• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : المسألة في القبر وعذابه .
                          • الكاتب : ميرزا حسن الجزيري .

المسألة في القبر وعذابه

 مقدمة:
قد يرد في الذهن عدة تساؤلات في هذا العنوان:
الأول: هل أن عذاب القبر وحسابه من الأمور التي يجب الاعتقاد بها جزما؟
الثاني: هل أن جميع الناس محاسبون في القبر أو أن هناك من لا يحاسب؟
الثالث: لو كان هناك حساب وعذاب فهل هو مستمر الى يوم القيامة او منقطع؟
الرابع: هل يمكن تحديد الحساب والعذاب بالزمان الدنيوي أو لا؟
ونستعرض المسألة في نقاط ليتضح الجواب عن هذه الأسئلة:
النقطة الأولى:
إن المسألة في القبر عبارة عن سؤال الميت في قبره قبل يوم القيامة عن أعماله في الدينا خيرًا أو شرًا والمجازاة عليها بتعذيب المستحق وتنعيم المؤمن، وهي من الاعتقادات الحقة التي تسالمت عليها الطائفة بل عليه اجماع الأمة (1) ودلت عليها الأخبار الصحيحة والمتواترة كما نصّ على ذلك عدةٌ من الأعلام كالمحقق الطوسي والشهيد الثاني(2) وغيرهما رضوان الله تعالى عليهم، فقال شيخ المحدثين الصدوق قدس: (اعتقادنا في المسألة في القبر أنه حق لا بد منها فمن أجاب بالصواب فاز بروح وريحان في قبره وبجنة النعيم في الآخرة، ومن لم يجب بالصواب فله نزل من حميم في قبره وتصلية جحيم في الآخرة) (3).
وقال الشيخ المفيد قدس: (جاءت الآثار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الملائكة تنزل على المقبورين فتسألهم عن أديانهم، وألفاظ الأخبار بذلك متقاربة فمنها أن ملكين لله تعالى يقال لهما ناكر ونكير ينزلان على الميت فيسألانه عن ربه ونبيه ودينه وإمامه فإن أجاب بالحق سلموه إلى ملائكة النعيم، وإن ارتج عليه سلموه إلى ملائكة العذاب) (4).
فالاعتقاد بعذاب القبر والمسألة واجبٌ إلا أنّ ما يجبُ الاعتقادُ به هو وقوع ذلك في الجملة ولا يجب معرفته تفصيلا ولا الايمان بتفصيله، فلا يجب الايمانُ بمَن الذي يعذب ومن لا يعذب وكيف هو العذاب، فهذه من الأمورِ الخارجةِ عن وجوب الاعتقاد بها جزمًا فالأخبار مختلفة في تفصيلها وفيها الضعيف وفيها الصحيح، نعم ما أخبر به القرآن واقع لا محالة، ويجب عقد القلب عليه والإيمان به كما في قوله تعالى (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) الدال على وقوع العذاب في القبر بالعرض على النار الذي هو بنفسه عذابٌ للكافرين بما يلزمه أن للكافرين حياةً في الأخرة ولهم فيها عذابٌ وبالضرورة قبل تعذيبهم يجب -بعدالة الله تعالى- حسابهم وتمحيص أعمالهم، وبالجملة ففي القبر حساب وعذاب ومجازاة ومقابلة للأعمال، ومع ذلك كله فإنه لو وردت رواية صحيحة وفق القواعد ودلت على تفصيل ٍما في هذه المسألة كما لو دلّ خبر ما على أن الميت يضغط في قبره وجب عقد القلب عليها والإيمان بها.

النقطة الثانية: فيمن يسأل في القبر:
إن الأخبار الصحيحة دلت على أنه ليس كل أحد يُسأل في قبره بل هناك من يُسأل وهناك من لا يُسأل، ويدل عليه عدة من الأخبار الصحاح رُويت بعضُها في الكافي وبعضها في غيره، فمنها ما رواه الشيخ الكليني بسند صحيح عن ابْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ الْسَّلام) قَال:
(إِنَّمَا يُسْأَلُ فِي قَبْرِهِ مَنْ مَحَضَ الإِيمَانَ مَحْضاً وَالْكُفْرَ مَحْضاً وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَيُلْهَى عَنْهُ) (5).
