبحث في شرق الأرض وغربها عمَّن يصلحُ بنظره لأن يكون إماماً يُقتدى به، وليس هناك إلا الخيبة والخسران.
 
هذه بعضُ فوائد الإمام عليه السلام.. حِفظُ الأرض بمَن عليها، وفَتحُ باب الهداية للناس، ورعاية أولياء الله تعالى، وقربهم من الله تعالى، إلى غير ذلك مما يتنعَّمُ به العبادُ وهم جاهلون به.
 
2. كيف يكون الإمام حجَّةً لله وهو غائب؟
 
ههنا يأتي دور السؤال الثاني: ألا تُلازمُ الحجيَّةُ الظهور؟ هل يمكن أن يكون الإمامُ حُجَّةً لله وهو غائب؟ ألا تنتقض الحجيَّةُ بغيبته وتبطل؟
يظهر الجواب على ذلك في جهات:
 
1. الحجة: من يصح الاحتجاج به
 
ورد في كتاب العين أنَّ:
المَحَجَّة: قارعة الطريق الواضح. والحُجَّة: وَجهُ الظَّفَر عند الخصومة (ج‌3 ص10).
 
وفي معجم مقاييس اللغة: المحَجَّة، وهي جَادَّة الطريق.. وممكنٌ أن يكون الحُجَّة مشتقّةً من هذا؛ لأنها تُقْصَد، أو بها يُقْصَد الحقُّ المطلوب. يقال حاججت فلاناً فحجَجْته أى غلبتُه بالحجّة، وذلك الظّفرُ يكون عند الخصومة (ج2 ص30).
 
فإن أُريدَ بالحجَّة ما يدلُّ على الحق، ويرشدُ إليه، فقد تقدَّمَ أنَّ الإمام حجَّةٌ بهذا المعنى حتى مع غيبته، وسيأتي أن له دلائل تُرشدُ إليه عندما يكون مستتراً.
 
وإن أُريدَ بالحجَّة ما يصحُّ الاحتجاج به، ويغلبُ به المحتجُّ خصمَه، فإنَّه يشمل الرُّسُل والأنبياء والأئمة معاً، كما يشمل العقول، وإن كانت حججاً باطنةً مستورةً، وآثارُها ظاهرة، فالإمامُ حال غيبته تظهرُ بعضُ آثاره، وإن خَفيَ شخصه، وقد قال الصادق عليه السلام:
 
إِنَّ لله عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ: حُجَّةً ظَاهِرَةً، وَحُجَّةً بَاطِنَةً.
فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَالأَنْبِيَاءُ وَالأَئِمَّةُ (ع)، وَأَمَّا البَاطِنَةُ فَالعُقُول‏ (الكافي ج1 ص16).
 
وكون العقول باطنةً مستورةً لا يُخرجُها عن الحجّيَّة بعد ظهور آثارها، فبها قِوامُ التكليف، وامتياز الإنسان عن سواه، وهكذا الإمام الغائب.
 
وعن الصادق عليه السلام: إِنَ الله احْتَجَّ عَلَى النَّاسِ بِمَا آتَاهُمْ وَعَرَّفَهُمْ (الكافي ج1 ص162).
فكلُّ ما يُعَرِّفُ النَّاسَ على أمر الله هو حجَّةٌ له تعالى، وليس أوضح من الإمام بعد النبي في الدلالة على الله تعالى.
 
بل إنَّ الاحتجاج يصحُّ حتى بالمماثِلِ الممتثِل، بمعنى أنَّ لله تعالى أن يحتجَّ على العصاة من العباد بالمطيعين منهم، وليس للعاصي حينها مِن حجَّةٍ أمام ربِّه، لأنَّ امتثالَ واحدٍ من ألوفٍ مع عِلمِ الجميع بلزوم الامتثال، وبلوغ أمر الله لهم، هو حجَّةٌ واضحةٌ جليَّةٌ على العصاة، لتوفُّر أسباب الطاعة والانقياد لله تعالى، فمن لم يمتثل لأمر الله كان مستحقاً للعقوبة.
 
وهذا يشمل الأحياء والأموات معاً، فيصحُّ الاحتجاجُ بفعلِ ميِّتٍ مع وحدة المناط، كما في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام:
تُؤْتَى بِالمَرْأَةِ الحَسْنَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ الَّتِي قَدِ افْتُتِنَتْ فِي حُسْنِهَا، فَتَقُولُ:
يَا رَبِّ حَسَّنْتَ خَلْقِي حَتَّى لَقِيتُ مَا لَقِيتُ!
 
