• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : عليٌّ.. والثِّقل الأكبر .
                          • الكاتب : شعيب العاملي .

عليٌّ.. والثِّقل الأكبر

 بسم الله الرحمن الرحيم
 
لقد نطَقَت آياتُ الكتاب العزيز بالتَّفَاضُل بين رُسُل الله تعالى، فقال عزَّ وجل: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجات‏﴾ (البقرة253).
 
ثمَّ فضَّلَ اللهُ تعالى بعضَ خلقه على بعضٍ وإن تفاوتت أنواعهم وأصنافهم، وأمر المفضولَ أن يسجُد للفاضل، وكان اختبار الملائكة وإبليس بالسجود لآدم، لثبوت أفضليَّته وأفضليَّة الأنوار التي أودعها الله تعالى فيه.
 
لكنَّ ابليس جَحَدَ ذلك، وزَعَمَ أنَّ الفضل له فقال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ (ص76).
فكانَ زعمه التفضيل على آدم عليه السلام سبباً لامتناعه من السجود وعصيان أمر الله.
 
وقد كرَّمَ الله تعالى بني آدم وفضَّلَهم على سائر المخلوقات: ﴿وَفَضَّلْناهُمْ عَلى‏ كَثيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضيلاً﴾ (الإسراء70).
قال السيد المرتضى: فلا ينكر أن يكون المراد منها: أنّا فضّلناهم على من خلقنا وهم كثير؛ ولم يرد التبعيض (أمالي المرتضى ج‏2 ص338).
 
إذا تبيَّنَ ذلك، عَرَفَ المؤمنُ أنَّ لتفضيل بعض الأنبياء على بعضٍ حكمةٌ، وأنَّ معرفة الفاضل يزيدُ مِن تعظيمه في النَّفس، ويكون أدعى لشدَّة الانقياد له، بل إنَّ في معرفة عظمته مَزيدُ قُربٍ من الله تعالى، حيث يُدني الله تعالى العبادَ منه بقَدر علومهم وأعمالهم، ومِن ذلك اعتقادهم بعظمة أصحاب الفضل عندَه.
 
وقد بحثَ العلماءُ مسألة التفاضُلَ بين الثَّقلين: القرآن الكريم، والعترة الطاهرة.
 
فقال قومٌ بتفضيل القرآن الكريم على النبيٍّ والعترة، أو على العترة فقط، لأنَّه الثِّقلُ الأكبر.
 
وقال آخرون بتفضيل النبيِّ صلى الله عليه وآله على القرآن لأنَّه أفضلُ الخلق على الإطلاق، وقد ثبت لعليٍّ والأئمة (ع) ما ثبت للنبي (ص) من الفضل.
 
وقال بالمساواة غيرُهم، وتَوَقَّفَ جماعةٌ في المسألة، وأنكر قومٌ الثَّمَرة من البحث..
 
فما الحقُّ في المسألة؟!
 
القول الأول: تفضيل النبي والعترة
 
وهو القولُ المنصور، والمؤيَّدُ بعشرات النصوص الدالَّة على تفضيل النبيِّ صلى الله عليه وآله وعترته الطاهرة على كلِّ مَن ومَا عداهم من خلق الله تعالى.
بل قَد يُدَّعى أنَّ هذا المعنى أجلُّ من أن يحتاجَ إلى دليل، وأنَّهُ ثابتٌ بالقطع واليقين.
 
ومِن النصوص في هذا المعنى ما روي عن النبي (ص) أنَّه قال:
مَا خَلَقَ الله خَلْقاً أَفْضَلَ مِنِّي، وَلَا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنِّي.. وَالفَضْلُ بَعْدِي لَكَ يَا عَلِيُّ، وَلِلْأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِكَ.. أَوَّلَ مَا خَلَقَ الله عَزَّ وَجَلَّ أَرْوَاحُنَا، فَأَنْطَقَهَا بِتَوْحِيدِهِ وَتَمْجِيدِهِ، ثُمَّ خَلَقَ المَلَائِكَةَ.. (عيون أخبار الرضا عليه السلام ج‏1 ص262).
ولا يُعتنى لما قيل من تخصيصه بالمكلَّفين، لعدم الداعي إلى التخصيص بعد عموم اللفظ.
 
ومثله قول الإمام الكاظم عليه السلام: مَا خَلَقَ الله خَلْقاً أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ (ص)، وَلَا خَلَقَ خَلْقاً بَعْدَ مُحَمَّدٍ أَفْضَلَ مِنْ عَلِيٍّ (ع) (الإختصاص ص18).
 
فإن قيل: غاية ما تثبته هذه النصوص عدم وجود مَن هو أفضلُ منهم، فَلِمَ لا يكون هناك مُساوٍ لهم؟
قلنا: لمّا كان النبيُّ صلى الله عليه وآله في مقام بيان الأفضل، لم يصح التمسك بوجود المساوي وعدم ذكره (ص) له.
 
ولو تنزَّلنا عن ذلك، فإنَّ هناك الكثير من النصوص الصريحة في أنَّه أفضل الخلق على الإطلاق، ومنها قوله (ص):
أَظْهَرَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى الإِسْلَامَ عَلَى يَدِي، وَأَنْزَلَ الفُرْقَانَ عَلَيَّ، وَفَتَحَ الكَعْبَةَ عَلَى يَدِي، وَفَضَّلَنِي عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ (الخصال ج‏2 ص413).
 
بل إنَّ القرآن الكريم قد دلَّ على تفضيله صلى الله عليه وآله على كلِّ الخَلق، حين قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ﴾ (البينة7).
 
