• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : بحوث ودراسات .
                    • الموضوع : النبيّ وإدراك الحقيقة المطلقة .
                          • الكاتب : الشيخ مازن المطوري .

النبيّ وإدراك الحقيقة المطلقة

هل يمكن إدراك الحقيقة المطلقة؟
أو أن إدراك البشر للحقائق نسبيّ ومحدود؟

ينتمي هذا البحث إلى نظرية المعرفة (الابستمولوجيا)، وهو يختص بالمعارف الحصولية تحديداً. أي تلك المعارف الحاصلة عن طريق المفاهيم وارتسام الصور. فيبحث في نظرية المعرفة أن الإنسان وفق الأدوات والقدرات التي جُهّز بها، هل يمكنه أن يقف على الحقيقة المطلقة أو لا يمكنه ذلك؟

والمراد من الإنسان هنا هو نوع الإنسان، فبعد الإيمان بوجود واقع وراء وخلف الذهن (في مقابل السفسطة)، وبعد الإيمان أن الإنسان يمكنه إدراك ذلك الواقع والعلم به (في مقابل بعض السفسطة والمثالية)، يقع البحث في أن هذا الإدراك والعلم بالحقائق هل يكون مطلقاً أو غير مطلق؟ هل باستطاعتنا أن نقف على الحقيقة المطلقة؟ أو نحن عاجزون عن ذلك، بمعنى أننا ندرك الحقائق بشكل نِسبي ومحدود؟

وإذا كان الإنسان عاجزاً عن إدراك الحقائق بشكل مطلق، فهل يرجع العجز إلى أسباب ذاتية مرتبطة بالذهن، أو هو راجع إلى أسباب موضوعية خارج إطار الذهن والقدرات الذاتية؟ وإدراكنا أننا لا ندرك الحقائق بشكل مطلق، هل هو إدراك مطلق أو غير مطلق؟!

يوجد في هذه المسألة اتجاهات مختلفة قديماً وحديثاً، ويخوض فلاسفة الإدراك والمعرفة هذا البحث بصرف النظر عن كونهم متدينين أو غير متدينين، فلا يؤثّر موقفهم الإيماني وغير الإيماني في الموقف من هذا البحث، ولا يفرض عليهم الأخذ باتجاه معيّن في الحقيقة.

نعم، الذي يؤثّر في هذا البحث هو طبيعة نظرة الباحث إلى العقل ومدركاته، وتقييمه لمعارف الإنسان وتحليل الذهن البشري، بل وحقيقة الإنسان في أنه موجود مادي أو موجود مزدوج فيه جانب مادي وآخر غير مادي، وبالتالي البحث في أن الإدراك هل هو ظاهرة مادية قائمة في الدماغ والجهاز العصبي، أو هو ظاهرة غير مادية وتقوم في محور غير مادي. لذلك نجد فلاسفة أوربا يختلفون في الموقف من هذه المسألة، فهناك توجهات وآراء متعددة متباينة، كما هو مذكور تفصيلاً في نظرية المعرفة.

وقد يُسأل: هل يجتمع إدراك الحقيقة مع الخطأ في آنٍ واحد؟

والجواب: يوجد تفصيل بين القضايا البسيطة والقضايا المركبة، (يترك لموضعه المناسب).

[هل الإطلاق صفة للإدراك أو للمُدرَك]
وثمّة سؤال آخر: أننا حين نقول (إدراك الحقيقة المطلقة)، و(إدراك الحقائق النسبي والمحدود)، فهل الإطلاق هنا صفة للإدراك (نفس العلم والمعرفة والإنكشاف) أو صفة للمُدرَك (بالفتح) أي المعلوم ومتعلّق العلم؟ (يترك لموضعه المناسب، وإجمالاً هو صفة الإدراك).

إذن، هذا هو محلّ البحث في مسألة الحقيقة المطلقة أو النسبية، وهذا موضوعها بالتحديد. وكما قالوا: ما لم نحرّر محلّ النزاع قبل كل شيء، وما لم نحرّر ونبيّن ونوضّح المصطلحات والمفردات قبل الدخول في البحث، فإننا سوف نخبط في جهل مستدام، وتتقاذفنا أمواج اللافهم! ونستمر في جدلٍ لا ينتهي ولن يصل بنا إلى شاطئ الحقيقة!

[بحث الإطلاق والنسبية يقع في العلوم الحصولية فقط]
وفي هذا البحث عن إدراك الحقيقة المطلقة، لا يقاس الإنسان بالإله حتى نقول: إن الحقيقة المطلقة لا توجد إلا عند الله تعالى! ولا ربط بين المسألتين بشهادة أن بعض فلاسفة الغرب القائلين بالإدراك المطلق للحقائق لا يؤمنون بالغيب ولا بوجود الله تعالى، وفي المقابل هناك في القائلين بالإدراك المُقيّد مَن يؤمن بوجود الله تعالى.

