صفحة الكاتب : صدى النجف

نقد نظرية التطور – الحلقة 2 – توضيح النظرية من جهة توقفها على الطفرة الجينية وانقسامها الى التطور الكبير والتطور الصغير والفرق بينهما : اية الله السيد محمد باقر السيستاني حفظه الله
صدى النجف

المقدّمة الثالثة لتحقيق نظريّة التطوّر : في توضيحها .
إنّ مضمون هذه النظريّة - على الإجمال – (1) : أنّ الحياة قد تطوّرت على الأرض تدريجيّاً من نوع بدائيّ واحد ربّما جزيء ناسخ لنفسه والذي عاش أكثر من (3، 5) مليار سنة مضت، ثمّ تفرّع خلال الزمن، منتجاً أنواعاً متنوّعةً وجديدةً كثيرة، وآلية معظم التغيّر التطوّريّ (2) هي الانتخاب الطبيعيّ، وهذا التطوّر الكبير إنّما حدث بالتدريج في فترة طويلة من خلال مئات أو آلاف بل ملايين الأجيال.
ويعبَّر عن هذه النظريّة : طوراً بالتطوّر الأحيائيّ وطوراً بالانتخاب الطبيعيّ وطوراً ثالثاً بالتطوّر من خلال الانتخاب الطبيعيّ.
وينبغي مزيد توضيح هذه النظريّة بذكر أجزاء هذه النظريّة وتطوّر تقريرها بعد داروين وبيان مثالٍ لها.
اشتمال النظريّة على جزأين منفصلين: حدوث التطوّر، وبقاء بعض الأنواع دون بعض بالانتخاب الطبيعيّ

