• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : ركبُ الخلود ((3)) .
                          • الكاتب : السيد محمد علي الحلو ( طاب ثراه ) .

ركبُ الخلود ((3))

وفي ليلةٍ مقمرةٍ من ليالى كربلاء، يشعُّ وجه الحسين بن علي عليهما السلام، كما يشع قمر تلك الليلة على هضاب الطف، وربایا الجموع المحدقة بمعسكره المعدود من سبعين رجلاً وأخبية النساء تختبئ في ظلام الليل وَجِلةً من مصير الغدِ المجهول.. ودويّ کدوي النحل يكسرُ صمت الحزن والذهول.. تهجداً وعبادةً وتلاوة للقرآن.. وخيام الأصحاب تشرئبُّ إلى ما ينتظرها من موعود.. 
حرکة خارج الخيام، وصوت يجلجل الفضاء الحزين، دعوة للخروج، فثمّة كلام يحتبسُ في صدر القائد وقد رمق معسكر ابن زیاد بنظرةٍ يحصي فيها أكثر من ثلاثين ألفا، شاكين بأسلحة الغدر والخذلان.. وكتبهم لم يجفّ مِدادها تستصرخه بالمجيء.. و تعزم عليه بالتعجيل.. إثنا عشر ألف كتاب يحصيها ديوان الحسين، وآخرها من شبث بن ربعي، حجار بن أبجر، یزید بن الحارث، عزرة بن قیس، عمرو بن الحجاج، محمد بن عمیر بن عطارد.. قادة جيش ابن زیاد هذه الليلة.. والبارحة يستغيثون حسيناً بالقدوم:

(أمّا بَعْدُ، فَإنَّ النّاسَ يَنْتَظرُونَكَ، لاَ رَأيَ لَهُمْ غَيْرُكَ، فَالْعَجَلَ الْعَجَلَ یا بْنَ رسُولِ اللهِ، فَقَدْ أخْضَرَ الْجَنابُ، وأيْنَعَتِ الثمارُ، وأعْشَبَتِ الأرْضُ، وأوْرَقَتِ الأشْجارُ، فَأقْدِمْ عَلَيْنا إذا شِئْتَ، فَإنَّما تَقْدُمُ على جُنْدٍ مُجَنَّدَةٍ لَكَ). 
غدرٌ، سقوط، هزيمة، خسة، رذیلةيرتكبها هؤلاء الأقزام مع مَن بايعوه وأعطوه مواثيق الفداء.. تُعساً لحظّ هؤلاء أن تمسخهم دنیاهم إلى فجرةٍ خاسئين، ينقضون الميثاق، ويفجرون العهود.. .
يستدير الحسين بوجه الحزين إلى أصحابه الأبرار بعد تأمل لم يدم طويلاً استعرض به تاريخ الأمس مع من دعوه ليخذلوه.. وقد تتام حضور أصحابه يصطفون متأهبين لأوامر قائدهم وسيّدهم، وقد أصلتوا سيوفهم تحسباً لما يأمرهم من القتال .. .
كان (حبيب) شيخ الأنصار يتعجل الحسين بأمر القتال.. فإن جنده متحفزون لأيّ نزال.. 
يأمرهم (حبيب) بالجلوس بعد ما سمع من الحسين ذلك.. يجلسون متأهبين لما سيلقيه عليهم قائدهم من خطاب: 
«إنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيرا من أصحابي، ولا أهل بيت أبر وأوصل من أهل بیتي، فجزاكم الله عني جميعاً.
ألا وأني أظن يومنا من هؤلاء غدا، وإني قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعا في حلٍ ليس عليكم مني ذمام، وهذا الليل قد غشیکم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجلٍ منکم بید رجلٍ من أهل بیتي، فجزاكم الله

