صفحة الكاتب : د . حسن خليل حسن

الجغرافيا ...  العِلمُ الضائِع..؟ 
د . حسن خليل حسن

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

(ان تكُن منطفئاً خيرٌ لك من ان تكون بضياءٍ خافت..!) (مثل جغرافي).
يُدرك خريجو اقسام الجغرافيا في العراق والجغرافيون العرب بشكل عام معنى هذا المثل الذي يحكي مدى المحنة التي تنتظرهم بعد ان تنطوي سنوات دراستهم الجامعة الاولية او العليا، مشكلة ترويها اجيال من المتخصصين بهذا الفرع الذي يعد اقدم  المعارف الانسانية ان لم يكن الاقدم على الاطلاق، فقد اسس له جهابذته من البابليين والآشوريين والمصريين والإغريق، وبالرغم من ذلك فلم  يعرف معنى الجغرافيا بالدقة الا القليل من خارج دائرتها المعتمة، ذلك العلم الذي يدرس سطح الارض وما عليه من ظاهرات طبيعية وبشرية والعلاقة بينهما من حيث تأثير كل منهما في الاخر، وهذا محتوى كبير ومجال متغير باستمرار لأنه يمثل جميع الخصائص الموقعية والزمنية المعروفة حول اية منطقة وهذا هو  قلب المعرفة الكونية، وهو حقل تخصصي لا يشبه حقل اخر ، كما انه اوسع مجال ذو نسق ملتئم يمكن ان يشغله علم ما يجمع بين التغيير والتفاعل والتوزيع والتنظيم والادراك الاستقصائي.
  وبالرغم من هذه الحدود الواسعة المرنة لعلم الجغرافيا لم تتضح ملامحه بشكل تام لحد اللحظة، وربما المشكلة الاكبر هي ما يتعلق بموقع علم الجغرافيا بين العلوم الصرفة او العلوم الطبيعية بشكل عام، وقد يتصور البعض أن هنالك مبالغة في دعوى الجغرافيين بالتيه بين الاختصاصات الاخرى، وهذه معضلة أخرى، وهنا اكرر ما ذكرته قبل عامين في مقالة عنوانها (نحو تأصيل البحث العلمي الجغرافي) بان علم الجغرافيا يسير بُخطى بحثية تماثل اقرانه في مجالات العلوم التطبيقية الأخرى الامر الذي جعل البحوث الجغرافية المعاصرة تتسم بمنهجية اكثر علمية في تفسيرها للظواهر والابتعاد نهائياً عن الوصف والتفسير التلقائي، وأصبح الجغرافي يهتم بتدعيم نتائجه وترصينها بما يسجله بواسطة الاجهزة العلمية المتخصصة في مجال بحثه، تلك العملية جعلت من قياس الظاهرة وتوثيق تباينها الزماني والمكاني اداة تحاكي الواقع بعد ان كانت تعتمد على توصيفه باعتماد نتائج الغير... لكن (عراقياً) لا زال البعض يتوهم ان الجغرافيا تُعد تطفلاً على الاختصاصات الاخرى من حيث النتائج العلمية التي تعلل وتفسر الواقع المرصود حقلياً ومختبرياً.
وتعزز حكاية ثلاثة من أفذاذ قسم الجغرافية الطبيعية في  جامعة البصرة تلك القضية، فقبل  16 عشر عاما مضت، تخرجوا الثلاثة من الدراسات العليا بمراتب مشرّفة، ولم يُقّدر لهم أن يبقوا في اقسامهم الأم لظروف (عراقية خالصة!)، مما اضطرهم الى التوجه الى ميادين اكاديمية ومهنية مختلفة، اذ توجه احدهم الى مركز للأبحاث العلمية الصرفة وآخر الى قسم علمي في كلية عريقة، وثالث الى مؤسسة حكومية إنتاجية معروفة، كان القاسم المشترك بين الثلاثة انهم يمتلكون مرونة التفكير وقدرة المناورة العلمية والموهبة الفطرية فكان ان تميز اولهم كباحث علمي في تخصص جديد، حتى اضحى احد الاعمدة الرئيسة في ذلك المركز العلمي المعروف عالمياً، بل انه نال جوائز مميزة كدرع التميز الجامعي على مستوى المركز الذي يضم اكثر من 130 باحثاً في مختلف العلوم الصرفة، كما شغل عضوية عدد من اللجان الاساسية المهمة كالترقيات العلمية ولجان استشارية وعلمية اخرى على المستوين الوطني والاكاديمي،  فضلاً عن تسنّمه لمواقع ادارية وعلمية مميزة يحسده عليها الزملاء من الاختصاصات العلمية الخالصة، ناهيك عن دوره الاستشاري المحوري في المشاريع التعاقدية لصالح القطاعين الحكومي والخاص والبحوث العلمية التي تصدّر فيها ترتيب العاملين . وبالنسبة الى الجغرافي الثاني فقد التحق بقسم علمي تابع لكلية علمية عريقة وقد  تبلورت شخصيته العلمية الفذة في وقت قياسي، واصبح الجهة الاهم التي يلجاً أليها زملاءه في اختصاصاتهم القريبة فضلاً عن نجاحات متلاحقة في مجالات التدريس والاشراف والمناقشات حتى اضحى الاستاذ الابرز في قسمه العلمي.