والمُراد من (البَرِيَّةِ) (الخلق) (راجع لسان العرب ج14 ص71 ومجمع البحرين ج1 ص49، الصحاح ج6 ص2279).
فقوله تعالى ﴿خير البرية﴾ يعني (خير الخلق).
 
وفي الخبر الموثق عن رسول الله (ص) في خطبة شهر رمضان قال (ص) لأمير المؤمنين عليه السلام: أُقْسِمُ بِالَّذِي بَعَثَنِي بِالنُّبُوَّةِ، وَجَعَلَنِي خَيْرَ البَرِيَّةِ، إِنَّكَ لَحُجَّةُ الله عَلَى خَلْقِه‏ (أمالي الصدوق ص96).
 
وعن الإمام الحسن عليه السلام: أَنَا ابْنُ خَيْرِ خَلْقِ الله، أَنَا ابْنُ رَسُولِ الله (الأمالي للصدوق ص179).
 
وفي الخبر الموثق عن الرضا عليه السلام: وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ، وَخَيْرِ البَرِيَّةِ، وَعَلَى آلِهِ آلِ الرَّحْمَة (الكافي ج5 ص373).
 
ولقد كانت هذه صفته (ص) مُذ كان طِفلاً، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في نهجه الشريف: حَتَّى بَعَثَ الله مُحَمَّداً (ص) شَهِيداً وَبَشِيراً وَنَذِيراً، خَيْرَ الْبَرِيَّةِ طِفْلاً.. (الخطبة 105).
فدلّت هذه النصوص وغيرها من الأدلة القطعية على تفضيل النبي (ص) على كلِّ الخلائق.
 
ثم دلّت أدلةٌ أخرى على أن علياً نفس النبيِّ صلى الله عليه وآله، وأنَّ ما ثبت له (ص) قد ثبت لعليٍّ عليه السلام، كآية المباهلة وسواها، وصرَّحَت النصوصُ بأنّ تاليه (ص) في الفضل هو أمير المؤمنين عليه السلام، ومنها الخبر الصحيح عن أبي عبد الله (ع): وَأَصْبَحَ خَيْرُ البَرِيَّةِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ يُلْعَنُ عَلَى المَنَابِر (تفسير القمي ج2 ص134).
 
ومثله عن الإمام الباقر عليه السلام: فعلي والله خير البرية بعد رسول الله (تفسير فرات ص583).
وعن النبي (ص) في عليٍّ عليه السلام: خَيْرُ الخَلْقِ بَعْدِي وَسَيِّدُهُمْ أَخِي هَذَا، وَهُوَ إِمَامُ كُلِّ مُسْلِمٍ وَمَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ (كمال الدين ج‏1 ص259)، ثمَّ قال أميرُ المؤمنين عليه السلام مثله في الحسن عليه السلام.
 
وتضمنت نصوص أخرى قولهم عليهم السلام: آلُ مُحَمَّدٍ خَيْرُ البَرِيَّةِ (الكافي ج6 ص224).
 
ووردت في آحاد الأئمة بعض النصوص كذلك، منها ما روي من كلام الإمام الباقر بحق الإمام الصادق عليهما السلام: هَذَا خَيْرُ البَرِيَّة (الكافي ج1 ص306 و307)، ومن الإمام الصادق بحقِّ الإمام الكاظم عليهما السلام: وَهُوَ خَيْرُ مَنْ بَرَأَ الله فِي خَلْقِهِ (الكافي ج1 ص385).
 
وفي الحديث عن الصادق عليه السلام أنَّه جرى لأمير المؤمنين: مِنَ الفَضَائِلِ مَا جَرَى لِرَسُولِ الله (ص)، وَلِرَسُولِهِ الفَضْلُ عَلَى جَمِيعِ مَا خَلَقَ الله.. وَكَذَلِكَ جَرَى حُكْمُ الأَئِمَّةِ (ع) بَعْدَهُ وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ (إرشاد القلوب ج2 ص256).
 
ولقد كان هذا المعنى معلوماً عند الأنبياء من لدن آدم عليه السلام، حينما اجتمع أولاده واختلفوا في خير خلق الله، فقال بعضهم أنَّ آدم خيرهم، وقال بعضهم أنَّهم الملائكة المقربون أو حملة العرش.. ولما سألوا أباهم آدم عليه السلام قال لهم: وَقَفْتُ بَيْنَ يَدَيِ الله جَلَّ جَلَالُهُ، فَنَظَرْتُ إِلَى سَطْرٍ عَلَى وَجْهِ العَرْشِ مَكْتُوبٍ: بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مُحَمَّدٌ وَآلُ مُحَمَّدٍ خَيْرُ مَنْ بَرَأَ الله (قصص الأنبياء ص53).
 
وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام:
إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ الأَرْوَاحَ قَبْلَ الأَجْسَادِ بِالفَيْ عَامٍ فَجَعَلَ أَعْلَاهَا وَأَشْرَفَهَا أَرْوَاحَ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالحَسَنِ وَالحُسَيْنِ وَالأَئِمَّةِ بَعْدَهُمْ (ع)، فَعَرَضَهَا عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ، فَغَشِيَهَا نُورُهُمْ، فَقَالَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ:
هَؤُلَاءِ أَحِبَّائِي وَأَوْلِيَائِي وَحُجَجِي عَلَى خَلْقِي، وَأَئِمَّةُ بَرِيَّتِي، مَا خَلَقْتُ خَلْقاً هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُمْ (معاني الأخبار ص108).
 
