• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : التزييف العميق .. .
                          • الكاتب : عدي عدنان البلداوي .

التزييف العميق ..

هل سيكون الواقع في العالم الرقمي هو كل حصيلة الفرد وتاريخه . بمعنى انه اذا اراد ان يعرف حقيقة امر ما فإنه لن يجد عنه في العمق التاريخي إلا ما هو موجود في بيانات العالم الرقمي ، ولعل هذا الفراغ بين الحاضر والماضي ، بين الأجداد والأحفاد قد بدا واضحاً في القرن الحادي والعشرين بمساعدة تقنيات العالم الإفتراضي وتفشي وباء كورونا حيث التباعد الإجتماعي والضغوط الإقتصادية والفقر الذي يهدد بعض الدول والجوع الذي يتربص بدول اخرى ، وكأن الواقع منذ امد غير بعيد يمهّد لهذا التغيير الفضيع في المناخ العام للعالم ..

التزييف العميق تقنية تسمح بتقليد الشخص بدقة متناهية وتظهره بحركات واوضاع مزيفة . تعتمد هذه التقنية على صور شخصية وتسجيلات صوتية ومقاطع فديو حقيقية لشخص ما ، يظهر فيها بحالات مختلفة مثل الانفعال والارتياح والتركيز والتوتر والهدوء وغيرها من الإنفعالات وإخضاعها لتقنية الذكاء الإصطناعي الذي ينتج بدوره تسجيلاً جديداً مزيفاً أو صورةً مزيفةً عن الشخص . وبالقدر الذي تبدو فيه هذه التقنية مسلية لدى بعض الناس يراها البعض الآخر من الخطورة بدرجة قد تصل الى الإبتزاز وتشويه السمعة وتحريف الحقيقة . استعملت هذه التقنية في انشاء مقاطع فديو اباحية مزيفة لأحد المشاهير ، واستخدمت في احيان اخرى في صناعة اخبار مفبركة وتصريحات كاذبة على لسان شخصية معروفة . تطورت هذه التقنية اكاديمياً وخارج نطاق القانون . تستخدم على المستوى الأكاديمي في عدة مجالات مثل رؤية الحاسوب القائمة على الذكاء الإصطناعي .

عام 2017م ظهر الرئيس الأمريكي (اوباما) في مقطع فديو وهو يتحدث عن مخاطر هذه التقنية، واتضح ان الفديو كان مزيفاً .

في 2017م شارك مستخدم اطلق على نفسه اسم deep fakes فديوهات اباحية مزيفة وضعوا فيها وجوه ممثلين حقيقيين مكان وجوه اصحاب الفديو الإباحي فحققت هذه الفديوهات المزيفة عددا كبيراً من المشاهدات وبعد الانتقادات الكثيرة حظرت عدّة مواقع الترويج لهذه التقنية . في كانون الثاني 2018م اطلق برنامج fake App للحواسيب يسمح بإنشاء ومشاركة مقاطع الفديو بسهولة مع تغيير الوجوه حيث يستخدم شبكة عصبية اصطناعية وقوة معالج رسومات وثلاثة الى اربعة كيكا بايت من مساحة التخزين لإنشاء الفديو المزيف وللحصول على معلومات مفصلة يحتاج البرنامج الى ادخال الكثير من المواد المرئية لنفس الشخص لمعرفة جوانب الصورة التي يجب تبادلها باستخدام خوارزمية التزييف العميق القائمة على تسلسل الفديو والصور. يقول خبير الكمبيوتر Aargauer Zeitung ( ان التلاعب بالصور ومقاطع الفديو باستخدام الذكاء الاصطناعي يمكن ان يصبح ظاهرة جماعية خطيرة ، ومع ذلك فإن هذا التخوف هو نفسه الذي يشعر به الكل حينما ظهرت للوجود برامج تحرير الفديو وبرامج تحرير الصور بشكل عام تبقى قدرة الناس على التمييز بين الفديو الحقيقي والمزيف هي العامل الأهم في التأثير إيجابياً أم سلبياً على هذه التقنية).

