• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : شعاعُ المغيب. .
                          • الكاتب : رجاء بيطار .

شعاعُ المغيب.

المكان: بلاد الشام
الزمان: الثاني من صفر، سنة إحدى وستين للهجرة
كان الإيوان فسيحاً...، لم أر أفسح منه سوى الصحراء...، ضيقًا حرجًا لا يكاد يتسع حتى لأنفاسي، وكان مكتظّاً بالأنظار المتطلّعة والبسمات المكفهرّة والضحكات المولولة، ولقلقات الألسن.
خبّأت وجهي بثوب سكينة ومشيت خلفها...، مشيت راغمة، فقد كان القيد الذي أوثقنا به متّصلًا، من عنق أخي علي،إلى عنق عمتي زينب، فعمتي أم كلثوم، إلى... إلى..... إلى أنيصل إلينا...
كنا نمشي مطأطئات الرؤوس، خجلاً وخزياً من النظرات المنصبّة... والشتائم...!
عجبت كيف لا يُخسف الإيوان، كما خسف إيوان كسرى بولادة جدنا...؟! وعجبت كيف لم تمطر السماء دمًا ثانية....، كما أمطرت يوم كنّا بكربلاء..؟!
كنت خائفة من النظر إلى الأمام، إلى ذلك المدعوّ (يزيد)،فقد كان في خيالي صورةً قبيحةً كريهةً نتنة، لا يمكن أن أطيق رؤيتها، ولذا فقد أخفيت وجهي في رداء سكينة، ولم أزحه عن عينيّ طيلة الوقت...، كنت أسمع ما يقال فحسب، أفهم بعضه، وأجهل بعضه...، وأنا بين ما أفهم وما أجهل حائرة لا أدري ما أصنع..!
سمعت صوتاً غريباً، فيه خشونة ومجون، أسكت القوم...  اضطرب فؤادي وأنا أصغي، لم أميّز من حديثه سوى قهقهة جعلت قلبي يضطرب أكثر...، وارتفع صوت أخي علي وهو يقول:
-أناشدك الله يا يزيد، ما ظنك برسول الله لو رآنا على هذه الصفة؟!
وكأنه استحيى، ليس من الله بل من جلسائه، الذين راحوايتمتمون ويهمهمون، وتحوّل بعضهم إلى البكاء...، شعرتُ بأن ثمةمن يقطّع القيود والحبال...، فنظرت من طرف عيني إلى أخي علي، فإذا بأحدهم يفك الغلّ عنه...، تنفست الصعداء، وقد استشعرت وجود والدي على مقربة، ولكن رعبي لم يتبدّد، فعدت أخفي وجهي ثانية...،ثم حدث أمر لم أدرِ ما هو، أفزعني أكثر، فقد ارتفع صوت عمتي زينب فجأة تنوح قائلة :
-  واأخاه...، واحسيناه...، يا بن مكة ومنى، يا بن زمزم والصفا...، يا بن فاطمة الزهراء..

وضجّ القوم بالنحيب، وضجّ قلبي بالوجيب فلم أعد أسمع...، ولكني استشعرت وجود والدي في مكانٍ قريب..!
وسمعت حركة...، ورغم أن شعوري بوجود والدي كان طاغياً، إلا أني لم أجرؤ على النظر، فقد كان في تلك الحركة، في من أصدرها، أمر مرعب..، وازداد رعبي حين سمعته يقترب أكثر حتى يحاذينا، ويروح يسأل عن كل واحدةٍ منا، ويجيبه أحدهم...،
حتى إذا وصل إلى خالتي الرباب، سألها متشفيًا:
-رباب...، أتعرفين هذا الرأس..؟!
تصاغرت حتى كدت ألامس الأرض هولا، وتساميت حتى بلغت عنان السماء طولًا، أبحث عنك!...
كان نورك محيطا بي من كل ناحية، لا أدري من أين يصدر..!
واكتفيت بأن أسلمت قلبي لخفق لا يهدأ...، يضخّ في عروقي وفكري...، وحتى في مسمعي المتلهّف لمعرفة ما يجري...، ولكني لم أزح رداء سكينة عن عيني، بل جاهدت لكي لا أسمع صوت أمها الرباب، وهي تجيب بأنّة وبكاء:
وإني لأستحييه والترب بيننا ...كما كنت أستحييه وهو يراني
عليّ عزيزٌ أن أراه كما ترى ...عليه عزيزٌ أن يراك تراني
وشغلني عن التفكير في قصدها، صوت أختي سكينة تبكي بلوعة ما بكت بها من قبل، على كثرة ما بكت...، لقد شعرت بأنها تكاد تلفظ روحها لشدة البكاء، فقد وصلها ذاك اللعين، ولما عُرّف بها سألها شامتا:
-أأنت سكينة؟!
لله دمعك يا سكينة...، لله بكاؤك وحزنك، وحقنا المهدور، وحرمتنا المستباحة...، 
لقد مضينا من كربلاء إلى الكوفة، ومن الكوفة إلى هنا...، مرت علينا أهوال وأهوال، بعد مصارع أحبّتنا وحماتنا، وغياب وليّنا....، بردٌ قارس وحرٌّ لاهب، جوعٌ مستديم وظمأٌ لا يريم، عناءٌ وجلدٌ وسقمٌ وآلام...، شتم وتجريح، يوجع القلب والروح ويبعثر الأحلام...، والآن، يقطفون ثمار الانتقام..!
أواه...، أبتاه...، كنت أحسب أن لا شيء يستنفد صبري، فما لي أرى صبري على وشك النفاد، وأنا لما أرك بعد..!
أي والدي، اربط على قلبي بحنانك وعطفك، انظر إليّ بعينك التي أعلم أنها لا تغفل عني، وأمدّني بروحك التي تلازمني، فأنا أخشى أن تتصاعد روحي قبل لقائك...،
بالله عليك يا أبتاه...، لا تتأخّر عليّ..! بحق جدك المصطفى وأبيك المرتضى، عد إليّ فقد نفد الزيت من سراجي...، بحق أمك الزهراء، أم أبيها، بحقي أنا، شبيهتها كما نعتّني يوماً فتهت تيهاً، أحضر إليّ في الحال، فإن الشعاع قد مال، وآن أوانُ المغيب.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=154357
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 04 / 18
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29