جميعاً خيراً، و تفرقوا في سوادکم و مدائنکم، فإن القوم إنما يطلبوني، ولو أصابونی لذهلوا عن طلب غیری». 
كان الحسين حريصا على أصحابه بعد أن أجابوه، فإن القوم لا يطلبون غيره، فلو قتلوه انصرفوا عن غيره، فلعل من في أصحابه يكتمُ خوفه من الغد الدامي الذي تطير معه الرؤوس، وتزهق به الأرواح، ولعل حاجز الحياء يمنع أصحابه من الانصراف دون إذن سیدهم.. والحسين أسمى من أن يضن على أصحابه معرفة مصيرهم الدامي الذي ينتظرهم لتزهق أرواحهم دون علم بما سيجری صبيحة غدهم .. والحسين أكرم من أن يخفي ما يعلمه هو من مصير هذه الحرب غير المتكافئة في العِدّة والعدد، وأن لا يترك للعابثين تساؤلهم:
لِمَ لم يخبر الحسين أصحابه بما ينتظرهم من القتل والتنكيل؟ 
ولم ينتظر الأصحاب بعد سماعهم مقالة سيدهم إلا أن تتطاول أعناقهم لتدوي أصواتهم أرجاء الكون، وتجلجل هتافاتهم زوایا التاريخ، فيسبقهم شيخ القرّاء، وسيد فقهاء الكوفيّين مسلم بن عوسجة مخاطباً الحسين عليه السلام: (أنحن نُخلّي عنك ولما نعذر إلى الله تعالى في أداء حقك، أما والله ! لا أفارقك حتى أكسر في صدورهم رمحي، و أضربهم بسیفي ما ثبت قائمه بیدی، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة حتى أموت معك)، ولم يُتم كلامه حتى ينبري سعید بن عبد الله الحنفي فيهتف: 
(لانخلیك حتى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم فيك، والله! لو علمت أني أقتل، ثم أحيا، ثم أحرق، ثم أذری، يفعل بي ذلك

سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحده، ثم الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً). 
ويجيبه زهیر بن القين بمثل ذلك قائلاً: 
(والله! لوددت أني قتلت، ثم نُشرت، ثم قتلت حتى أقتل على هذه الف مرة، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك)
ولم يكن أهل بيته بأقل ثباتا، ولا رسوخاً من أنصاره غير الهاشميين، فقد تقدموه بتجديد البيعة وهم يجدون أنفسهم أوْلی بغيرهم في هذا الأمر، فلا يسبقهم سابق، ولا يلحقهم لاحق في الدفاع عن حرم سیدهم وشيخهم الحسين عليه السلام، قال العباس ممثلاً آل علي من إخوته وبني أخيه:
«لِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبدا»
ويلتفت الحسين عليه السلام إلى بني عقيل قائلاً: 
حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذِنتُ لكم»
فقالوا: (فماذا يَقُولُ الناسُ لَنا، وماذا نَقولَ لهم؟
إنا تَرَكنا شَيْخَنا وكَبيرنا وسَيِّدنا وإمامنا وابْنَ بنْت نَبيِّنا، لَمْ نَرْمِ مَعَهُ بِسَهْم، ولَمْ نَطْعَنْ مَعَهُ بِرُمْحٍ، وَلَمْ نَضْرِب مَعَهُ بِسَيْفٍ، لاَ وَالله يَا بْنَ رَسُولِ الله لا نُفارِقُكَ أبَداً، ولكِنّا نَقِيكَ بِأنْفُسِنا حتى نُقْتَل بَيْنَ يَدَيْكَ، ونَرِدَ مَوْرِدَكَ، فَقَبَّحَ اللهُ الْعَيشَ بَعْدَكَ)
هذه هي بصائر القوم، وهذا هو دينهم الذي دانوا به الله ورسوله وأهل بيته.. قد وطنوا على الموت أنفسهم، وعلى الفداء أرواحهم، فلم يرهبهم ما عاينوه من تكاثر أهل حربهم، ولم يزلزلهم ما ينظرون إليه من ازدلاف ثلاثين ألفاً أو أكثر

لفنائهم عن آخرهم .
ولم ينسَ التاريخ ما سمعه مسلم بن عقیل سفير الحسين عليه السلام من بعضهم، وهو يلقي دعوة الحسين عليهم لنصرته، والإجابة لداعيته، فيقف عابس ابن أبي شبيب الشاکري مبايعاً بقوله: 
(إني لا أخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في نفوسهم، وما أغرك منهم، ووالله ! إني أحدثك عما أنا موطّنٌ نفسي عليه، والله ! لأجيبنكم إذا دعوتم، ولأقاتل معكم عدوكم، ولأضرب بسیفي دونكم حتى ألقى الله، لا أريد بذلك إلا ما عند الله) 
ولم يفت نافع بن هلال أن يعبر عما انطوت عليه سريرته فينادي مسلماً:
(والله! ما أشفقنا من قدر الله، ولا كرهنا لقاء ربنا، إنا على نياتنا وبصائرنا نوالي مَن والاك، ونعادي مَن عاداك) 
ويتكلم أصحابه بهذا وأشباهه..
لله دركم من رجال! والله دركم من میامین أبطال !وفيتم بما عاهدتم الله عليه، وصبرتم فنعم عقبى الدار.

_________________
كتاب: انصار الحسين عليه السلام
العلامة السيد محمد علي الحلو (طاب ثراه)




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=137498
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 09 / 04
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 20