 اما الجغرافي الثالث فقد  التحق بصفوف العمل الحكومي الانتاجي، و برز بشكل مُلفت وامتلك مقومات الشخصية الناهضة وكانت المحصلة ان حصل على منصب مدير عام في الوظيفة الحكومية التي تدر أرباحا طائلة على البلد.
 ربما تلك الشخصيات الثلاث تمتلك التميز والاستثنائية والمثابرة على ما يبدو وهو سر النجاح والتفوق، لكن الغريب ان الثلاثة كانوا يعانون من مشكلة واحدة أنهم (غير معرّفين علمياً ) لكونهم ينتمون الى اقسام  الجغرافيا التي لم تزل غير معرّفة علميا أو قل انها غير معرّفة ضمن مجموعة العلوم من الناحية الواقعية، ذلك ان الجغرافيا لم تحجز مقعدا في منصات العلوم واكتفت بأن تكون معرفة وسطية تحاول الربط  من أكثر من علم واحد حتى ضعُفت اطرافها فتاهت في زحمة العلوم المتنامية سريعاً.
الواقع أن الجغرافيون ككل يعانون من صعوبة القبول المطلق بأنهم أكاديميون علميون في تخصص له أسس ومناهج يمكن أن تحجز مكاناً متميزاً كباقي العلوم الطبيعية التي تحررت واصبحت كياناً مستقيلاً . وليس المقصود برغبة الجغرافيين بإثبات كينونيتهم هو ترفعهم عن العلوم الانسانية للارتقاء الى مصاف العلوم الاخرى، بل هو ضرورة أن تمتلك الجغرافيا الطبيعية مرفأ دائم يكون مستقراً لها في مستقبل الايام ، وهنالك خطوات جغرافية ناهضة في مجال الاتساق مع العلوم الاخرى عن طريق فتح المختبرات والتدريب العلمي والاستفادة من خبرات الاشراف العلمي في تخصصات علمية، والاستفادة من الجهود المميزة لبعض الجغرافيين المُلهمين الذين شقوا طريقهم العلمي بأناملهم الغضة حتى بلغوا مواقع مرموقة بين العلوم الاخرى.
ولاستثمار الحاضر الجغرافي المشرق في مستقبل علم الجغرافيا أجد لزاماً تأسيس كلية علوم الجغرافيا في كل جامعة عراقية تجمع اقسام الجغرافيا في الكليات يجري تقسيمها الى ثلاثة اقسام : 
1-  قسم الجغرافيا التطبيقية وتشمل العلوم النظرية والعلمية ذات الاهمية العلمية كالتقنيات الحاسوبية والاحصائية والتطويرية في مجالات الاستزراع والتصنيع والتخطيط الحضري.
2-  قسم الجغرافيا الطبيعية ويهتم بالعلوم ذات التخصص البيئي العام كالمناخ والجيمورفولوجيا والموارد الطبيعية والمياه السطحية والبحار والمحيطات والتلوث بأنواعه.
3- قسم الجغرافيا البشرية ويشمل باقي تخصصات الجغرافية كالمدن والسكان والنقل  وغيرها.
ووفقا لهذا التقسيم فان قسْمين كبيرين من الجغرافيا هما (الجغرافيا التطبيقية والجغرافيا الطبيعية ) سوف تتضح مفردات مناهجهما بالاتجاه العلمي دون التخبط بمجالات علمية وانسانية متداخلة.
 أن هذا التقسيم سوف يمكّن الجغرافيين من  ايجاد ضالتهم في التخصص الدقيق في كل مجال من مجالات الجغرافيا الواسعة، كما أنه يجعل لكل قسم فروع أخرى، حيث ان التخصص في المجالات الجغرافية هو الحل الامثل لرسم ملامح هذا العلم ليكون كياناً مستقلاً وعلماً طبيعياً مقبولاّ، وفي حال تعذّر انشاء كلية العلوم الجغرافيّة فهذا لن يؤثر كثيرا، اذ  يمكن استحداث (فروع تخصصية) للجغرافيا التطبيقية والطبيعية لعدد من طلبة الجغرافيا خلال المرحلتين الثالثة والرابعة ورفد تلك الفروع بمختبرات لتطوير قدراتهم في التخصصات العلمية، وهذا سوف يمنحهم الشخصية العلمية المقتدرة على اقناع الوسط الاكاديمي بثقل علم الجغرافيا ومجاله الخاص، للحد من تيه الجغرافيا بين العلوم الأخرى. 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . حسن خليل حسن
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/06/17



كتابة تعليق لموضوع : الجغرافيا ...  العِلمُ الضائِع..؟ 
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net