يقول الباحث في الذكاء الإصطناعي اليكس شامباندارد ( انه يجب على كل شخص ان يعرف ان المشكلة ليست مشكلة تقنية بقدر ما هي مشكلة ثقة في المعلومات التي تقدمها وسائل الإعلام والصحافة) ويقول ( المشكلة الأساسية هي ان الإنسانية يمكن ان تقع في عصر لم يعد فيه من الممكن تحديد ما اذا كان محتوى صورة او فديو ما حقيقياً أو لا ). ( موقع ويكيبيديا)

اذا كانت هذه التقنية مصدر قلق اليوم ، فهل ستصبح مصدر توثيق غداً ؟ خصوصاً عندما يعتمد الناس الإعلام والعالم الإفتراضي مصادر للبحث عن الحقيقة وتصبح الكتب القديمة تراثاً نمرّ به في المتاحف وخزائن المكتبات حيث لا يسمح لنا بتصفحها من باب الحفاظ على سلامة مكونات ورق الكتاب ، وتزداد خطورة الأمر عندما لا يعتنى بإعادة طبع النسخ الأصلية لتلك الكتب القديمة خصوصاً المصادر منها ، أو عندما يعاد طبعها بعد تنقيحها وتحقيقها وهو ما قد يعرضها في بعض الأحيان الى التصرف في محتواها ، يضاف الى ذلك ابتعاد الناس عن الكتاب الورقي عموماً . فكثير من الناس اليوم يفضلون رؤية وسماع فديو قصير على قراءة نص مكتوب ، ويفضلون قراءة تعليق مكتوب ضمن صورة على قراءة التعليق نفسه من غير صورة ، ويفضلون قراءة نص قصير مكتوب على قراءة موضوع وان كان مهماً ، كما انهم يذهبون الى قراءة التعليقات على الموضوع لأخذ خلاصة عنه بدل الخوض في قراءته ..