والروايات في هذا المعنى كثيرةٌ جداً، وهي تُثبت أفضليَّتَهم على كلِّ شيء، حتى القرآن الكريم.
بل قد ثبت في النصوص أنَّ الله تعالى خلق العرش الملائكة والسماوات والأرض والجنة من أنوارهم، لأفضليَّتهم على كل شيء، فكيف لا يكونوا أفضل من اللوح المحفوظ والكتاب المسطور والصحف المنزلة والوحي والكتاب؟
 
القرآن محدَثٌ
 
فإن قيل: وهل القرآنُ مخلوقٌ كي يكونوا أفضل منه؟!
 
قلنا: إنَّ القرآن الكريم هو كلامُ الله تعالى، الذي أوحاه إلى حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله، وأنزله في ليلة القدر، وجُمِعَ بين الدَّفتين.
 
وتارةً يُراد من القرآن ما يكون مكتوباً، وأخرى ما يكون مقروءاً ومسموعاً، وثالثةً يرادُ منه الكلام المُدَوَّن في اللوح المحفوظ، ويكون ما بين الدفّتين حاكياً عنه كما قد يشير إليه قوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظ﴾ (البروج21-22).
 
وما نبحثُ عنه هنا هو مختلفُ هذه المعاني، فإنَّه صلى الله عليه وآله أفضل منها بأجمعها، وإن كان حديثُ الثَّقلين ناظراً إلى القرآن الذي بين الدَّفتين، أو القرآن الذي في الصدور، بقرينة تركه للمسلمين بعده (ص)، ولا يشمل حديث الثَّقلين ما في اللوح المحفوظ، إلا أن تفضيل النبي (ص) ثابتٌ على كل مخلوقٍ من ألواحٍ ونقوش وغيرها.
 
ولكن المشكلة نشأت مما ذهب إليه بعضُ فِرَق المسلمين، حيث زعموا أنَّ القرآن أزليٌّ قديم، وأسموه (كلاماً نفسياً) لله تعالى، حتى أوقعوا الأمَّةُ قديماً في شبهةِ خَلق القرآن وعدم خلقه.
 
والحقُّ هو ما ذهبَ إليه آلُ محمدٍ عليهم السلام من عدم كون القرآن أزلياً، وإلا لزم كونه إلهاً مع الله تعالى، بل هو حادثٌ، لم يكن فكان.
 
قال أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة:
وَإِنَّمَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ، أَنْشَأَهُ وَمَثَّلَهُ، لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَائِناً، وَلَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلَهاً ثَانِياً (الخطبة186).
سواءٌ كان الإنشاء والتمثيل والإحداث في لوحٍ من الألواح أو في شجرةٍ أو غير ذلك.
 
وعن الإمام الرضا عليه السلام: وَلَيْسَ الخَالِقُ إِلَّا الله عَزَّ وَجَلَّ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ (التوحيد للصدوق ص224).
 
نعم عندما يُطلَق لفظ (المخلوق) على (الكلام) قد يراد منه أحد معنيين:
 
أوَّلهما: الحادثُ، أي الذي لم يكن فكان.
 
وثانيهما: المكذوب، أي المُختَلَق.
 
ولأنَّ القرآن (كلامُ الله)، لَم يصح إطلاق لفظ (المخلوق) عليه لاحتمال أن يُقصد منه (المكذوب) أو المُختَلَق، ودفعاً لشبهة استعمال لفظ المخلوق بمعنى المكذوب فيه، نهى الأئمة عليهم السلام عن إطلاق لفظ (المخلوق) على القرآن، وإن ثبت بالمعنى الأول وهو (الحادث)، فالقرآن ليس أزلياً، بل هو حادثٌ، حاله حال سائر مخلوقات الله تعالى.
 
لذا قال الإمام الصادق عليه السلام: إِنَّ القُرْآنَ كَلَامُ الله مُحْدَثٌ، غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَغَيْرُ أَزَلِيٍّ مَعَ الله تَعَالَى ذِكْرُهُ (التوحيد للصدوق ص227).
فمعنى (غير مخلوق) هنا (غير مُختَلَق)، ومعنى (مُحْدَثٌ.. وغيرُ أزليٍّ) أنه كسائر مخلوقات الله تعالى، أما مَن ذهبَ إلى أنَّه ليس بخالقٍ ولا مخلوقٍ وجَمَعَ بين المتناقضين فَقَد أحال، وذَهَبَ إلى مُنكَرٍ من القول، يردُّه العقلُ والنَّقل.
 
ولقد نطقت آيات الكتاب الكريم بحدوثه، فقال تعالى: ﴿وَما يَأْتيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضينَ﴾ (الشعراء5).
وقد استدلَّ الإمام عليه السلام بهذه الآية وقال: التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالفُرْقَانُ وَكُلُّ كِتَابٍ أُنْزِلَ كَانَ كَلَامَ الله، أَنْزَلَهُ لِلْعَالَمِينَ نُوراً وَهُدًى، وَهِيَ كُلُّهَا مُحْدَثَةٌ، وَهِيَ غَيْرُ الله (الإحتجاج ج‏2 ص405).
 
وكما أنَّ القرآن كلامُ الله تعالى، فإنَّ مِن كلامه تعالى ما كلَّم به أنبياءه أيضاً: ﴿وَكَلَّمَ الله مُوسى‏ تَكْلِيماً﴾ بأن أوجدَ تعالى كلاماً يسمعه موسى عليه السلام، سواءٌ أوجدَه في الشجرة أو في الهواء أو غير ذلك.
 
بل وصف الله تعالى عيسى عليه السلام بأنه (كلمة الله): ﴿إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ القَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ (النساء171).
وقال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ المَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ (آل عمران45).
 