فالرواية المباركة تقسم الناس الى ثلاثة أصناف:
الأول: من مَحِضَ الايمان محضا، وهو الذي خَلص ايمانه عن دنس الكفر.
الثاني: من مَحِضَ الكفر محضا، وهو الذي خلص كفره عن نور الايمان.
الثالث: ما بين الصنفين.
والمراد بالمحض في الصنفين الأولين هو الخلوص والصفاء، فمن مَحِضَ الايمان أي من كان ايمانه خالصا لم ينكر شيئا مما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالإيمان ههنا -بمقتضى المقابلة مع الكفر- هو المسلّم لله تسليما في كل اعتقاداته وأعماله، إما بأن يكون عالما بالحقّ من المعتقدات فيسلّم بها عن علم ودراية، وإما بأن يكون جاهلا ببعضها بنحو لا يكون جهلهُ مؤثرًا في إيمانه كالجهل بتفاصيل بعض الاعتقادات إلا أنه عَقدَ العزم على الإيمان بكلّ ما صحّ عن النبي وآله صلوات الله وسلامه عليهم وما جاء عنهم، وأما الذي مَحِضَ الكفر محضا فهو على خلاف ذلك.
والذي تشير له هذه الرواية الصحيحة وغيرها من الصحاح المتضمنة نفس المضمون بأن المسؤول في القبر هما الصنفان الأولان الممحضّان في الإيمان والكفر فقط، وأما الصنف الثالث وهم الملهى عنهم فهم الذين لا يلتفت إليهم ويكون أمرهم متروكا ومعرضا عنهم فلا يكون لهم نعيم ولا عقاب الى أن تقوم الساعة (6) وقد ورد الخبر عن صادق أهل البيت عليهم السلام في شأنهم (يلهى واللَّه عنهم ما يعبأ بهم) والظاهر أن ذلك يكون بأحد أمرين:
الأول: اللهو عنهم ببقائهم نيام وعدم مجازاتهم بشيء في البرزخ حتى تقوم القيامة فيجازى كلٌ بعمله وقد ورد هذا المعنى في بعض الأخبار.
الثاني: أن يكون الإلهاء بإفنائهم وزوالهم ثم إعادة خلقهم مرة أخرى في اليوم المعلوم.
وهذه الفئة من الملهى عنهم هي فئة من لم يتمحضّوا في الايمان ولا في الكفر كالمستضعفين من المؤمنين -كما هو رأي الشيخ المجلسي قدس(7)- الذين لجهلهم بالمعتقدات الحقة وعدم عقد القلب على التسليم التامّ بها لم يتمحضّ إيمانهم لإضرار جهلهم بإيمانهم أو المستضعفين من المسلمين عموما أو المنكرين للمعتقدات الحقة المضرة بالإيمان في الجملة فلم يستكمل إيمانهم.
وإن من يعذب أو ينعم له نحو من الإدراك والمعرفة بنعيمه وعذابه وهو حيٌ عند حصولهما ولكن الحياة تختلف عن حياة الإنسان في الدنيا فالحياة لها معان ٍفالحيوان له نحو من الحياة والنبات له أيضا نحو أخر من الحياة كما أن الأرض لها نحو من الحياة ولو بأهلها وعمارتها، فكل شيء له حياة وموت بحسبه، فالميت له حياة لا كحياة الدينا بل حياة تنسجم مع المعرفة والادراك بنعيمه وعذابه وذلك ببقاء روحه التي هي حقيقة إنسانيته وإلا فالجسد ما هو الا قالب يحمل الانسان ويتحرك بإرادة من له الإرادة، وحياته في القبر أبلغ من حياته في الدينا وبها ينعم أو يعذب، كما أن الحياة في الجنة نحو أخر من الحيوان لا كحياة الدنيا التي يكون فيها الإنسان متأثرا كونا وفسادا، بل لو كان في الأخرة كونٌ وفسادٌ فهو ليس من كون وفساد الدينا.