يرى علماء النفس ان حنين الشخص الى الماضي يمنحه احساساً بالإستمرارية ويعطيه شعوراً مريحاً بالإرتباط بعدد كبير من الناس عبر فترات زمنية مختلفة ، وافاد عدد من القرّاء ان احساس احدهم وهو بين دفتي كتاب قديم يختلف عن احساسه وهو بين دفتي كتاب جديد ، فالأوراق الصفراء ، وشكل الطباعة القديمة ، ومضامين الكتاب ، والفترة الزمنية التي كتب بها ، كل هذه مؤثرات يشعر معها القارىء انه يستحضر زمناً هو في جانب كبير منه مشرق مشرّف وهو ما يدفعه الى اعتماد ما فيه والوثوق بمحتواه ، ويبدو ان هناك من يوظف هذه الأجواء لخدمة غاية معينة . فقد نقلت احدى القنوات الفضائية على لسان احد اعلامييها قولاً مأثوراً زعم انه منسوب الى الإمام علي عن وباء كورونا في كتاب ( عظائم الدهور ) لأبي علي الدبيسي 565ه وقرأ الإعلامي العبارات الآتية : عندما تحين العشرون ، قرون وقرون وقرون ، يجتاح الدنيا كورون .. في مواقع التواصل الإجتماعي شارك عدد كبير من المستخدمين هذا الفديو وترك عند كثيرين انطباعاً عن قدرية الوباء بعد ان كثر الحديث عن الوباء المصطنع واشتغلت محركات البحث الالكتروني للوقوف على حقيقة هذا الكتاب ومحتواه ، نشر بعضهم تكذيبه لنسبة هذا المحتوى الى الإمام علي ، ونؤشر هنا ان كثيراً من المثقفين والمتعلمين لجأوا بشكل مباشر الى الانترنت لمعرفة حقيقة كتاب عظائم الدهور ومؤلفة ، اما عوام الناس فقد وقفوا عند ما نقله الإعلامي وتناقوله بينهم . بعد جيل او جيلين سيقلّ عدد اصدقاء الكتاب الورقي وستغادر كتبهم رفوف مكتباتهم بعد رحيلهم كما يحصل مع كثير من اصحاب المكتبات هذه الأيام. وعندما يصبح العالم الإفتراضي بسرعة بحثه ووفرة البيانات التي يقدمها ، مصدراً مباشراً معتمداً ويصبح المال مديراً والعلم سلعة فربما نشهد معطيات جديدة ستفرض نفسها كثوابت واداوات للتفكير في المستقبل من شأنها ان تنتج تصورات معينة عن التاريخ والتراث بعيدة عن الحقيقة او غير مطابقة لها تماماً منها على سبيل المثال هناك وثيقة تناقلتها مواقع الكترونية وهي عبارة عن ورقة صفراء تبدو وكأنها وثيقة تاريخية قديمة تتحدث عن رسالة بعث بها جرج الثاني ملك انجلترا الى الخليفة الأموي في الأندلس هشام الثالث كتبت بتاريخ 1028م – 419هـ يقول فيها: من جورج الثاني ملك انجلترا والغال والسويد والنروج الى الخليفة ملك المسلمين في مملكة الاندلس صاحب العظمة هشام الثالث الجليل المقام بعد التعظيم والتوقير فقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء اثركم لنشر انوار العلم في بلادنا التي يسودها الجهل من اربعة اركان .. الى اخر ما تذكره الوثيقة ثم ينهي الملك رسالته بـ( من خادمكم المطيع جورج الثاني ملك انجلترا ). وفي الجزء التالي لنفس الورقة جواب الخليفة الأموي .. ان مثل هكذا وثيقة أو غيرها ستكون موضع اندهاش قبل ان تكون موضع انتقاد من قبل الأجيال القادمة ممن لا يمتلكون ادوات النقد والتحليل من قبيل هل ان جورج الثاني حكم في تلك الفترة المكتوبة بها الرسالة وأي البلاد كانت تحت حكمه ، هل ان المسلمين كانوا في الاندلس في تلك السنة ولماذا جاء رد الخليفة على نفس الرسالة ولماذا جاءت الرسالة والجواب بنفس نوع خط الكتابة وهل كان هذا النوع من خط الكتابة متداولاً في تلك الفترة الزمنية في مخاطبات ومكاتبات الحكّام ، وهل يتطابق وصف الملك لحقيقة طبيعة مجتمع الدولة الإسلامية في تلك الفترة ، وهل كانت انجلترا والبلدان التي ذكرتها الوثيقة غارقة في الجهل كما جاء فيها على لسان ملك انجلترا . اذا تطرق بعض المعنيين اليوم الى كشف زيف هذه الوثيقة فقد لا يكون بوسع الأجيال القادمة القيام بذلك عندما يصبح العالم الإفتراضي هو مصدر المعلومة بلا منازع وبعد ان يظهر مؤرخون جدد لا يحفظون تواريخ الأحداث في اذهانهم لاعتمادهم على ذاكرة الشبكة العالمية ومحرك البحث الرقمي السريع في ذلك. وذكر موقع ويكيبيديا انه ( منذ سنة 2015م تناولت العديد من صفحات التواصل الاجتماعي الرسالتين وتناقلها العديد من الباحثين والإعلاميين وبعض الدعاة بل وبعض الكتب دون تحقق وزعم بعض من تناقلوا الرسالتين ان مصدرها هو كتاب "الاستذكار" لابن عبد البر وهو ما لم يثبت على الإطلاق كما زعم آخرون ان مصدرها كتاب "العرب عنصر السيادة في القرون الوسطى" لمؤلفه المؤرخ الانكليزي السير جون دوانبورت إلا انه لم يكن هناك مؤلف بهذا الإسم أو كتاب بهذا العنوان ) ثم يستعرض الموقع مواطن التزييف في الرسالتين من قبيل تباعد الازمنة ونوع الخط المستخدم وسياق كتابة الرسالة والجواب في ذلك الوقت وكلها امور تحتاج الى الخبرة والدراية وسعة الإطلاع وهنا مكمن الخطر على الأجيال القادمة عندما يصبح التعليم الكترونياً وتصبح الشاشة مصدر المعلومة الأول والأخير ، وتتضاءل ذاكرة احدهم الى حدّ توهمه وجهله بأن "الإخلاص" هو الإسم الثاني لسورة التوحيد في استطلاع مصوّر شمل عدداً من الفتيان في احدى بلدان العالم العربي الإسلامي اظهر اغلبهم جهله عندما طلب منهم قراءة سورة الإخلاص ..




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=158154
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 07 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29