وسواءٌ وُصِفَ عيسى عليه السلام بأنه كلمة الله لأنه (حصل بكلمةٍ من الله من غير والد، وهو قوله ﴿كُنْ﴾) أو (أنه يهتدي به الخلق كما اهتدوا بكلام الله ووحيه) أو غيرها من الوجوه التي أشرنا إليها في كتاب (الثالوث والكتب السماوية)، فلا ريب في أنَّ كلام الله كله حادثٌ، سواءٌ أريد منه عيسى عليه السلام، أو أريد منه القرآن المسموع والمكتوب، أو غير ذلك من صُوَرِه أو مراتبه، فهو حادثٌ لم يكن ثم كان، فيكون قريناً لسائر المخلوقات في ذلك. ويثبت تفضيل النبي (ص) والعترة الطاهرة عليه.
 
القول الثاني: تفضيل القرآن على النبي والعترة
 
وقد يُستدلُّ لهذا القول بجملةٍ من الروايات منها:
 
ما روي مُرسلاً عنه (ص): القُرْآنُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ دُونَ الله عَزَّ وَجَلَّ (جامع الأخبار ص40).
 
والجواب عليه:
 
أوَّلاً: أنَّ هذه الرواية معارِضَةٌ بظهورها البدويّ لما تقدَّم من أدلةٍ قطعية ثبت بها تفضيل النبي (ص) والأئمة عليهم السلام على القرآن الكريم، فلا بُدَّ إما من الجمع بين هذه الرواية وبين تلك الراويات، أو الإعراض عنها وعدم العمل بها.
 
ثانياً: إنَّ من الوجوه المحتملة للجمع بينها وبين تلك الروايات هو أن يُراد بالقرآن (كلا مصداقيه) أي (القرآن الصامت والقرآن الناطق)، فيكون معناها أنَّ القرآن (الصامت والناطق) أفضل من كلِّ شيء، دون أن تدلَّ على تفضيل أحدهما على الآخر، وحينها لا تكون معارضةً لتلك الروايات، ويثبت المطلوب وهو تفضيل النبي (ص) وآله على القرآن الكريم بما تقدَّم من نصوص. وهو وجهٌ وجيه.
 
وقد يستدل لهذا الوجه بالنصوص الشريفة التي فسَّرَت القرآن بعليٍّ عليه السلام، ومنها ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ﴿ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ‏﴾ فقال عليه السلام:
يَعْنِي أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (ع) ﴿قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى‏ إِلَيَّ﴾ يَعْنِي فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (ع)‏ (تفسير القمي ج‏1 ص310).
 
ثالثاً: إن من الوجوه أيضاً أن يراد منها (دَوَّنَ الله) أي (كَتَبَ الله) وليس (دُونَ الله)، فتدلُّ على أنَّ القرآن الكريم أفضلُ من الكتب الأخرى التي كتبها الله تعالى وأنزلها على رسله، نظير ما يروى عن النبي (ص) من قوله: فَضْلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ الله عَلَى خَلْقِه‏ (جامع الأخبار ص40).
 
وليس هناك ما يمنع من مثل هذا الاستعمال إن ورد في روايةٍ، فإنَّ التدوين هو الكتابة، وقد قال تعالى: ﴿وَابْتَغُوا ما كَتَبَ الله لَكُم‏﴾، وقال عزَّ وجل: ﴿كَتَبَ الله لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلي‏ إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزيزٌ﴾ (المجادلة21)، وإن فسِّرَت بالكتابة في اللوح المحفوظ.
وبهذا يتَّضح أن هذه الرواية لا تصلح لمعارضة ما تقدَّم من تفضيل النبي (ص) وآله الأطهار على القرآن الكريم.
 
ومثلها ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: أَ وَلَيْسَ كِتَابُ رَبِّي أَفْضَلَ الأَشْيَاءِ بَعْدَ الله عَزَّ وَجَلَّ؟ (الخصال ج‏2 ص579).
بتقريب أنَّ الكتاب كما يطلق على القرآن الكريم فإنَّهُ يُطلق على الإنسان، ومِن ذلك ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ﴿الم * ذلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِين‏﴾، قال عليه السلام: الكِتابُ عَلِيٌّ (ع) لَا شَكَّ فِيهِ (تفسير القمي ج‏1 ص30).
 
وعن الإمام عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ﴾، قال عليه السلام: في إمام مبين (تفسير العياشي ج‏1 ص361).
 
فمعَ شمول الكتاب لأمير المؤمنين عليه السلام تكون كالرواية السابقة في الدلالة، بحيث يثبت بها أنَّ الكتاب أفضل من كلِّ شيء آخر، والكتاب يكون شاملاً للقرآن الكريم وللنبي (ص) والعترة الطاهرة، وتكون ساكتةً عن تفضيل أحدهما عن الآخر، وتفضيلهم (ع) على الكتاب يستفاد من الأدلة التي تقدَّمَ بيانُها.
 
فإن لَم يُقبل ذلك، كانت الأدلة الصريحة بتفضيلهم على القرآن الكريم شاهداً لخروجِهم عن هذه الرواية تَخَصُّصاً أو تخصيصاً.
وكان مفاد الحديث نظير ما ورد عن الإمام الجواد عليه السلام: إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَفَرِّداً بِوَحْدَانِيَّتِهِ، ثُمَّ خَلَقَ مُحَمَّداً وَعَلِيّاً وَفَاطِمَةَ، فَمَكَثُوا أَلْفَ دَهْرٍ، ثُمَّ خَلَقَ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ فَأَشْهَدَهُمْ، خَلْقَهَا وَأَجْرَى طَاعَتَهُمْ عَلَيْهَا (الكافي ج1 ص441).
 