وكأنَّ هذه المرأة تُريد الاحتجاج على الله تعالى بأنَّ سبب افتتانها وما جرى معها هو حُسنُها، والله تعالى هو الذي حسَّنَ خلقها، فهي بريئةٌ من كل شيء بزعمها!
 
ههنا تظهر حجّة الله، بحيثُ يؤتى بمن كانت أحسن منها ولم تفتتن، لتتم الحجة، يقول الصادق عليه السلام:
فَيُجَاءُ بِمَرْيَمَ (ع)، فَيُقَالُ: أَنْتِ أَحْسَنُ أَوْ هَذِهِ؟
قَدْ حَسَّنَّاهَا فَلَمْ تُفْتَتَنْ (الكافي ج‏8 ص229).
وهكذا يؤتى بيوسف وأيوب عليهما السلام، ليُحتجَّ بهما على من افتتن بجماله ومن شُدِّدَ عليه في بلائه، فيبثت أن الاحتجاج يشمل الحاضر والغائب.
 
2. الحجة المغمور المكتتم
 
بعدما تبيَّنَ أن لله تعالى أن يحتجَّ على العباد بما هو غائبٌ عن أبصارهم، كقوَّة الإدراك والتعقُّل التي لا يُمكن أن تُرى، وبالصالحين ولو في الأزمنة المختلفة، ثبت أنَّه لا تنافي بين كون الإمامَ حجَّةً لله تعالى وبين كونه مغموراً مُكتَتِماً.
 
ولذا فإنَّ المؤمنَ يعلم أنَّ غيبة وليِّ الله تعالى لا تعني أنَّ حجته قد بطلت، فإنَّ حجَّة الله تعالى تامَّةٌ بوجوده، ولذا ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: اللهم.. إِنَّكَ لَا تُخْلِي أَرْضَكَ مِنْ حُجَّةٍ لَكَ عَلَى خَلْقِكَ:
1. ظَاهِرٍ لَيْسَ بِالمُطَاعِ.
2. أَوْ خَائِفٍ مَغْمُورٍ.
كَيْلَا تَبْطُلَ حُجَّتُكَ، وَلَا يَضِلَّ أَوْلِيَاؤُكَ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَهُم‏ (الكافي ج1 ص335).
فكما أنَّ الإمام حجَّةٌ لله عند ظهوره ولو لم يكن مُطاعاً، فهو حجَّةٌ في غيابه.
 
إنَّ على الأمة أن تطيع الإمام في كلِّ أوامره، وامتناعُها عن طاعته لا ينافي تمامية حجَّته، وكذا إلجاؤها الإمام إلى الغياب لا يعني بطلان الحجَّة، فإنَّها تامَّةٌ بنفس وجوده.
فالمقتضي للحجيَّة هو وجود الإمام، ومعه تتمُّ حجَّةُ الله.
 
ثمَّ إن عدم رؤية الناس للإمام قد يُتَصَوَّر على وجهين:
 
الأول: هو عدم وجود إمامٍ رأساً، فليس هناك من مقتضٍ للرؤية، بل إنَّها سالبةٌ بانتفاء موضوعها، أي أنَّ الإمام غير موجود فكيف يمكن رؤية غير الموجود؟
 
الثاني: أن الإمام موجودٌ، لكنه غائبٌ بل مُغَيَّبٌ، فهناك مقتضٍ لرؤيته وهو وجوده، لكنَّ هناك مانعاً منها وهو غيبته بسبب الخلق.
 
فإن قيل: لا فرق بين الأمرين!
قلنا: هذا من عمى العينين!
 
لأنّه مع عدم وجود الإمام قد يحتجُّ الخلقُ على الخالق: أنك لم تترك بين ظهرانينا من يُتِمُّ الحجة علينا.
 
أمَّا مع وجوده، فحجَّةُ الله تامة، وليس للناس حجة على الله تعالى، لأن غيبة الإمام كانت بسبب الخلق أنفسهم، إذ لو أطاعوا الله تعالى وتجنبوا ظلم الإمام لما غيَّبَهُ ربُّه، كما لهجت بذلك الأحاديث، ودلّت عليه شواهد العقول.
 
فإن قيل: كيف صرنا سبباً لغيابه، وهو غائبٌ منذ ما يزيد عن ألف عام؟ إن كان ذنبٌ للمتقدِّم فما ذنب المتأخر؟!
 
قلنا: الناس هم الناس، والقوم هم القوم.. والراضي بفعل قومٍ كالداخل معهم.. فإن الأمَّة لم تقبل من النبي والإمام دعوتهم لله تعالى، ولا استجابت أمر الله في اتِّبَاعهم، فاستحقت أن يُغَيَّبَ عنها الإمام، وبقيت حجة الله تامَّةً بوجوده ولو كان مغموراً مستوراً.
 
