• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : بحث في فلسفة العرفان التأثيرات العرفانية في علم السلوك عند الشيعة الإمامية  .
                          • الكاتب : ا . د . وليد سعيد البياتي .

بحث في فلسفة العرفان التأثيرات العرفانية في علم السلوك عند الشيعة الإمامية 

 مقدمة في العرفان:  
     تتجذرُ مفاهيمُ علم العرفان عند القواعد الاصولية لمعرفة المخلوق بالخالق، وهي معرفة تنحو منحا تكامليا في تربية الانسان وتقوية مناهجه العقلية والنفسية لتتوحد في طاعة الله، طاعة هي نتاج تفاعل عقلي ونفسي يتشكل في الادراك العملي للانسان، ولعل افضل تعريف، بل هو الأرقى على الإطلاق، كما جاء عن سيد العارفين، وازهد الزاهدين الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، فقد قال:
" أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ". (نهج البلاغة)
     في البدء يجب التوضيح أن كل حرف (هاء - هـ) هو (هاء المضاف إليه) ورد في هذا الحديث هو يعود إلى (الله) تعالى شأنه، فمعرفته يقصد بها معرفة الله، وهكذا في بقية سياق الحديث. 
     يقدم الامام علي عليه السلام، موقفا تحقيقيا في علم المفاهيم، وهو يؤسس لنظرية معرفية، تتكامل بتحديد الكمالات المعرفية وصولا لادراك معنى الإخلاص لله عز وجل، فكما الإخلاص لا يكون إلا بنفي الصفات عنه تعالى، انطلاقا من فلسفة إلهية تقول بأن: (تنزيه الله ونفي الصفات عنه دليل إلى توحيده)، أليس قولنا كما في كتابه العزيز: (لا إله إلا الله)، هو ابتداء بنفي ان يكون له شريك، فيكون النفي دليلا على الاثبات!  فالابتداء بالنفي ليست حكمة لغوية فقط، بل هي قضية فلسفية تقوم على تنزيه الخالق عن سلبيات المخلوق، إذ لا مشابهة خلقية (بالضم) ولا خلقية (بالفتح) بين المخلوق والخالق، وهذه تقوم على تنزيهه تعالى شأنه من أن يكون له شبيه أو مثيل أو كفوء، وقد قال في كتابه العزيز: " قل هو الله أحد * ألله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد". (سورة الإخلاص).
     وهذا المعنى يؤسس لقيم ومفاهيم معرفية ثابتة، فالتوحيد عقيدة إلهية وشريعة سماوية تتطابق ومدركات العقل السليم، ألم يقل الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله: " ما قاله الشرع (ما جاء به الشرع) حكم به العقل ".( الأصول العامة/299). فالتوحيد قضية عقلية كما هي شرعية عقائدية، وقد وجدنا في بحوثنا السابقة تقييم مدرسة أهل البيت عليهم السلام لقيمة العقل فاعتبروه احد مصادر التشريع الرئيسية حتى امتلأت بحوثهم في معنى العقل وتبيان تأثيره على الحياة والسلوك الشخصي للانسان، حتى قال الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله: " العقل رسول باطن، والرسول عقل ظاهر".(التشريع الإسلامي، المدرسي/1/87) ولما كان العقل دليلا على معرفة الله تعالى، فهو بالتالي أحد أهم معايير السلوك الانساني، ومن هنا قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: " العقول أئمة الأفكار".( بحار الأنوار، المجلسي 1/96)
السلوك:
     تبنى الشيعة الامامية موقفا عقلانيا من علم السلوك باعتباره منطلقا لتقويم الشخصية الإنسانية، وإعدادها إعدادا رساليا، وهو يمثل تطابقا واقعيا بين كل من العقيدة والشريعة وتفاعلات الحياة في حركة الانسان اليومية، فإستشهاد الامام الحسين عليه السلام في كربلاء سنة (61 هـ) كان يمثل استيعابا واقعيا للشريعة حد الاستشهاد، باعتبار ان التكامل المعرفي قد تجاوز الآني إلى المستقبلي، واخترق حركة التاريخ وصولا إلى الخلود داخل النفوس والعقول، فسلوكه في التضحية لم يكن سلوكا تجاوزيا عن الواقع، بل يمن اعتباره سلوكا يقع في صميم الواقع الرسالي، وهو سلوك إختص به الله انبياءه ورسله وأوصياه في التضحية حفاظا على واقعية الشريعة من الضياع في أزمنة الاسفاف. من هنا قال الامام الصادق عليه السلام: " شيعتنا من تمثل بنا ".(المصدر السابق). فمحاولاتنا في الاقتراب من هذا النهج الإلهي تضع الوعي الجمعي للأمة على الدرب الصحيح.
