صفحة الكاتب : د . عبير يحيي

" صدق أبي الله يرحمه لما قال عن أبيه عن جده عن عنعنات كتيرة ( بتموز بتغلي المي بالكوز )"
تمتمت وهي تستدير لتجتاز ثانية تلك الموجة العريضة، التي دخلتها برشاقة سمكة صغيرة ، وخرجت منها بتثاقل حوت ، مولية ظهرها للكوّة التي اعتلتها لوحة كرتونية مصفرّة مهلهلة كُتب عليها عبارة ( المعاشات ) لا تدري لماذا كلّما رأتها تتساءل بينها وبين نفسها " مين أقنع اللي كتبها أنه خطُّه حلو ؟ "
ترفع يدها حاملة ورقات نقدية معدودة، - وكأنها تخشى عليها من البلل أو الغرق - راتبها التقاعدي الذي قدّرته لجنة المعاشات ، والذي يكفل لمن يحوزه العيش بكرامة لأيام قليلة من الشهر،  وقد  أقرّته الدساتير والقوانين الخاصة بمديريات الشؤون الاجتماعية والعمل ، معتمدة على نظريات علم الإحصاء الذي يعمل على تنظيم اقتصاد وميزانية الدولة والمواطنين، سن الستين هو السيف الذي يشطر راتب من بلغه من الموظفين إلى شطرين، أحدهما أُلغي بكل ما كان عليه من متغيرات- هي لا تعرف مسمياتها الإدارية تماماً -رغم أنها عاشت معها أكثر من نصف عمرها، لم يشغلها الأمر كما كان يشغل زميلاتها، كان يكفيها أن تدرك أنها بين علاوة و غرامة وتأمينات...
خلَّصت نفسها من موجة الأجساد البشرية  تلك، وقد زخمت أنفها رائحة عرق السنوات الهرمة التي نضحت بها تلك الأجساد، لتجد مساماتها ينابيع لعرق  لم تفلح ثيابها -رغم أنها على طبقات - باحتجازها، بل تفشّت على شكل بقع عشوائية بشعة أفسدت أناقتها ...
غادرت المبنى، لتعتبر نفسها سعيدة الحظ بلُقيا سيارة تاكسي واقفة عند البوابة، فتحت بابها وانزلقت إلى داخلها، قائلة بصوت مقتضب :
-" كفر سوسة إذا بتريد ".
يدير السّائق رأسه إليها، قسمات شاب في نهاية الثلاثينات، الواضح أنه نزق ، ألقى إليها نظرة فاحصة،  ثم أعاد وجهه إلى الأمام ليقول بلهجة قاطعة :
-" ٥٠٠ ليرة ".
تشهق شهقة لا تكاد تتمها ...ليعترضها مساوماً :
-" آخذك من طريق ما فيه حواجز ".
تحسبها بمحاكاة عقلية بسيطة ، هو جشع ومستغل هذا لا يختلف عليه اثنان، وهل  بقي في هذا البلد مكاناً لمنطق أو تراحم؟  يجب أن تكون في البيت حوالي الساعة الرابعة عصراً، حتى تكون بمأمن نسبياً ، فالمدينة ليست آمنة من قبل الغروب بفترة، والساعة الآن الثانية والنصف ظهراً، ومع وجود الحواجز لن تصل البيت قبل الخامسة، إن غادرت هذه التاكسي قد يستغرقها الحصول على أخرى وقتاً، لذا الحكمة تقتضي أن تقبل بعرض قليل اللباقة هذا، نطقت باستسلام :
-" امشي أخي ، اتفقنا".
وحوقلت في سرها واحتسبت ...
انطلقت السّيارة ، وأطلقت هي العنان لخواطرها، خلا بيتها إلا من زوجها الطيب الذي بات قطعة أثاث متحركة بين أرجاء البيت ، لا يغادره إلا  لَمَماً، لجلب الحاجيات الضرورية، هاجر كل أولادهم المتزوجين منهم والعازبين، تسيّد الصّمت المنزل ، لا يسقطه عن عرشه إلا صخب فرح عابر بسماع صوت الغيّاب عبر ( النت) عندما تمنّ عليهم الكهرباء بالحضور ...
تنتبه أن السّائق يمر بها بطرقات لا تعرفها، عندما تتساءل يجيبها أنه طريق خالٍ من الحواجز، يعرفه هو ...
لكنها تنظر ، وتدرك أنها في طريق تعرفه الآن ، تعرفه حق المعرفة ...! طريق الغوطة ...!
يغادر الدم كل أرجاء جسمها ليتجمّع في حنجرتها، تفجّره سيلاً على لسانها الذي يتحرّك بكلمات تشبه كرسياً مدولباً يدفعه مشلول يبغي الخروج من سجن شفاه فُتِحَت قسراً لدقائق معدودة :
-" الله يخليك لا تأذيني ! خود المصاري واتركني ... أنا بعمر أمّك 
الله يستر على حريماتك ".
وبصوت حاول أن يجعله هادئاً، ولكنه لم يخلُ من النذالة يجيبها :
-" اسكتي ... ما رح ضرّكِ ، بس اسكتي "
توقّف أمام باب دار منعزل، التفت إليها، أشار لها بالنزول، لم تستطع أن تحرك أي من مفاصلها، نزل واستدار، وفتح باب السّيارة ، سحبها، لتسقط على عتبة باب الدار ، فتحه وأدخلها حملاً، وألقاها في فناء الدار الذي عاث فيه الخراب، ينفتح عليه أبواب حجيرات، شرع في فتحها باباً باباً ، لينكشف وراء كل باب فوضى عارمة ...! وكأن حرباً طويلة حامية الوطيس قد جالت وصالت حتى انتهى الأمر إلى  هذا الحال المريع ...! و أخيراً فتح باب غرفة -حزرت أنها مطبخ - دَلَّها عليه مواعين قذرة تعالت فوق بعضها حتى بلغت عنان السّقف، عاد إليها، رفعها عن الأرض، وقفت تتمتم بالشهادة، نفض التراب عن ثيابها، وعدّل غطاء رأسها، أشار إشارة دائرية مسح فيها كل أرجاء الدار، وبصوت هادئ لا نخطئ تمييز النذالة فيه قال :
-" ما بدي منك شي، لا مصاري ولا شي، وما بدي آذيكي ، وعيب أنا عندي حريمات وبعرف أديش العرض غالي، ومعاذ الله أعتدي عليكي ، بس بدي منك تنضفي البيت... وأنا بعيوني برجعك لبيتك لما تخلصي تنضيف وتوضيب ....!"


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . عبير يحيي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/07/01



كتابة تعليق لموضوع : الصفعة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net