3. لماذا قلنا بلزوم حياته؟
 
فإن قيل:
لماذا يشترط الشيعة إذاً أن يكون الإمامُ حياً.. وهم يقبلون أن يكون الميت حجَّةً؟ ألا اكتفوا بمَن تقدَّمَ من الأئمة حيث تتمُّ الحجَّةُ بهم؟
 
قلنا:
تَقَدَّم أن حجج الله تعالى كثيرةٌ، ومنها العقل، فهو من الحجج الباطنة، ومع كونه حُجَّةً إلا أنَّه تعالى ما اكتفى به، بل ضَمَّ إليه الحجة الظاهرة وهم الرُّسُلُ والأنبياء.
 
ومع كثرة حجج الله تعالى وعظمتها، فإنَّ الله تعالى ما اقتصر على بعضها، بل أراد إتمام الحجة وتعظيمها.
وأعظم حجج الله تعالى هو الإمام، فهو الحجة البالغة.
ومع كونه حجَّةً حتى بعد وفاته، إلا أن كونه الحجَّة البالغة يقتضي وجوده حيَّاً ليكون الاحتجاج به أبلغ وأقوى.
 
لقد ورد عنهم عليهم السلام: نَحْنُ الحُجَّةُ البَالِغَةُ عَلَى مَنْ دُونَ السَّمَاءِ وَفَوْقَ الأَرْضِ (بصائر الدرجات ج1 ص104).
وورد في الأئمة عليهم السلام:
جَعَلَهُمُ الله أَرْكَانَ الأَرْضِ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ، وَالحُجَّةَ البَالِغَةَ عَلَى مَنْ فَوْقَ الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الثَّرَى‏ (بصائر الدرجات ج1 ص201).
 
الإمام حُجَّةٌ لله إذاً حتى على من لم يُعاصِره، فهو الحجة على من تحت الثرى، لِما تقدَّمَ من عدم اختصاص الحجَّة بالحاضر، لكنَّ الاحتجاج بالحاضر أبلغ وأقوى، وقد شاء الله تعالى أن تكون حجَّتُه بالغة، فلزم من ذلك اشتراط الحياة في الإمام، من باب الإبقاء على الحجة البالغة، فضلاً عن أنَّ الأئمة أركان الأرض الذين تميد لو رفعوا منها، ولا يستقرُّ لها قرار دونَهم.
 
ويكفي في إتمام حُجَّة الإمام أن يُعرَف، وإن غابَ شخصُه وجُهِل، وقد روي عن الإمام الرضا عليه السلام:
إِنَّ الحُجَّةَ لَا تَقُومُ لله عَلَى خَلْقِهِ إِلَّا بِإِمَامٍ حَتَّى يُعْرَفَ (الكافي ج1 ص177).
وورد أنَّه: لَوْ لَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ إِلَّا اثْنَانِ لَكَانَ أَحَدُهُمَا الحُجَّة (بصائر الدرجات ج1 ص488).
 
وعن الصادق عليه السلام:
لَوْ كَانَ النَّاسُ رَجُلَيْنِ لَكَانَ أَحَدُهُمَا الإِمَامَ..
إِنَّ آخِرَ مَنْ يَمُوتُ الإِمَامُ لِئَلَّا يَحْتَجَّ أَحَدٌ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ تَرَكَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ لله عَلَيْهِ (الكافي ج1 ص180).
 
4. دلائل الإمام في غيبته
 
لعلَّ سائلاً يتساءل.. كيف السَّبيلُ إلى معرفة الإمام في حال غيبته؟ وما الطريق إلى ذلك إذا كان مُكتَتِماً مستوراً؟
 
والجواب:
أنَّ للإمام علاماتٍ تدلُّ عليه، وتُرشِدُ إليه، يستوي في ذلك الإمام الحاضر والغائب..
 
وقد سئل الإمام الصادق عليه السلام عن حال المكلفين بعد وفاة الإمام، فبَيَّنَ لهم ضرورة أن ينفر من كل طائفةٍ فرقةٌ، ليعرفوا إمامهم، ويُبَلِّغُوا قومهم إذا رجعوا إليهم..
ثم سئل فقيل له:
فَبَلَغَ الْبَلَدَ بَعْضُهُمْ، فَوَجَدَكَ مُغْلَقاً عَلَيْكَ بَابُكَ، وَمُرْخًى عَلَيْكَ سِتْرُكَ، لَا تَدْعُوهُمْ إِلَى نَفْسِكَ، وَلَا يَكُونُ مَنْ يَدُلُّهُمْ عَلَيْكَ، فَبِمَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ؟
قَالَ: بِكِتَابِ الله المُنْزَلِ.
 
