• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : أدب الفتوى .
                    • الموضوع : الرُّؤْيَا التي صَدَّقْتَ إلى روحِ الشهيدِ السعيد (منقذ عبد الجواد محمد ال شلال الجبوري) .
                          • الكاتب : حيدر عاشور .

الرُّؤْيَا التي صَدَّقْتَ إلى روحِ الشهيدِ السعيد (منقذ عبد الجواد محمد ال شلال الجبوري)

تملّكهُ الخوفُ من تلك الرؤيا التي قلبتْ موازينَ حياتِه، رغم إصرارِه على تحقيقِ ذاته، ولعلّه كانَ يشعرُ بأنَّ إثباتَه لذاتِه ضرورةٌ مُلِحةٌ، وقد تكونُ الإرادةُ الإلهيةُ هي من تختارُ له الطريقَ، أو ربما المدينة التي نشأَ فيها والتي تميّزت بطابعٍ فطري مُحاطةٍ بالتُقى والسلام، ممّا جعلَ أهلَها أُناسًا صالحين يتميّزون بالتقوى وخشيةِ الله (تعالى)؛ فأحلامُهم بسيطةٌ وتمسُّكُهم بالعقيدةِ والمذهبِ كتمسُّكِهم بالأرضِ كوطنٍ، ومصدرٍ للعيشِ الكريم.
كانَ كُلُّ حلمِ (منقذ) أنْ يحصلَ على وظيفةٍ بسيطةٍ بدائرةِ صحةِ مدينةِ بابل، ليكونَ عنوانًا إنسانيًا لمدينةِ القاسم (قضاء الهاشمية)، ومُكمِّلًا لتلك الأرواحِ الفقيرةِ النقيّةِ التي تُجاهِدُ بكُلِّ طاقاتِها الذاتيةِ أنْ تكونَ هي الأجملَ والأنقى من بينِ مدنِ العراق، لا سيما إنَّ عنوانها يدلُّ على سموِ شرفِها وهي تضمُّ جدثَ (الإمامِ القاسم بن الإمامِ موسى الكاظم (عليهما السلام)).
حين ينظرُ الرائي إلى قُبّتِه الشريفةِ من خِلالِ أشجارِ المدينةِ وبساتينها وهي تلمعُ بلونِها الدافئ، وسطَ الخُضرةِ، يتملّكُهُ الاطمئنانُ والأمانُ، وما خابَ منْ قصدَه بنيةٍ صادقةٍ، فكرمُه شهادةٌ يمنحُها لكُلِّ عليلٍ ومهموم.
لقد ظلّتِ الوظيفةُ تشغلُ تفكيره، وكثيرًا ما كانَ ينظرُ إليها في علوٍ وشموخٍ لخدمةِ الوطنِ والإنسان، كما يفعلُ أيُّ إنسانٍ قُدِّرَ له أنْ يصنعَ الخيرَ والإصلاح، وسطَ هذا الكمِّ من الفسادِ الذي ابتُليَ به الوطن..
كان يحلمُ مع نفسِه، وهو ينقذُ أبناءَ مدينتِه من أعضائها الفاسدة، كبطلٍ شهمٍ لا يخافُ أو يتردّدُ من طاغٍ أو فاسد، ويُساعِدُ اليتامى والأراملَ والمُحتاجين والشيوخ. كانَ يتصوّرُ نفسَه دائمًا كمثلٍ أعلى للتفاني في تأديةِ أيِّ واجبٍ يوكَلُ إليه.
لم يفقْ (منقذ) من حلمِه وهو ينتظرُ على أحرّ من الجمرِ كتابَ تعيينِه بعدَ أنْ قدّمَ أوراقَه للدائرةِ المُختصّة، وكُلُّه أملٌ أنْ يصحوَ ذات يومٍ على تعيينٍ على ملاكِ وزارةِ الصحة، كموظفٍ طبيٍ مُحترم.
طالَ انتظارُه، ومن ثم اختفتْ جميعُ أحلامِه حينَ هبّتْ ريحُ الشهادةِ بلونِ الجهاد، فقد خُيّلَ إليه أنّ الفتوى المُقدّسةَ التي أُطلِقتْ من الصحنِ الحُسيني الشريفِ نفختْ كُلَّ هذه الأحلامِ بعيدًا عنه، ثم شمَّ هواءَ الشهادةِ مُشبّعًا بضريحِ القاسم (عليه السلام)، فالتحقَ فورًا بلواءِ القاسمِ أحدِ تشكيلاتِ لواءِ علي الأكبر المُنطلق من تحت قُبّةِ سيّدِ الشهداء (عليه السلام)، وبدا له أنّ في هذا الانتماءِ إرادةً قويةً مُمتلئةً بالإيمان، وأن فتوى الجهادِ الكفائي التي أطلقتْها المرجعيةُ الدينيةُ العُليا هي ثورة السماءِ والأرضِ ضدّ الإرهابيين والتكفيريين، وهي بمنزلةِ دعوى موجّهة إليه بالذاتِ كالقدرِ المحتوم الذي لا فكاك منه، وتأديةِ امتحانٍ إلهي لا بُدَّ له من كفاءةٍ وقدرةٍ على اجتيازِه بنجاحٍ مُطلق.
خاضَ جميعَ المعاركِ ثابتَ الجأش، وبمهارةٍ عاليةٍ اصطادَ الدواعشَ المتوحشين عبرَ بندقيةِ القنصِ التي لا تُخطئُ بيدِه، وهو يستعملُها في غايةِ المهارة، رأى في هذه القوةِ البطوليةِ استعراضًا لحلمٍ لم يتحقّقْ وهو ما يدعو إلى الصمودِ والمثابرةِ ورثاءِ النفسِ بما تصبو إليه، وفي نفسه يقول:
