• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : توهم الملازمة بين التواتر و الوضوح والشهرة .
                          • الكاتب : الشيخ ليث الكربلائي .

توهم الملازمة بين التواتر و الوضوح والشهرة

انتهينا في المقال السابق من اثبات تواتر تشخيص أهل البيت (عليهم السلام) لموضع قبر الإمام علي (ع) المتعارف الآن بما يفيد القطع وذكرتُ فيه نماذج من النصوص الصحيحة الدالة على زيارة الأئمة وبعض أصحابهم له مرارا وتكرارا (1) .
وأمّا في هذا المقال فأريد معالجة سؤال متمّمٍ يبدو أنّه بمكان من الأهميّة لدى بعض الأصدقاء مفاده : إذا كان تشخيص الامام الصادق وأهل البيت (ع) متواترا وقطعيا فلماذا نجد بعض النصوص تشير الى أنّ بعض الأصحاب كان رأيه خلاف ذلك ؟ مثلاً في رواية الحسن بن الجهم التي ذكرتها في المقال السابق نجده يقول : " ومن أصحابنا من لا يرى ذلك .." أي بعض الأصحاب كان له رأيا مختلفا عمّا شخصه الامام الصادق (ع) .
وحرصا على الخروج من هذا المقال بفائدة أهمّ أقول : هذا السؤال سيال لا يجري في هذا الموضع فقط بل ذكره ويذكره بعضهم في مواضع كثيرة ربما قرأتم سابقا بعضها ، منها مثلا: إذا كان النص على كلّ إمام من الأئمة متواترا فلماذا نجد بعض الأصحاب يتوقف في الإمام اللاحق بعد موت السابق حتى شكّل ذلك في بعض مقاطع التاريخ ما عُرِف بظاهرة الحَيرة ؟ والكلام نفسه بتنا نسمعه في مواضع كثيرة . حتى يمكن وضع السؤال بهذا القالب العام : لماذا نجد وفي مواضع ليست بقليلة هناك من يخالف النصوص المتواترة القطعية ؟ هل يرجع ذلك الى عدم ايمانهم بمرجعية النبي او الإمام المخبر أم ماذا ؟
الجواب 
إذا أردنا تحليل ما يستبطنه هذا السؤال نجده مبنياً على أنّ المتواتر يجب أن يكون مشهورا معلوماً عند الجميع كما يجب أن يكون واضحاً عند الجميع من هنا تخيّل السائل وجود مفارقة بين تحقق التواتر من جهة وعمل بعض الأصحاب بخلافه من أخرى ، والجواب في الحقيقة يبدأ من هنا فالسؤال في نفسه مغلوط لأنّ التواتر لا يلازم منه الشهرة والوضوح وبالتالي من الطبيعي جدا أن لا يأخذ به بعضهم وبيان ذلك يستدعي التوقف عند معنى التواتر بشكل موجز أوّلاً:
المتواتر : هو الخبر الحسي المنقول عن جماعة كثيرة يمتنع بنظر العقلاء وقوعهم جميعاً في الاشتباه او تواطؤهم على الكذب .
فمثلاً إذا أخبرك شخص ببناء مدرسة جديدة في الحي قد تشك في صحة كلامه فتحتمل نسبة صحته 50% مثلا فإذا جاء شخص آخر وأخبر بالأمر نفسه ثم جاء الثالث والرابع و... ستلاحظ ارتفاع نسبة احتمال صدق الخبر شيئا فشيئا حتى تبلغ اليقين هذا هو معنى التواتر وكيفية توليده لليقين وفق نظرية تراكم الاحتمال الرياضية مع ملاحظة أن العوامل الموضوعية قد تؤثر سلبا أو ايجابا في ذلك فمثلا إذا كان جميع المخبرين او بعضهم من الثقات ستحتاج الى عدد أقل من المخبرين لتصل الى اليقين مما لو كان جميعهم او بعضهم من غير الثقات وهكذا إذا كان مضمون الخبر فيه مصلحة للمخبرين أنفسهم ستحتاج الى عدد أكبر حتى تصل الى اليقين مما لو كان الخبر خلاف مصلحتهم كما أذا نقل المخالف ما يدل على إمامة  أمير المؤمنين عليه السلام .
هذا بشكل موجز جدا فإذا اتضح نعود لأصل السؤال : إذا كان التواتر يولد اليقين فلماذا يعمل بعض أصحاب الأئمة بخلاف ما ثبت عندنا تواتره عن المعصوم في بعض المواطن ؟
الجواب يمكننا ارجاع ذلك الى أحد الأسباب التالية (استقراء ناقص) :
السبب الأول : لعدم وقوفهم على طرق الخبر الموجبة لتحقق التواتر
وهذا معنى أنه لا يُشتَرَط الشهرة في التواتر ، فإذا أخبرك عشر ثقات مثلاً بخبر حسي معيّن يتحقق عندك التواتر وتتيقن بمضمون الخبر، لكنه لن يتحقق عند جارك مادام لم يقف على إخبار هؤلاء العشرة بنفسه، فلا يُشترط في تحقق التواتر أن يكون مشهورا معلوما عند الجميع .
نموذج تطبيقي : وصلنا النص على إمامة الإمام الكاظم عليه السلام متواترا بل بما يفوق التواتر حيث بين أيدينا اليوم أكثر من خمسين رواية تدلّ على ذلك، ولكن جاء هذا نتيجة لما بذله العلماء عبر القرون المتمادية من تتبع أصول الحديث وجمعها وتبويبها ومن ثمّ وقفنا عليها حزمة واحدة في باب أو أبواب متماثلة ، بينما كان وقوف أصحاب الامام الصادق (ع) على كل هذه الطرق متعسر بل هو متعذر على كثير منهم بسبب تفرق أصول الحديث ومراقبة السلطة وتباعد الديار وانعدام وسائل التواصل حتى أنّ أحدهم إذا وقف على بضعة أحاديث في هذا الباب يكون ذا حظٍ جيد إذ لا يطلِّع بعضهم إلا على بضعة أخبار آحاد منها او لا يطلّع على شيء أصلا فمن كان هذا حاله من الطبيعي جدا أن يتحير في الأمر لوهلة ريثما يستطلع برهان الامامة .