فإنَّ (جميع الأشياء) هنا لا تشمُلُهم عليهم السلام، لتَقَدُّم خلقهم على كلِّ شيء، ويكون قوله عليه السلام (كِتَابُ رَبِّي أَفْضَلَ الأَشْيَاءِ) نظيرُ ما ورد في هذا الحديث، فلا يدلُّ على تفضيل القرآن الكريم عليهم.
 
وقد يُستدلُّ بتفضيل القرآن أيضاً بأنَّه حجَّة الله على جميع الخلق، فإنَّ النبي (ص) يقول يوم القيامة عن القرآن: هَذَا حُجَّةُ الله عَلَى خَلْقِهِ..
ثمَّ يخاطبُ القرآنُ ربَّه عزَّ وجل فيقول: وَأَنَا حُجَّتُكَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِكَ (الكافي ج2 ص596).
 
وهذا يعني أنَّ النبي (ص) والعترة الطاهرة (ع) محجوجون بالقرآن الكريم، فيلزم كونه أفضل منهم.
 
والجواب عليه أنّه لا بدَّ من خروج النبي (ص) وعترته الطاهرة من عموم الحجيَّة هنا لأمور منها:
 
أوَّلاً: ما تقدّم من أفضليتهم على القرآن الكريم مطلقاً.
 
ثانياً: ما ثبت من أنهم الحجة العظمى، فيكون القرآن حجَّةً على مَن عداهم، وقد ثبت هذا المعنى في روايات كثيرة منها قولهم عليهم السلام: فَنَحْنُ كَلِمَةُ التَّقْوَى، وَسَبِيلُ الْهُدَى، وَالمَثَلُ الْأَعْلَى، وَالحُجَّةُ الْعُظْمَى‏ (تفسير فرات ص179).
وقول أمير المؤمنين عليه السلام: أَنَا الْحُجَّةُ الْعُظْمَى، وَالْآيَةُ الْكُبْرَى‏ (الأمالي للصدوق ص39).
 
ثالثاً: ما تضمنَّته هذه الرواية بنفسها من كون سيِّدِ يوم القيامة هو النبي (ص)، وهو الذي يأتيه الأنبياء فيسألونه عن القرآن الذي يرونه بصورة حَسَنَة ولا يعرفونه، فيكون النبي (ص) هو المعرف عن القرآن الكريم، والروايات في تَقَدُّم النبيِّ صلى الله عليه وآله وعترته عليهم السلام على كل الخلائق منذ بدء الخليقة وحتى يوم المحشر ثم القيامة أكثر من أن تحصى.
 
وقد يُستدلُّ أيضاً بتفضيل القرآن عليهم بأنَّ النبي (ص) والأئمة عليهم السلام يتَّبعون القرآن، ويهتدون به، ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى‏ إِلَي‏﴾، وقوله تعالى: ﴿اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك‏﴾، وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى‏ إِلَيَّ مِنْ رَبِّي‏﴾.
 
وقد ورد هذا المعنى في الصحيفة السجادية: وَجَعَلْتَهُ نُوراً نَهْتَدِي مِنْ ظُلَمِ الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ بِاتِّبَاعِه‏.
يضاف إلى ذلك أنَّهم محتاجون للقرآن لاستفادة العلوم منه.
فيكون المُتَّبَعُ والمُقتدى به أفضلَ من المتَّبِعِ والمُقتدي بلا رَيب، ويثبت أنَّ القرآن أفضل منهم لذلك.
 
والجواب عليه:
 
أنَّه قد ثبت في محلِّه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله يعلمُ الوحيَ قبلَ نزوله، وأنَّ في إنزال الوحي عليه إمضاءٌ لما يعلمه، لا حدوثُ علمٍ جديد، وأنَّ العلومَ كلَّها موجودةٌ عندهم عليهم السلام منذ خلقَهم الله أنواراً، وأنَّ الله تعالى أحصى العلوم كلَّها فيهم كما في القرآن الكريم، فهم وإن كانوا قادرين على استخراج العلوم من القرآن الكريم، وهم وحدهم الذين يعرفون بواطنه وظواهره، إلا أنَّهم يعلمون تلك العلوم دون القرآن أيضاً، وقد قال تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِين‏﴾.
 
وفي الحديث أنَّه لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله:
قَامَ رَجُلَانِ مِنْ مَجْلِسِهِمَا فَقَالا: يَا رَسُولَ الله، هُوَ التَّوْرَاةُ؟ قَالَ: لَا.
قَالا: فَهُوَ الْإِنْجِيلُ؟ قَالَ: لَا.
قَالا: فَهُوَ الْقُرْآنُ؟ قَالَ: لَا.
قَالَ: فَأَقْبَلَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (ع)، فَقَالَ رَسُولُ الله (ص): هُوَ هَذَا، إِنَّهُ الْإِمَامُ الَّذِي أَحْصَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِ عِلْمَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ (الأمالي للصدوق ص170).
 
فإن قيل: كيف يضحي النبي (ص) والإمام (ع) في سبيل بقاء القرآن لو لم يكن أفضل منهم؟
 
قلنا: لم يثبت تضحيتهم عليهم السلام بأنفسهم لحفظ القرآن، ودونك رفع الرِّماح على المصاحف في صفين، وموقف أمير المؤمنين عليه السلام حينها، فإنَّه القائل لما قابلوه بمئات المصاحف مرفوعةً على الرِّماح:
 
إِنَّهَا كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِل‏.. أَعِيرُونِي سَوَاعِدَكُمْ وَجَمَاجِمَكُمْ سَاعَةٍ وَاحِدَةً، فَقَدْ بَلَغَ الْحَقُّ مَقْطَعَهُ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَقْطَعَ دَابِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا (وقعة صفين ص489).
 