أبو ذر رضوان الله عليه مثالا:
     ذاك جندب بن جنادة بن سفيان الغفاري (رضي الله عنه ت32 هـ) وهو خامس من أسلم على ما جاء في أدق الروايات، قال فيه نبي الرحمة: "ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر".(الحسين والتشريع الإسلامي، الكرباسي/1/357). نفاه عثمان بن عفان إلى الشام، ثم إلى الربذه ومات فيها ولم يكن يملك ثمن كفن.
يتخذ الاتجاه المعرفي عند أبي ذر (رضي الله عنه) منحا تطبيقيا في علم السلوك، بل يمكن اعتباره وثلة من كبار الصحابة من أمثال عمار بن ياسر بن عمار بن مالك بن كنانة (ت 37 هـ )، سلمان المحمدي (روزبة بن خشنوذان ت 36 هـ) والمقداد بن عمرو بن ثعلبة الكندي (ت 33 هـ)، أساتذة علم العرفان والسلوك، فالمعرفة الالهية لم تكن عندهم عنوانا سطحيا يتكرس في حركات الصلاة قياما وقعودا وسجودا، بل إن الادراك المعرفي تجاوز لديهم كل الانفعالات الآنية، واستغرقتهم العلاقة بالله عز وجل حتى وكأن واحدهم يعيش الاخرة في الحياة الدنيا، حتى انطبقت عليهم الآية الكريمة: " الذِينَ يَذكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ". 
آل عمران:191.      
 من هنا يمكن إعتبار السلوك العرفاني لأبي ذر (رضي الله عنه) شكلا من أشكال التكامل الواعي لعلاقة الاخرة بالدنيا انطلاقا من كون الدنيا دربا يقود للاخرة، وليس باعتبار الدنيا حقيقة الوجود، فالحقيقة العقلية هنا تعني اختراق الوجود وصولا إلى كمال المعرفة المتحقق في قيمة (حق اليقين)، فالعارف الحقيقي يخترق مساحة (علم اليقين) متجاوزا حقيقة (عين اليقين) ليستقر في ملكوت (حق اليقين). ولما كان (حق اليقين) لا يتحقق من الناحية العملية إلا يوم الدين: " إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليَقِينِ".(الواقعة:95) فأن رجالا من أمثال أبي ذر قد تمكنوا من تحقيق تلك المعادلة الإلهية بتطبيق الآخرة في الحياة الدنيا، والتعايش معها نصا وروحا وتطبيقا تشريعيا فهو كأستاذيه الرسول الخاتم والوصي الأكبر (محمد وعلي)، ترتقي خلاياه معارج الروح، وتتجسد الآخرة أمام ناظريه، فيرى ثواب الأعمال وعواقبها، حتى أطلق صرخته في المدنية قبل أن يطلقها في الشام مناديا بالعودة إلى النهج الرسالي بعد أن انحرفت عنه الأمة إلا تلك الثلة القليلة من أهل البيت الأطهار ومن صاحبهم.
وعي المجتمع السلوكي:
حددت الشريعة موقفها من السلوك الاجتماعي بإعتبارات ترابط هذا السلوك بالحكم الشرعي، وقد غلب على هذا الترابط النزعة الاخلاقية التي دعا اليها الأنبياء والرسل، فقال عز وجل: "يا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَرفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَولِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ". (الحجرات:2)
وقال أيضا: " يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالأَلْقابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ". (الحجرات:11)
هذا النوع من التشريع يمثل منهجا لاستنهاض الوعي الجمعي في خروجه من جاهلية الفكر والسلوك لنور التوحيد الالهي، فالمجتمع لايمكن أن يتحول من حالة الركود إلى حالة التفاعل الايجابي ما لم يعي البناء القيمي للافراد في عملية التحول، وهو منهج الانبياء والرسل في بناء مجتمعات تتبنى قيما سلوكية عليا ولتصبح بالتالي مجتمعات تنحو نحو تطور حضاري واعي.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=156448
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 06 / 05
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28