وأما العلم الحضوري والمعارف الحاصلة عن طريق الشهود الباطني والوحي والإلهام، فهي خارجة عن محل البحث، ولا يتعرّضون له في هذه المسألة ولا يقحمونها فيها، فلا يقع البحث، ولم يقع، في أن العلم الحضوري بشيء هل هو مطلق أو محدود ونسبي؟ ولم يقع بحث في أن تلقي المعرفة من الوحي والإلهام هل هو حقيقة مطلقة أو غير مطلقة؛ لأن هذه المعارف لا ربط لها بالذهن والعقل والتصورات والمفاهيم، ولا توجد فيها واسطة بين العالم والعلم والمعلوم.

كما لا معنى من جهة ثانية لمقايسة صاحب الوحي (النبي) وصاحب العلم الحضوري بالله تعالى، حتى يقال: إن النبي قياساً بالله تعالى لا يمتلك الحقيقة المطلقة! لأن المسألة لو كانت بالقياس إلى الله تعالى فلا فرق حينئذ بين المعارف المفاهيمية الحصولية وبين المعارف الشهودية والحضورية. ولكنهم في نظرية المعرفة لا يبحثون عن المسألة بهذا الشكل. بل النزاع عن الحقيقة المطلقة والمحدودة يقع بين الفلاسفة بصرف النظر عن موقفهم من العلم الحضوري والمعارف الشهودية والوحي والإلهام. فالنزاع ينصبُّ حول المعارف الحصولية الناشئة من المفاهيم، التي هي مورد الفلسفة والعلوم المختلفة من فيزياء وكيمياء وإلهيات وغيرها.

[شبهة عدم علم النبي (ص) بالحقيقة المطلقة]
بناءً على هذا، فالكلام الذي يقرّر: حتى النبي لا توجد عنده حقيقة مطلقة قياساً بالله تعالى، غير صحيح بالمرّة، وهو خلط وعدم فهم لا أكثر؛ لأن العلم الحضوري والمعرفة الناشئة من الوحي والإلهام ليست معرفة عن طريق المفاهيم والصور الذهنية.

وقد تسأل: ألم يقل القرآن الكريم معلّماً النبيّ: (وقل ربّي زدني علماً) [طه: ١١٤]؟ ألا يعني ذلك أن إدراك النبي للحقائق غير مطلق وهو يطلب الزيادة فيه؟

والجواب: هل المراد في الآية طلب الزيادة من حيث (الكم) أو طلب الزيادة من حيث (الكيف)؟

إذا فهمنا المراد من الآية فسوف نعرف أنها لا ترتبط من قريب أو بعيد بمسألة إدراك الحقيقة وأنه مطلق أو نسبي محدود والتي تبحث في نظرية المعرفة.

خاطب الوحي النبيَّ قائلاً: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علماً). والوقوف على تمام الآية دون استقطاع لذيلها يُبيّن لنا المراد منها بشكلٍ سليم.

تتحدّث الآية عن (الاستبدال)، أي استبدال استعجال قراءة ما لم ينزل بعد بـطلب زيادة العلم. صحيح أنك تعلم بالقرآن لذلك تعجل بقراءة الآيات، ولكن لا تكتف بذلك واطلب من الله أن يزيدك علماً عبر الصبر واستماع بقية ما يوحى إليك! وهذا معناه أن الآية تتحدّث عن (الكم) في العلم والمعرفة، وعن التفصيل، دون (الكيف)، بل الآية غير ناظرة لهذه الجهة المبحوثة في نظرية المعرفة، وكما يقول علماء أصول الفقه: ليست ظاهرة في الجهة.

ولذلك نجد علماء القرآنيّات الذين يذهبون إلى أن القرآن قد نزل مرّتين (دفعةً) و(نجوماً) كما جاء في روايات، أقول: نجد هؤلاء يقولون إن الآية الكريمة تؤيّد هذا المعنى الذي دلّت عليه هذه الروايات، بمعنى أن تعجّل النبي (كما في الآية) راجع إلى علمه بالقرآن بسبب النزول (دفعةً واحدةً) على قلبه قبل أن ينزل تدريجاً ونجوماً بعد ذلك، وأضافوا أنه لو لا هذا النزول (دفعةً واحدةً) لم يبق معنى لـ(عجلة) النبي بقراءة ما لم ينزل بعدُ منه.

وبصرف النظر عن هذا المطلب الذي يبحث في علوم القرآن، فالآية الكريمة أجنبية عن بحث الإدراك المطلق والمحدود بالمعنى المبحوث في نظرية المعرفة، والاستدلال بها يعتبر من مغالطة التوسّل بمرجعية غير صحيحة في المقام.