وهو القائل لهم: هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرُهُ إِيمَانٌ وَبَاطِنُهُ عُدْوَانٌ، وَأَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَآخِرُهُ نَدَامَةٌ، فَأَقِيمُوا عَلَى شَأْنِكُمْ، وَالْزَمُوا طَرِيقَتَكُمْ، وَعَضُّوا عَلَى الْجِهَادِ بَنَوَاجِذِكُمْ، وَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَى نَاعِقٍ نَعَق‏.. وَإِنَّ الْكِتَابَ لَمَعِي مَا فَارَقْتُهُ مُذْ صَحِبْتُه‏ (نهج البلاغة الخطبة122).
 
فإنَّ ما ثبت هو أنَّهم عليهم السلام امتثلوا أمر الله تعالى فكانت شهادتهم في سبيله عزَّ وجل، أي أنَّ الدافع فيها هو امتثال أمره تعالى، ولأنَّه تعالى أراد أن تجري الأمور بأسبابها، وما أرادوا إلا ما أراد الله، فاستشهدوا وقُهِروا وظُلِمُوا، ولو أنَّهم دعوا الله تعالى أن يرفع عنهم كلَّ بلاءٍ لرفعه.. وهل يُتصوَّرُ سبيلٌ لله تعالى أعظمَ منهم وهم السبيل الأقوم، وباب الله تعالى.
 
بهذا يتبيَّن أن القول الثاني غير تام، ولا ينهض لمعارضة ما دلَّ على تفضيل النبي (ص) والعترة الطاهرة على القرآن الكريم.
 
القول الثالث: تفضيل القرآن على العترة فقط
 
وقد يستدلُّ لهذا القول بحديث الثقلين، حيث وُصِفَ القرآن في بعضها بأنَّه الثّقل الأكبر، ومن ذلك قوله (ص) عن الثقلين: فَأَمَّا الأَكْبَرُ فَكِتَابُ رَبِّي، وَأَمَّا الأَصْغَرُ فَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي (تفسير العياشي ج‏1 ص5).
 
وورد هذا الوصف عن لسان النبي (ص) أيضاً في تفسير القمي وبصائر الدرجات والخصال وغيرها.
وقد ورد هذا المعنى عنهم عليهم السلام أيضاً، ففي الحديث: يَا كُمَيْلُ نَحْنُ الثَّقَلُ الأَصْغَرُ وَالقُرْآنُ الثَّقَلُ الأَكْبَر (بشارة المصطفى2: 29).
 
وقد أنكر قومٌ صحة وصف الكتاب بـ (الأكبر) والعترة بـ (الأصغر)، لخلوِّ أكثر الروايات لها، وورودها في آحاد الروايات، ولأنَّ جملةً من الروايات ذكرت الأكبر والأصغر دون تحديد الأكبر بالقرآن والأصغر بالعترة.
 
لكنَّ الحقَّ أنَّ ثبوت هذا الوصف للقرآن الكريم ليس بعيداً، وليس هناكِ ما يدعو للتشكيك بصدوره من النبيِّ صلى الله عليه وآله.
ووجه الاستدلال بروايات الثقلين هو أنَّه بعد ثبوت كون القرآن هو (الثِّقل الأكبر)، نُفَسِّرُ الأكبر بمعنى الأعظم والأفضل، فيثبت تفضيله على العترة الطاهرة.
 
والجواب عليه:
 
أنَّ أحد المعاني المحتملة، والأقوال المعتمدة في وجه إطلاق لفظ (الثَّقَلَين) أو (الثِّقْلَين) على القرآن والعترة ما ورد في مجمع البحرين وغيره: قيل: سُمِّيَا بذلك لأن العمل بهما ثَقِيلٌ (ج5 ص330).
أي أنَّهما سُميا بالثقلين من جهة ثقل العمل بهما.
 
ولقد كان العملُ بالقرآن الكريم منذ اليوم الأول ثقيلاً على الناس، وسيأتي يومٌ يصير استماعه أيضاً ثقيلاً عليهم: وَرَأَيْتَ القُرْآنَ قَدْ ثَقُلَ عَلَى النَّاسِ اسْتِمَاعُهُ!
 
ولقد خاطب الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وآله قائلاً: ﴿إِنَّا سَنُلْقي‏ عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقيلاً﴾ (المزمل5).
ودعا المؤمن ربه قائلاً: اللهمَّ احْمِلْ عَنَّا ثِقْلَهُ وَأَوْجِبْ لَنَا أَجْرَه‏ (الكافي ج‏2 ص574).
 
فهنا وجهان:
 
الوجه الأوَّل: أنّ اللفظ هو (الثِّقْلَين) وهو جمعُ: (الثِّقْل) أو (الثِّقَلُ) (بكسر الثاء) أي الشيء الثقيل، فيكون الحديث: (تارك فيكم الثِّقْلَين).
 
الوجه الثاني: أنّ اللفظ هو (الثَّقَلَين) وهو جمع: (الثَّقَل) (بفتح الثاء والقاف) بمعنى المتاع والشيء النفيس، ويكون الحديث: (تارك فيكم الثَّقَلَين).
 
وقد يقال برجوع القولين واللفظين إلى معنى واحد يضادُّ (الخفَّة)، بحيث يرجع الوجه الثاني أيضاً إلى معنى الشيء الثقيل، كما أشار اليه ابن فارس بقوله: اللام أصلٌ واحدٌ يتفرّع منه كلماتٌ متقاربة، وهو ضِدّ الخِفّة (معجم مقاييس اللغة ج1 ص382).
 