- الواجبُ الحقيقي للوطنِ والمذهب الآن هو القضاءُ على الظُلمِ الذي لحقَ بعوائلِ العراقِ والدفاعُ عن الأرضِ والمُقدّسات، وفيما عدا ذلك لا نرتقي إلى مستوى تحقيقِ الغرضِ السامي الذي من أجلِه كانتِ الفتوى المُقدّسة.
ما تفرضُه عليه الحياةُ من مطالبَ قاسيةٍ كانَ جزاؤه الوحيدُ حُبَّ مدينتِه الهاشمية، وإلى جانبِ ذلك كانَ يُمثِّلُها كمجاهدٍ باسمِ المرجعية الدينية. فعندَ رجوعِه بإجازةٍ كانتْ منطقتُه تحتفي به كبطلٍ وهو يقصُّ عليهم قصصَ أبطالٍ لا يعرفون الخوفَ أو التردُدَ في تأديةِ الواجبِ المُقدّس.
وفي إجازتِه الأخيرةِ صحا بسكونٍ، وبدا وكأنّ الشمسَ وما في أشعتِها من سكينةٍ قد أضفتْ عليه شعورًا بالطمأنينةِ والأمانِ الدائمين، فالرؤيا بليلةِ التحاقِه حسمتْ قرارَه للمُشاركةِ بمعركةِ جرفِ الصخر، فالقرارُ كان إلغاءَ الإجازةِ والالتحاقَ فورًا..
كانتِ السيدةُ المُنقّبةُ ذات هيبةٍ عظيمةٍ، على جانبيها رجلان، ليسَ لجمالِهما حدودٌ ولا قوةَ للبصرِ تستطيعُ أنْ تُركِّزَ على مُحيّاهما من شِدّةِ النور، وحولهم أصدقائي المجاهدون ينظرون إليها وكأنّهم ينتظرون أمرًا مُهمًّا.
فجأةً جاءَ صوتُها الملائكي بلهجةِ الثقةِ بالنفس وبالقرارِ المحسوم:
- كنتم تحلمون أنْ تتعيّنوا في دوائرِ الدولةِ، هذه كُتُبُ تعيينِكم جلبتُها لكم.
وحين هبَّ الجميعُ لتسلُّمِ كتبِ تعيينِهم.. قالت:
- لا، ليس الآن، ستأخذونَها في وقتٍ آخر، ولكن هذا بيدي فقط كتابُ تعيينِ (منقذ) وسيأتي معي لتسلُّمِ وظيفتِه التي كانَ يحلمُ بها ومن أجلِها كانَ مُجاهدًا صلبَ الشكيمة.
باستئذانٍ قالَ (منقذ):
- سيّدتي إذا حصلتُ على كتابِ التعيين وأنا مُجاهدٌ سيسقطُ عنّي تكليفُ الجهادِ؛ لأنْ أصبحَ لديّ عذرٌ شرعي..
استفاقَ (منقذ) من منامِه، والتحقَ مُباشرةً بقواتِ الحشدِ التي تشاركُ في معركةِ جُرفِ الصخر، وقاتلَ قتالَ الأبطالِ الشجعان، وحين يتذكّرُ الرؤيا يبتسمُ ويحمدُ اللهَ (تعالى) على نعمةِ الجهاد..
ورغمَ أنَّ أجواءَ المعركةِ مُشتعلةً بضراوةٍ كان ينتظرُ اتصالًا حولَ تعيينه، وحينَ رنَّ هاتفُه الخلوي كانَ يُراقِبُ عبرَ الناظورِ الدواعشَ وحركاتِهم، تركَ البندقيةَ وبدأ ينظرُ إلى شاشةِ الموبايل في حركاتٍ مُعبِّرةٍ كمن يُريدُ أنْ يرسُمَ في فضاءِ مكانِه شجاعتَه وحدودَها..
على الشاشةِ كانتِ الكلمةُ -البيت- يتصل، أجاب بصوتٍ رفيعٍ هادئ:
- السلام عليكم.
- منقذ، خبرٌ حلوٌ لك؛ لقد جاءَ كتابُ تعيينِك!
متى تعودُ إلى البيت؟
كانَ صوتُ مُنقذ قد تغيّرَ، وأخذَ يصيحُ صيحاتٍ طويلةً إلى عمقِ سواترِ الصدِّ سمعَها المجاهدون والدواعش، وهو يُجيبُ أهلَه:
ـ آخرُ معركةٍ نُنفِّذُها في جُرفِ الصخر ونُحقِّقُ النصرَ لتُصبِحَ جرفَ "النصر" ومن ثم أذهبُ لزيارةِ الإمامِ الحسينِ وأخيه أبي الفضل العباس (عليهما السلام) وأرجعُ إلى مدينتي الغاليةِ الهاشمية، وأراجعُ الدائرةَ لإكمالِ إجراءاتِ التعيين.
وتحقّقَ النصرُ، وأصبحتْ جُرفُ الصخر (جرفَ النصر)، وكانتِ النهايةُ كما توقّعَها بيقينٍ حينئذٍ، ورجعَ (منقذ) شهيدًا صباحَ يوم الثلاثاءِ الموافق 11/11/2014 لزيارةِ الأئمةِ الأطهار (عليهم السلام)، ليسكنَ مثواهُ الأخيرَ في النجفِ الأشرفِ عندَ إمامِ المُتقين وشفيع المجاهدين (عليه السلام).




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=158617
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 07 / 28
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29