[البحث في الحقيقة المطلقة والنسبية يتعلّق بالكيف وليس بالكم]
البحث في الحقيقة المطلقة والمحدودة والنسبية إنما يتعلّق بالكيف دون الكم؛ إذ لا شك أن البشر في إدراك المعارف والحقائق من حيث (الكم) غير متساوين، فضلاً عن قياسهم بخالقهم تبارك وتعالى، فإدراك الحقائق من حيث (الكم) متفاوت بين أرسطو وتلميذه الإسكندر، وبين الشيخ الرئيس ابن سينا وتلميذه بهمنيار، وبين صدر الدين الشيرازي وتلميذه الفيّاض اللاهيجي، وبين ستيفن هوكينك وريتشارد دوكينز، وبيني وبينك، وبين البشر جميعاً، ونحن نزداد كل يوم معلومات، ونتعرّف على حقائق جديدة لم نكن نعرفها قبلاً، ولكن هذا لا ربط له بمسألة أن إدراك الحقائق مطلق أو نسبي محدود. فالحديث عن محدودية العلم البشري (كمّاً)، وأن العالَم المحيط بالإنسان غير متناه بينما الفكر البشري متناه (كمّاً)، واضح جداً، ولا خلاف فيه، فلا يستطيع الإنسان التوفّر على العلم الشامل من حيث (الكم)، فلا يوجد في هذا المجال مَن هو جامع للمعقول والمنقول ولا مَن هو أعلم أهل زمانه من حيث الكم.

وإنما نبحث في نظرية المعرفة أننا لما ندرك أن (١ + ١ = ٢)، وأن (الفلزات تتمدّد بالحرارة)، وأن (المعلول لا بد أن يوجد بعد تحقق علته التامة بالضرورة والحتم)، وأن (وزن الجسم في الماء يساوي وزن السائل المُزاح)، فهل هذا الإدراك مطلق (من حيث الكيف) أو نسبي محدود؟ هل يمكن أن يكون الواقع ليس كذلك ونحن ندركه بشكل مختلف أو لا؟ فهل يمكن أن يكون الواقع خلف الذهن أن (١ + ١ = ٣) بينما نحن ندركه مساوياً (٢)؟ وهل إدراكنا هذا ثابت بشكل عابر للزمان والمكان أو يتأثّر بذلك ويتغيّر من زمان ومكان؟ وهل إدراكنا مختلف ومتغيّر من ذهن لآخر ومن طبيعة سيكيولوجية لأخرى أو لا يختلف! فهذا هو البحث في مسألة إدراك الحقيقة المطلقة والنسبية المحدودة كيفاً.

[دفع إلتباس حول اصطلاح الحقيقة المطلقة]
أما الحديث بشكل: "عندما نقول حقيقة مطلقة يعني لا يخفى عليه شيء؟"، فهذا من الخلط والاشتباه، فالبحث ليس في أن النبي (ص) والبشر لا يخفى عليهم شيء قياساً برب العالمين، إذ لا يوجد شكّ في أن علم الله تعالى مطلق غير متناه، وهو عين ذاته، وهو واجب كوجوب ذاته (واجب الوجود بالذات واجب من جميع الجهات)، ولا محدودية فيه شدّة وعدةّ ومدّة عقلاً ونقلاً (يعلم خآئنة الأعينِ وما تُخفي الصدور) [غافر: ١٩]، (وما يعزبُ عن ربّك من مثقالِ ذرّةٍ في الأرض ولا في السماء ولآ أصغر من ذلك ولآ أكبر إلا في كتاب مُبين) [يونس: ٦١]، بل البشر وكل ما عندهم إنما هو رشحة من كماله وجماله تعالى، وإنما البحث هو الآتي: أن النبي (ص) وسائر البشر حين يدركون أن (النقيضين لا يجتمعان) فهذا الإدراك مطلق أو نسبي؟ هل إدراكنا للحقائق على غير ما هي عليه واقعاً (نسبي)، أو أننا ندرك الحقائق كما هي عليه (مطلق)؟

وفي هذا المجال توجد مقاربات مختلفة، فالمادية الديالكتيكية تتبنّى نظرية تتناسب وأصولها الفكرية، ولإيمانويل كنط مقاربة خاصة، وللمدرسة الواقعية العقلية توجّه في المعالجة، وكل هذه المواقف وغيرها تكون في مقابل ما ادعاه السفسطائيّون والمثاليّون واتجاهات الشك القديم والحديث. وتفصيل البحث في نظرية المعرفة.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=173132
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 09 / 27
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28