فإذا كان الأمرُ كذلك، لم يكُن لفظ الأكبر صريحاً في كون القرآن أفضل من العترة كي يتمَّ الإستدلال به.
بل قَد يُراد من الأكبر: الأثقل، فالعمل بالثقلين ثقيلٌ، لكنَّ العمل بالقرآن أثقل.
 
ولعلَّ السرَّ في ذلك هو صعوبةُ العملِ بالقرآن وحدَه، واستكشاف بواطنه، فهو كتابٌ صامتٌ لا ينطق.
فمَن أراد أن يأخذ عن القرآن وَجَد الأخذ منه أثقلَ من الأخذ عن العترة، أي أصعب وأشدّ، من حيثُ الفهم والوصول إلى مقاصده، فإنهم يوضِحون الصَّعب فيه ويكشفون غوامضه ويُظهرون بواطنه.. ويَرَدُّون متشابهاته إلى محكماته. فيكون الأخذُ منهم بهذا المعنى أسهل.
 
ورغم أنَّ في كلماتهم متشابهاً كمتشابه القرآن، إلا أنَّ فهم كلماتهم والوصول إلى مرادهم أيسر وأسهلُ من فهم الكتاب العزيز..
 
وبعبارة أخرى:
لا مُلازمة بين (الأكبر) و(الأفضل)، فلا يعني كون القرآن (الثقل الأكبر) تفضيله على آل محمد عليهم السلام.
 
فإن للفظ (الأكبر) معانٍ:
 
منها الأشدّ، قال تعالى: ﴿وَالفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ﴾، فهي دالة على أشدّية معصيةٍ على أخرى، لا على أفضليتها.
قال الراغب: وتستعمل الكبيرة فيما يشقّ ويصعب نحو: ﴿وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِين﴾، وقال: ﴿كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْه‏‏﴾، وقال: ﴿وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُم‏﴾ (مفردات ألفاظ القرآن ص696).
 
وهو واضحٌ في أنَّ الأكبر لا يُراد منه في هذه الآيات الأفضل، بل يُرادُ منه ما هو أصعب وأشدّ وأشقّ وأثقل.
 
ومنها الأعجب، قال تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾، وفسرت بأنها (أعجب) (كما في لسان العرب ج‌5 ص130‌).
 
وعلى الوجه الأول أي كونها الثِّقْل هو الشيء الثَّقيل، يكون القرآن هو الثِّقْل الأكبر لوجوهٍ محتملة منها:
 
1. كون الأخذ عن الكتاب الصامت أصعب وأشدّ من الأخذ عن الكتاب الناطق، واستخراج المعاني منه أشقُّ وأبعد عن عقول الناس، بخلاف الكتاب الناطق الذي يحدد لكل إنسان تكليفه بلسانه، ويضعه أمامه واضحاً جلياً، ويخاطب الناس على قدر عقولهم.
فكان القرآن أكبر من حيث صعوبة الأخذ عنه وشدتها. ويشهد لذلك نفس التعبير ب(الثقلين). وإن كان الالتزام بتعاليم العترة الطاهرة وكونهم ناطقين قد يكون أشدَّ من جهةٍ أخرى.
 
2. أن حكم إنكار المصحف أشد وأصعب وأثقل من حكم إنكار العترة، فمع إنكاره الكفر، ومع إنكارالعترة نفي الإيمان فقط مع الحفاظ على عنوان الإسلام.
 
3. أن العمل به واتباعه لازم في الشريعة قبل لزوم اتباع العترة لأنَّ النبيّ (ص) جاء به في بدء الدَّعوة، وان لم يفترقا، فيكون أشد وأكبر من هذه الجهة.
 
4. أن حكمهم (عليهم السلام) تابع لحكم القرآن ظاهراً وان لم يفترقا، فكلامهم يرد إلى القرآن الكريم تشريعاً وإن كانوا أفضل منه، فيكون أكبر بهذا اللحاظ. وهذا ينسجم أيضاً مع كون الثَّقَلَين جمع (الثَّقَل) بالفتح.
 
ولعلَّ أول الوجوه أقرَبُها للعبارة.. بحيث يكون القرآن الكريم أكبر بمعنى أنَّ الأخذ منه أثقل وأصعب لعدم كونه ناطقاً، بل يحتاجُ إلى من يستنطقه وهم العترة الطاهرة عليهم السلام.
 
ويشهد له ما في الدعاء: اللهمَّ احْمِلْ عَنَّا ثِقْلَهُ وَأَوْجِبْ لَنَا أَجْرَه‏ (الكافي ج‏2 ص574).
 
على أنَّ في روايات الثقلين ما صرَّح بأفضلية أمير المؤمنين عليه السلام على القرآن الكريم للناس بشكلٍ جليّ، فعنه (ص): إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ الله وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ هُوَ أَفْضَلُ لَكُمْ مِنْ كِتَابِ الله، لِأَنَّهُ يُتَرْجِمُ لَكُمْ كِتَابَ الله (إرشاد القلوب ج2 ص378).
 
وقد كان هذا المعنى واضحاً عند كبار الصحابة، حى قال ابن عباس لما سئل عن أمير المؤمنين عليه السلام: ذكرت - والله - أجل الثقلين، سبق بالشهادتين، وصلى القبلتين (البرهان ج1 ص124).
 
وقد يصحُّ القولُ بأنَّ ما تقدَّمَ مِن تفضيلهم عليهم السلام، بضميمة ما دلَّ على أنَّ علياً عليه السلام أكبرُ آيةٍ لله، يؤكدُ أن المراد من أكبرية القرآن لا يعني الأفضلية، فإنَّ كلامهم عليهم السلام لا يُعارضُ بعضه بعضاً.
 