النقطة الثالثة: في مدة العذاب:
ورد بسند معتبر في الكافي عن زرارة قال قلت لأبي جعفر عليه السلام:
(أرَأَيْتَ الْمَيِّتَ إِذَا مَاتَ لِمَ تُجْعَلُ مَعَه الْجَرِيدَةُ قَالَ يَتَجَافَى عَنْه الْعَذَابُ والْحِسَابُ مَا دَامَ الْعُودُ رَطْباً قَالَ والْعَذَابُ كُلُّه فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ قَدْرَ مَا يُدْخَلُ الْقَبْرَ ويَرْجِعُ الْقَوْمُ وإِنَّمَا جُعِلَتِ السَّعَفَتَانِ لِذَلِكَ فَلَا يُصِيبُه عَذَابٌ ولَا حِسَابٌ بَعْدَ جُفُوفِهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّه) (8) والرواية صريحة في أن وضع الجريدتين علة لارتفاع الحساب والعذاب حتى بعد جفوفهما، ولكن الرواية بحسب المتفاهم منها تشير إلى أن العذاب له مدة معينة وهي مدة قصيرة محددة بقدر ما يُوضع الميتُ في قبره وينصرف عنه الناس، وهذا المعنى يتعارض مع قوله تعالى (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) التي تفيد بأن العذاب مستمرٌ غدوًا وعشيًا الى يوم القيامة فإذا قامت القيامة قيل أدخلوهم النار، فكيف يقول الإمام عليه السلام في الرواية بأن العذاب مدته قصيرة بل وهناك من الأسباب ما يرفع العذاب كوضع الجريدتين، أفهل لو وضع على قبر آل فرعون جريدا يرتفع عنهم العذاب؟
إذن بدوا يوجد بين الرواية والآية تناف ما ومن ههنا يمكن تفسير الرواية بعدةٍ من التفسيرات نذكر منها تفسيرين:
التفسير الأول:
أن الروايات -كما تقدم- قسمت الناس باعتبار الحساب والعذاب الى ثلاثة وهم: من محض الايمان محضا، ومن محض الكفر محضا، وثالث يلهى عنهم، أما الذين محضوا الايمان محضا فهم الذين خلص ايمانهم وصفا، يكون صفاء ايمانهم بحسب الاعتقاد فقط وإن وقع منهم التقصير في العمل، فتقصيرهم غير مخرج لهم عن محوضة الإيمان، وبناء على ذلك فيدخل في هذا الصنف أصحاب الكبائر ممن محضوا الإيمان بحسب الاعتقاد مع عدم استحلال المعاصي، فيكون المقصود في قول الإمام (والْعَذَابُ كُلُّه فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ قَدْرَ مَا يُدْخَلُ الْقَبْرَ ويَرْجِعُ الْقَوْمُ) هو خصوص الميت الذي يكون ممّن محض الإيمان محضا ويكون أيضا مستحقا للعذاب، فإن هؤلاء المؤمنين يحاسبون في القبر مدة قصيرة جدا والمستحق منهم يعذب عذابا لا تطول مدته ثم يساق الى النعيم، وليست بصدد بيان حساب وعذاب الصنفين الأخرين ممن محض الكفر محضا والملهى عنهم، فيرتفع التنافي بين الآية والرواية.
 فالآية لما ذكرت بأن العذاب مستمر الى يوم القيامة إنما أرادت الذين محضوا الكفر محضا، وأما الرواية لما قالت بأن العذاب ساعة وأنه يمكن أن يرتفع ويتجافى بالجريد هو خصوص الذين محضوا الإيمان محضا وكانوا من المستحقين للعذاب، فلا تنافٍ بينهما.