إذاً سبب عمل بعضهم بما يخالف ما ثبت عندنا تواتره هو أنه أساسا لم يقف على هذا التواتر .
السبب الثاني : عدم وضوح المضمون المتواتر
فقد يكون النص في نفسه متواترا من جهة النقل لكنّ مضمونه محل خلاف واجتهاد فيتفرّق الأصحاب لا بسبب عدم وقوفهم على تواتر النص بل هو متحقق عندهم لكنّ فرقتهم بسبب عدم وضوح النص عند بعضهم بحيث تخالهم يخالفون التواتر، ولا مدخلية لتواتر النص في وضوحه وعدمه .
وأمثلة ذلك كثيرة منها مثلا قوله تعالى { يد الله فوق أيديهم } فهذا نص في نفسه متواتر ولكن هل نحمله على معناه الحقيقي أم على المجاز هذا أمر نحتكم فيه الى معايير خارجية أجنبية عن نفس التواتر .
وهكذا قد يرد نص متواتر يدل على إمامة إمام من الأئمة لكن بعض الأصحاب يخالفونه لا من جهة عدم القول بمرجعية قائله وإنما من جهة عدم فهمهم دلالة النص على الإمامة .
السبب الثالث : وجود الشبهة
الشبهة تعود في نهاية المطاف الى التأثير على وضوح الدليل لكن فرقها عن النقطة السابقة أنها مؤثر خارجي وليس من نفس بنية النص المتواتر ، فإذا كان النص متواترا وواضحا في نفسه ووقف الأصحاب على تواتره ولكن كانت لديهم شبهة حول مضمونه في هذه الحالة قد تقودهم الشبهة الى مخالفته أيضا .
وكنموذج تطبيقي لمسته عند بعض من حاورتهم فيما مضى أنّه يقر بتواتر النص على امامة وولادة الإمام المهدي (ع) ولكن يستشكل من جهة غيبته إشكالا راسخا في نفسه يدفعه الى إنكار إمامته فهذه شبهة تدفعه باتجاه العمل بخلاف ما ثبت عنده تواتره .
السبب الرابع : عوامل موضوعية وشخصية أخرى
وهناك عوامل أخرى موضوعية كثيرة تقود الانسان الى العمل بخلاف ما ثبت عنده تواتره فمثلا أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام وصله النص على إمامة الإمام الكاظم (ع) ولكنه أنكرها ليحظى بما كان في يده من حقوق شرعية حتى انه حاول مساومة الامام الكاظم (ع) في ذلك ، وهكذا يمكن أن تكون هناك عوامل أخرى تؤثر في قبول الانسان لما ثبت عنده تواتره .
هذا كله في الخبر المتواتر وأمّا خبر الآحاد فيجري فيه ما سبق وزيادة فتارة يعمل بعض الأصحاب بخلافه لعدم وقوفهم عليه أصلا أو لوقوفهم عليه ولكن لم تثبت عندهم صحته (اجتهاداً) ، أو لوجود شبهة أو لوجود أخبار أخرى تعارضه كالأخبار المتعارضة في تحديد موضع دفن رأس الإمام الحسين (ع) ... وغيرها من الأسباب الأخرى.
إذا اتضح كل هذا نعود الى أصل البحث وهو ما سبب عدم أخذ بعض أصحاب الامام الكاظم وسائر الأئمة بما ثبت عندنا تواتره عن الإمام الصادق (ع) في مسألة تشخيص قبر الإمام علي (ع) ؟
الجواب : قد يكون السبب في ذلك عدم وقوفهم على هذه الأخبار أو وقفوا عليها ولكن لم تثبت صحة نسبتها للإمام الصادق (ع) عندهم ، أو ثبتت نسبتها له (ع) عندهم ولكن كانت لديهم شبهة تصرفهم عن العمل بها كقوة الدعايات التي يبثها الآخرون للتشويش على هذه الأخبار كما بيناه مفصلا في المقال السابق أو غيرها من الأسباب السابقة او التي لم نذكرها .. ومن هنا يتضح عدم امكان الاستدلال بمجرد عدم عمل بعضهم بهذه الأخبار على أنهم لا يؤمنون بمرجعية الامام الصادق (ع) .. لأنّ عدم أخذهم بها قد يرجع الى أحد الأسباب السابقة فالدليل هنا أعمّ من المطلوب إثابته .
بل من أبعد الاحتمالات أن يكون سبب ذلك عدم إيمانهم بمرجعيته فكيف يكون ذلك مع علما يقينا بأنهم كانوا يأخذون دينهم من رواياته في الحلال والحرام والتفسير و ... ولم تُعرف لهم مرجعية أساسا في هذا غيره (عليهم السلام) (2) ؟! .
_______
(1)    كان المقال بعوان (الخلاف حول موضع قبر الامام علي عليه السلام نظرة في المصادر والأدلة ) يمكنك مطالعته على هذا الرابط
 http://www.kitabat.info/subject.php?id=155262
(2)    أعني إماما يقصدونه في زمانهم وإلا فلا شك في مرجعية القرآن والني وسائر الأئمة (ع) بالنسبة لهم أيضا .
 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=155306
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 05 / 09
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29