وقد وردت نصوصٌ كثيرة تضمَّنت قولَ أمير المؤمنين عليه السلام:
 
وَالله، مَا لله آيَةٌ أَكْبَرُ مِنِّي ‏(تفسير القمي ج‏2 ص132)
مَا لله نَبَأٌ أَعْظَمُ مِنِّي، وَمَا لله آيَةٌ أَكْبَرُ مِنِّي‏ ‏(تفسير القمي ج‏2 ص402).
ونظائرها في بصائر الدرجات والكافي وأمالي الصدوق وغيرها.
 
وعن الصادق عليه السلام: فَأَيُّ آيَةٍ أَكْبَرُ مِنَّا؟! (كامل الزيارات ص329).
 
فتكون الأكبريَّةُ هنا ظاهرةً في أفضليَّتهم، ومؤيَّدَةً بما تقدَّم، وتكون أكبريَّة القرآن بمعنى صعوبة الأخذ منه لكونه صامتاً.
وبهذا يثبت أنَّ هذا القول مما لا يمكن المصير إليه.
 
القول الرابع: أنَّهما عِدلان لا يفضل أحدهما على الآخر
 
وقد بانَ بطلانه بما تقدَّم من أدلة تفضيلهم عليهم السلام على القرآن.
 
وأما وجوب التمسك بهما كالاصبعين المتساويين فهو لا يعني مساواتهما في الفضيلة، بل من جهة التساوي في لزوم الإتِّباع لعصمتهما عن الخطأ.
تماماً كوجوب طاعة الأنبياء طاعةً مطلقة كالاصابع المتساوية، مع ثبوت التفاضل بينهم.
أو من جهة ورودهما على الحوض يوم القيامة معاً.
 
القول الخامس: أن المقارنة لا تصح
 
لاختلاف حقيقتهما، فضلاً عن لزوم أن نسكت عما سكت عنه الأئمة عليهم السلام.
 
والجواب عليه:
 
أن تفضيلهم على كل ما عداهم قد ثبت بالأدلة المتقدمة، وأنَّه ليس هناك ما يمنع من المقارنة، بل رويت المقارنة والتفضيل في الروايات بشكل صريح، كما في إحدى روايات الثقلين حيث صرَّح النبي (ص) بتفضيل أحدهما على الآخر: وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَفْضَلُ مِنَ الآخَرِ، كِتَابَ الله وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي (كمال الدين ج‏1ص236).
 
فإن قيل: إنَّ تفضيل أحدهما قد يلزم منه عدم الحاجة للآخر، او الانتقاص من مقامه ومكانته.
 
قلنا: لا وجه لذلك، فكون الصلاة مثلاً أفضل من الصوم لا يعني انتفاء الحاجة للصوم، وهكذا في كل المسائل الحقَّة التي يحتاجُ إليها الإنسان، حيث لا يعني تفضيلُ أحدها انتفاء الحاجة لسواه، أو الانتقاص منه.
وبهذا يتبين أنَّ هذا الوجه أيضاً مما لا دليل عليه.
 
صفوة القول
 
نخلص بعد هذا البحث إلى أنَّ القول الأول بتفضيلهم عليهم السلام يستندُ على أدلَّةٍ متينة، لا مُعارض لها، وأنَّ سائر الأقوال شديدة الضعف، وغيرها مما لم نتعرض له أضعف منها، كالقول أنَّ حقيقتهم عين حقيقة القرآن، فإنَّه مما لا دليل عليه، أو غير ذلك من الأقوال.
 
وقد ثبت أنَّ الله تعالى فضَّلَ النبي (ص) والعترة الطاهرة (ع) على كلِّ شيء، فلا شيء يدانيهم، بل روي عنهم عليهم السلام: بنا أكرم اللّه من أكرم من جميع خلقه‏ (حلية الأبرار ج1 ص16).
 
فبهم تشرَّفَ القرآن وأُكرِم، وبهم ترقّى الأنبياء في مدارج الكمال.
 
وسيكون لرسول الله (ص) موقفٌ مع هذه الأمة يوم القيامة، حيث يسألهم عما فعلوه بالثقلين، فيكون جوابُ أكثرهم ذلك اليوم:
 
أما عن الثقل الأول، القرآن: فَحَرَّفْنَاهُ وَنَبَذْنَاهُ وَرَاءَ ظُهُورِنَا.. وَمَزَّقْنَاهُ وَخَالَفْنَاهُ.. فَعَصَيْنَاهُ وَتَرَكْنَاهُ.. وَبَرِئْنَا مِنْهُ!
 
وأما عن الثقل الثاني، العترة: فَعَادَيْنَاهُ وَأَبْغَضْنَاهُ وَظَلَمْنَاهُ.. وَقَاتَلْنَاهُ.. فَخَذَلْنَاهُ وَضَيَّعْنَاهُ، وَصَنَعْنَا بِهِ كُلَّ قَبِيحٍ.. وَقَتَلْنَاهُ! (تفسير القمي ج‏1 ص109).
 
فتَسودُّ وجوه هؤلاء، وتبيَضُّ وجوه الذين اتبعوا القرآن أطاعوه، وأحبوا آل محمدٍ ووالوهم ووازروهم ونصروهم.
 
جعلنا الله منهم، وأعاذنا من شرور أعدائهم.
 
والحمد لله رب العالمين
 
السبت 19 شوال 1443 هـ الموافق 21 – 5 – 2022 م




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=168847
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 05 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29