التفسير الثاني:
أن الرواية لما حددت مدة العذاب بـ(يَوْمٍ وَاحِدٍ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ قَدْرَ مَا يُدْخَلُ الْقَبْرَ ويَرْجِعُ الْقَوْمُ) لا تريد بذلك تحديد المدة بزمان الدنيا، فإن الزمان مقدار وكمّ متصلٌ متصرمٌ معلولٌ لحركة الكواكب وليس في الأخرة حركة للكواكب ولا للأفلاك حتى يحصل له زمان، ولكن لما كان الناس يحسبون المدة والفترة بالزمان الدنيوي المألوفِ لديهم أراد الإمام تقريب مدة العذاب بما تألفه الأذهان وهو التحديد بالزمان، كما ورد في قوله تعالى (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) فإنه ليس المراد بأن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام من أيام الدنيا حتى يقال بأنه إذا كان قد خلق الأرض والسماء فيجب إذن أن يكون قد خلق معهما الزمان فيكون الزمان أيضا قد خلق في ستة أيام فهذا المعنى واضح البطلان، فالزمان مخلوق لله تعالى بخلقه للسماوات والأرض -سواء قلنا بأنه تعالى خلق الزمان تبعا لخلق الكواكب والأفلاك أو قلنا بأنه خلقه بالذات- وإن السموات والأرض معدودتان بالزمان لكون الزمانيات تعدّ وتُحسب بالزمان وأما الزمان نفسه فلا يَعُدّ نفسَه لعدم كون الشيء عادّا لنفسه نعم يُعدّ بجزء من نفسه ولكن لا يقال يوم من اليوم وسنة من السنة فأجزاء الزمان وهمية لا وجود لها إلا في وهم الإنسان، ولا يقال أيضا أن الله خلق الزمان في ستة أيام إذ على هذا سيسأل ويقال وهذه الستة أيام بأي زمان عُدّت فإن كانت بزمان غيرها فينقل السؤال لها ولا ينقطع، فالصحيح أن الآية أرادت تقريب المعنى بالزمان الذي يفهمه الانسان وبمعنى يألفه.
وعليه فيكون المراد من الرواية هو الإشارة الى أمرين:
الأمر الأول: أنها تريد بيان مبدأ الحساب والعذاب فقط لا مدته، ومبدؤه يكون بعد إنزال الميت في قبره، وأما تحديد المدة باليوم والساعة فهو لمجرد التقريب للأذهان وليس المراد به يوم وساعة الدنيا بل يوم وساعة الأخرة، قال تعالى (وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ) (10) وإذا كانت مدة الحساب والعذاب بحساب الأخرة لا بزمان الدينا فلا يتنافى مدلول الرواية مع الآية المباركة وينسجم المعنى حينئذ مع القول باستمرار العذاب الى يوم القيامة، فإن الرواية تفيد مبدأ الحساب والآية تفيد استمرار العذاب ولا تنافٍ بينهما إلا أن هذا وإن فسّر كيفية استمرار العذاب الى اليوم المعلوم وحساب المدة بفترات الأخرة لا بزمان الدنيا إلا أنه مع ذلك لا يُخرج المؤمن من دائرة العذاب والحساب.
فالنتيجة أن المؤمن أيضا يعذب ويكون عذابه مستمرا إلا أن وضع الجريد وكذا بعض الأعمال توجب انقطاعه وعدم استمراره، وهذا بخلافه في الكافرين الذين لا انقطاع لعذابهم، بل تكون أعمالهم موجبة لاستمرار العذاب وعدم انقطاعه، فالعذاب في المؤمن أقرب ما يكون بنحو المقتضي وفي الكافر بنحو العلية.
الأمر الثاني: الإشارة إلى أن عذاب القبر وحسابه له علة في الحدوث وعلة في البقاء:
أما علة الحدوث: فهو إنزاله في قبره ويكون سببا وعلة لبدء المسألة والعذاب.
وأما علة البقاء: فهو نفس المسألة والحساب بمعنى أن الميت إذا حدث له الحساب والعذاب ولم يمنعه مانع كان ذلك سببا في استمراره وبقاءه الى اليوم المعلوم أو بحسب ما تقتضيه أعماله، فمن الأعمال ما تقتضي الاستمرار كما في مثل أعمال آل فرعون ومن الأعمال ما لا تقتضي الاستمرار، وأما إذا عرض مانع من الموانع عن المسألة والعذاب كوضع الجريدتين فإن هذا يكون علة لارتفاعهما حدوثا وبقاء واستمرارا فلا يكون عرضة لهما ويتجافى عنه العذاب بمشيئة الله تعالى الى اليوم المعلوم.
_____________________________________________
1- الاقتصاد للشيخ الطوسي صـ13، المسلك في أصول الدين صـ138.
2- كشف المراد صـ574، وحقائق الايمان للشهيد الثاني صـ164.
3- الاعتقادات في دين الإمامية للشيخ الصدوق صـ58.
4- تصحيح اعتقادات الامامية صـ99.
5- الكافي 3235.
6- مرآة العقول 14206.
7- مرآة العقول 14207.
8- الكافي 3152.
9- سورة غافر 46.
10- سورة الحج 47.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=153213
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 03 / 19
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28