• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الكوارث الطبيعية والسياسية؟! .
                          • الكاتب : د . صادق السامرائي .

الكوارث الطبيعية والسياسية؟!

يبدو أن هناك علاقة خفية ما بين الكوارث الطبيعية والسياسية , فكلما إزدادت الكوارث الطبيعية في بلد ما قلت الكوارث السياسية  ,  ومَن يتأمل بلدا كالعراق يجد أنه يخلو من كوارث الطبيعة لكنه يرزح تحت ويلات الكوارث السياسية.

ففي النصف الأول من القرن العشرين كان النهران دجلة والفرات يفيضان كل ربيع ويغرقان الأراضي , ويهددان الحياة خصوصا في الوسط والجنوب  ,  فكان الناس في صراع مع هذه الكارثة السنوية التي تحل بهم , لكن وضعهم السياسي والمجتمعي كان مستقرا وهم أقرب إلى بعضهم البعض في كل شيئ.

وقد تم السيطرة على الفيضان في النصف الثاني من القرن العشرين وخصوصا في نهاية فترة الخمسينيات التي شهدت آخر الفيضانات الكبيرة , فأعقبتها كوارث سياسية طاحنة لم تهدأ حتى يومنا الحاضر, حيث دخل الوطن في صراعات دامية وحروب مدمرة منذ آخر فيضان وحتى اليوم.

قد يستغرب البعض من هذا الربط ما بين الحالتين , لكن واقع الحياة من حولنا يشير إلى أن الأمم التي تتعرض لكوارث الطبيعية هي أكثر إستقرارا من التي لا يصيبها الكثير منها.

فالعالم الغربي هو أكثر منا عرضة للأعاصير والعواصف الشديدة والهزات الأرضية المتلاحقة , وهو أكثر إستقرارا وقوة وتقدما من غيره.

بينما في منطقتنا لا نعرف الأعاصير والعواصف الثلجية والمطرية الشديدة , ولم تحصل هزة أرضية أو يكون للطبيعة شأن في التحدي والبقاء , وبسبب ذلك فقدنا مهارات الصراع مع الطبيعة وإبتكار وسائل البقاء والقوة والصمود.

ووجدتنا من أكثر شعوب الأرض خبرة في مهارات الصراع فيما بيننا , وتحقيق أعلى درجات الكفاءة في أساليب الإنقراض والضعف والضياع والرحيل.

إن الصراع مع الطبيعة يوحّد البشر ويجعلهم قريبين إلى بعضهم , ويمنحهم الشعور بأنهم بحاجة إلى وجودهم وفعلهم الجماعي الذي يحقق مصلحتهم , ووفقا لهذه الحاجة الغريزية تم بناء المجتمعات , والإنتقال من حياة الكهوف إلى القرية والمدينة والدولة.

إنه ذلك الحس الجماعي الذي أوجدته الكوارث الأرضية , وجعلت الفرد البشري يقف أمام نفسه ويرى ضعفه وقلة حيلته لوحده , فدفعته قوة البقاء وحب الحياة إلى أن يكون مع الآخرين من بني جنسه لكي يتمتع بالحياة ويتواصل عبر الأجيال.

فالكوارث الطبيعية تمنح الناس الإحساس بمساعدة الآخرين والإهتمام ببعضهم وتشعرهم بمعاني الحياة , فترى الناس في بلدان الكوارث أكثر تبرعا وعطاءا ومساهمة في المشروعات الخيرية والإنسانية المتنوعة.

وفي بلادنا كان النهران مصدرا لتحدي الطبيعة وتوحيد الناس ولمّ شملهم وتفاعل رؤاهم وتصوراتهم , من أجل أن تتحقق المواجهة الجماعية مع النهرين العظيمين دجلة والفرات.

وبعد أن تم أسرهما بالسدود وقلة المياه , فقد المجتمع أهم سبب للوحدة الوطنية والقوة الجماعية, وفعلت بهم عواصف الكراسي وأعاصير الإنقلابات وزلازل الحروب ما فعلت , فجعلتهم شذرا مذرا , وناثرتهم في أصقاع الأرض البعيدة وقلوبهم تنزف حبا لوطنهم.

إن الكوارث الطبيعية أكثر رحمة من الكوارث السياسية , لأنها تأتي بقوة ولوقت قصير , فتوقظ الناس من غفوتهم وجهلهم وغفلتهم , وتمدهم بقدرات الوعي الجديد اللازم لإتخاذ التدابير الضرورية للتقدم والبقاء الأفضل.

بينما الكوارث السياسية من الأمراض الخبيثة التي تمتد في المجتمع وتقضي عليه وتدمر أسباب قوته ووحدته , وتقتلع جذور قدرته على النمو الجماعي السعيد.

فهي تزرع بذور الفرقة وتمنح الكرسي قيمة أكبر من الوطن , وتسحق قيمة الإنسان وتحوله إلى رقم على يسار كرسي أثيم.

إن الكوارث السياسية سيئة رغم شعاراتها المضللة , لأن الخطر القائم فيها هو البشر ونوازع نفسه الأمارة بالسوء والشرر.

والكوارث الطبيعية حميدة رغم أضرارها الكبيرة , فالخطر فيها هي الطبيعة التي تحنو علينا وتمدنا بأسباب الحياة , وكأنها تريد أن تهذب سلوكنا وتؤدبنا فتغضب علينا بين الحين والآخر. ويبدو أن الناس عندنا قد تعودوا وعبر الأجيال على الاستعداد لكوارث الربيع الفيضانية التي تضرهم وتنفعهم , لأنها تمدهم بالأرض الرسوبية ذات القدرة العالية على الإخصاب والعطاء الزراعي الوفير وبنوعيات جيدة ومتميزة ونادرة.

وبغياب هذا الإيقاع الطبيعي مع الحياة على مدى عقود , أصابهم نوع من الإضطراب والتشوش في السلوك أدى بهم إلى الإمعان في تحقيق الكوارث السياسية المتلاحقة وبلا إنقطاع أو هدوء. ولازلنا نعيش أعظم كارثة سياسية لحقت بالعراق منذ تأسيس دولته في مطلع القرن العشرين. ولو خيرنا العراقيين بين كوارث الكراسي والأحزاب والإنقلابات وكوارث الفيضان لإختاروا الأخيرة , لأنها أرحم وأقل ضررا وأكثر منفعة من كوارث البهتان والخداع والتبعية والتضليل والتدمير المبين.

 

"إذا رُجّت الأرض رجا"  4, الواقعة

أللهم أخرج الناس من غفلتها وإجعلها أمة واحدة بقلبٍ إنساني رحيم!!

فهل ستوقظنا الهزة الأرضية وتُذكّرنا بوحدة المصير؟!!

 

*هذا المقال منشور في 2892008




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=109669
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 11 / 13
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29