كتابُ الله تعالى أوَّلُ دلائل الإمام عليه السلام في غيبته، وقد نزل شطرٌ كبيرٌ من القرآن الكريم فيهم عليهم السلام، وأمرَ الله تعالى فيه بمودَّتِهم واتِّباعهم، وجعل أوَّلَ الأئمة علياً عليه السلام إماماً بنصِّ آية الغدير، وغيرها الكثير..
وثاني دلائل الإمام وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله بالأئمة عليهم السلام، وهي ثابتةٌ سواءٌ حضرَ الإمام أم غاب..
 
ولئن خَفِيَت بعضُ خِصال الإمام أو علاماته كما قيل للصادق عليه السلام: إِنَّ ذَلِكَ مَسْتُورٌ مَخَافَةَ السُّلْطَانِ!
فإنَّ ما يظهرُ منها يكون كافياً في بيان الحق والإرشاد إليه، وقد أجاب عليه السلام: لَا يَكُونَ فِي سِتْرٍ إِلَّا وَلَهُ حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ! (الكافي ج1 ص379).
 
وحجَّةُ الإمام المنتظر اليوم تامَّةٌ بالقرآن الكريم، وحديث النبيِّ صلى الله عليه وآله، وقد ثبت بشكل قطعيٍّ أنَّه حجَّة الله تعالى.
 
ولعلَّه المصداق الأتم لقول أمير المؤمنين عليه السلام حين قال:
اللهمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ حُجَجٍ فِي أَرْضِكَ، حُجَّةٍ بَعْدَ حُجَّةٍ عَلَى خَلْقِكَ، يَهْدُونَهُمْ إِلَى دِينِكَ، وَيُعَلِّمُونَهُمْ عِلْمَكَ، كَيْلَا يَتَفَرَّقَ أَتْبَاعُ أَوْلِيَائِكَ.
ظَاهِرٍ غَيْرِ مُطَاعٍ أَوْ مُكْتَتَمٍ يتَرَقَّبُ!
إِنْ غَابَ عَنِ النَّاسِ شَخْصُهُمْ فِي حَالِ هُدْنَتِهِمْ، فَلَمْ يَغِبْ عَنْهُمْ قَدِيمُ مَبْثُوثِ عِلْمِهِمْ.
وَآدَابُهُمْ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ مُثْبَتَةٌ، فَهُمْ بِهَا عَامِلُونَ (الكافي ج1 ص339).
 
قديمُ مبثوث علم الحجج هو ما بشَّرَ به الأنبياء، من آدم عليه السلام، إلى خاتمهم وسيِّدهم محمدٍ صلى الله عليه وآله، حتى أنَّ الله تعالى أخذ الميثاق بالولاء لعليٍّ وبنيه عليهم السلام على الخلق، بل ورد عن رسول الله (ص) أنَّه:
لَمْ يَزَلِ الله يَحْتَجُّ بِعَلِيٍّ فِي كُلِّ أُمَّةٍ فِيهَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَأَشَدُّهُمْ مَعْرِفَةً لِعَلِيٍّ أَعْظَمُهُمْ دَرَجَةً عِنْدَ الله! (كتاب سليم ج2 ص858).
 
هكذا كان عليٌّ حجَّةَ الله على الأنبياء قبل ولادته! وهكذا صار المهديُّ حجَّة الله على كلّ العباد اليوم رغم غيبته.
 
وقد صار ما بَثَّهُ الأنبياء من علومٍ حجَّةً ظاهرة للإمام، سيَّما ما قاله الخاتم صلى الله عليه وآله، ثم الأوصياء من بعده، وهذه حُجَّةٌ ظاهرةٌ بَيِّنَةٌ للإمام المستور.
لذا يهتدي اليوم إلى نور الإمام من كان صادقاً مخلصاً، ويضلُّ عنه من جَحَدَ نور الله تعالى وما اهتدى بِهَديه..
 
هكذا يظهر أنّ حجَّة الله تامَّةٌ بالإمام عليه السلام، لا فرق في ذلك بين حضوره وغيابه عليه السلام، وأنَّ المؤمن لا يرتاب من ذلك لشدَّة معرفته بدلائل إمامتهم عليهم السلام، وقوَّة اعتقاده بهم.
 
ثبتنا الله على ولايتهم.. وعجل الله فرج وليهم.. وجعلنا من أنصاره وأعوانه.
 
والحمد لله رب العالمين




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=179155
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 03 / 09
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28