من أمثلة الانتخاب الطبيعي :
رسم داروين التوضيحي لاختلاف أشكال 
مناقيرالشرشوريات التي تعيش في جزر غالاباغوس، والتي تتضمن ثلاثة عشر نوعاً على درجة كبيرة من  القرابة، ويختلفون فيما بينهم اختلافاً واضحاً من حيث أشكال مناقيرهم. المنقار الخاص بكل نوع متكيف على الغذاء المفضل لديه، مما يشير  إلى أنَّ أشكال المناقير تطورت بفعل 
الإصطفاء الطبيعي.
أولا : أنّ من الممكن القول بأنّ هذه النظريّة تحتوي على جزأين منفصلين ومستقلّين :
1- حدوث التنوّع في الكائنات الحيّة؛ بمعنى: حدوث أنواع جديدة ذات صفات وإمكانات مختلفة عن الكائن الأوّل تساعد الكائن على البقاء، وهذا الجزء هو الذي ينبغي أن نصفه بالتطوّر؛ لأنّه يوجب حدوث طور آخر.
والموجب لحدوث التطوّر هو الضغوط التي يواجهها الكائن الحيّ في بيئته ممّا يؤدّي إلى حركته في اتّجاه التكيّف مع تلك البيئة، فيكتسب إمكانات جديدة جسديّة وفسيولوجيّة وسلوكيّة، يؤدّي إلى تقدّمه في سلّم التطوّر تدريجاً حتّى تتباعد النماذج المشتركة في الأصل وتكوّن أنواعاً لنفسها.
2- بقاء بعض الأنواع على قيد الحياة دون بعض، وهذا ما ينبغي أن يسمّى بالانتخاب الطبيعيّ بالنظر إلى أنّ ظروف الحياة تسمح ببقاء بعض الأنواع، وهو ما استطاع من التكيّف مع البيئة بنحو أفضل، بينما ينقرض بعضها الآخر، وهو ما لم يستطع التكيّف معه فانقرض في تلك البيئة القاسية التي عاش فيها. ويمكن أن نعبّر عنه بالتطوّر أيضاً بالنظر إلى تغيّر واقع ما هو موجود على الأرض تدريجاً بغياب بعض الأنواع وبقاء بعضها الآخر.
ويلاحَظ: أنّ هذا الجزء من النظريّة ضروريّ فيها وذلك :
1- لأنّه يساعد على تحقّق التنوّع من خلال التطوّر لأنّه ينتج تراكم التطوّرات في كائن واحد، فيؤدّي إلى حدوث كائن مباين مع الكائن الأوّل.
2- أنّه يدفع عن التطوّر استبعاداً أوّليّاً واضحاً، وهو أنّ لازم التطوّر وجود حلقات متسلسلة منتظمة منذ الكائنات البدائيّة إلى الكائنات النهائيّة وهو ما لا نجده خارجاً؛ بل الواقع في الخارج في حالات كثيرة وجود كائنات حيّة متباعدة، فكان هناك حاجة في رفع هذا الإشكال بطرح أنّ العوامل الطبيعيّة هي التي أبقت قسماً من الكائنات الحيّة وأفنت قسماً آخر لكون القسم الأوّل أكثر تكيّفاً مع الطبيعة من القسم الآخر.
سبب حدوث التطوّر هو الطفرة الجينيّة
ثانيا : لقد كان التقرير الأوّل لنظريّة التطوّر عند نشأتها لدى داروين خالياً عن بيان الأساس المادّيّ الداخليّ للتطوّر في الكائن الحيّ وهو الجزء الأوّل من النظريّة ، من جهة عدم تبيّن الواقع المادّيّ للحياة؛ إذ لم يكن قد نشأ علم الأحياء الجينيّ بعد، ولم يتم اكتشاف اعتماد الحياة على الحمض النوويّ والريبيّ في الخليّة الحيّة.
وبعد نشأة هذا العلم تبيّن أنّه لابدّ في تطوّر الكائن من تغيّر في أصغر وحدة حيويّة وهي الخليّة من خلال طفرة في الجينات المكوّنة لها.
بيان ذلك : أنّه قد تبيّن في العصر الحديث أنّ الكائنات الحيّة كلّها رغم التفاوت الفاحش بينها إلّا أنّه ليس هناك فارق جوهريّ بينها في نشأتها، فهذه الكائنات كلّها تتألّف من حروف أربعة جينيّة متكرّرة تختلف تراكيبها بحسبها، حيث تولّد وجوه التركيب بينها وعدد الحروف المكوّنة لها ملايين الحالات المحتملة وتمثّل الكائنات الحيّة الموجودة كلّها جملة من تلك الحالات.
ومن ثَمّ يصحّ القول إنّ مَثَل الحروف الجينيّة المكوّنة للكائنات الحيّة مَثَل الجُمل المتعدّدة في اللغة، حيث أنّ جميع تلك الجُمل تتألّف من حروف معدودة؛ ولكن تختلف تلك الجمل في معانيها في أثر اختلاف في ترتيب تلك الحروف.
ويمكن تشبيهها أيضاً بالأبنية المختلفة، حيث أنّ تلك الأبنية تتألّف من موادّ محدّدة للبناء، إلّا أنّها تختلف بين دار ومدرسة ومستشفى ومصنع وسوق وغير ذلك في أثر اختلاف في كيفيّة وضع تلك الموادّ؛ فالكائنات الحيّة هي على نفس المنوال، فهي جميعاً تتألّف من حروف جينيّة أربعة ذات ترتيبات مختلفة بحسبها مرتبطة فيما بينها بروابط هيدروجينيّة ينشأ عن نموّ كلّ مجموعة متّسقة منها كائن خاصّ.
وعلى ضوء هذه المعلومات تبيّن أنّ حدوث تطوّر في الكائن الحيّ يتوقّف على حدوث تغييرات جينيّة في الخلايا الجنسيّة للكائن الحيوانيّ مثلا بحذف جين أو زيادته أو استبداله أو تغيّر موضعه وهي ما يُعبَّر عنها بالطفرة الجينيّة، وذلك لكي يولّد نموّ تلك الجينات كائناً مختلفاً.
ولكن مع ذلك لم يؤدّ هذا الاكتشاف إلى تفنيد نظريّة التطوّر بالنظر إلى ما تبيّن من أنّ وقوع الطفرة في الجينات أمر جائز وواقع على الإجمال ، فهي على سبيل المثال تفسِّر التباين في ألوان عيون البشر، وفصائل الدماء، والكثير من تبايننا وتباين الأنواع الأخرى في الطول والوزن والكيمياء الحيويّة وصفات أخرى لا تحصى.
وبناءً على ذلك: حدث تقرير جديد لجزء التطوّر في هذه النظريّة، وقيل : إنّ معنى التطوّر الأحيائيّ أن يتعرّض الكائن لتغيّرات جينيّة عبر العوامل البيئيّة التي تتعرّض له عبر الزمن؛ وبذلك يمكن للنوع أن يتطوّر من خلال أجيال كثيرة إلى شيء مختلف تماماً، وهذه الاختلافات تقوم على التغيّرات في الحمض النوويّ منزوع الأكسجين )دنا(، والتي تنشأ كطفرات في الجينات.
وبناءً على هذا التقرير : فإنّ مرجع الانتخاب الطبيعيّ الذي هو الجزء الثاني من النظريّة إلى أنّه متى تباين الأفراد في نوعٍ جينيّاً أحدهم عن الآخر، وكان بعض هذه الاختلافات يؤثّر على قدرة الفرد على البقاء والتكاثر في بيئته، ففي الجيل التالي سيكون للجينات المؤدّية إلى بقاء وتكاثر أعلى نسخ أكثر مقارنةً بالجينات التي ليست جيّدة هكذا، وبمرور الزمن ستصير المجموعة تدريجيّاً متلائمة مع بيئاتها أكثر فأكثر بسبب نشوء طفرات وراثيّة مفيدة وانتشارها في المجموعة، بينما الطفرات الضارّة تستأصل. وآخراً تنتج هذه العمليّة كائنات متكيّفة جدّاً مع مواطنها وأساليب حياتها.
مثال للتطوّر في الكائنات الحيّة
ثالثا : وكمثال للتطوّر في الكائنات الحيّة وفق هذا التقرير أوضح بعض الباحثين(3) كيفيّة مساعدة الانتخاب الطبيعيّ للفئران البّريّة الفاتحة التي تعيش على الكثبان الرمليّة الشاحبة لساحل خليج فلوريدا، فهناك ثلاثة أشياء ضروريّة لصنع تكيّف بالانتخاب الطبيعيّ فيها:
1-  ينبغي للمجموعة السكّانيّة المستهِلّة أن تكون متغايرة(4)؛ بمعنى :
أن تُظهِر الفئران في مجموعة سكّانيّة بعض الاختلاف في ألوان فرائهم، وإلّا لن يمكن أن تتطوّر هذه الصفة في حال الفئران.
وهذا الشرط حاصل في شأن هذه الفئران؛ لأنّ الفئران في المجموعات السكّانيّة على البّر القاري تُظهِر بعض التباين في لون الفراء.
2-  ينبغي أن يأتي بعض نسبة ذلك التباين من التنوّعات في أشكال الجينات؛ بمعنى: أن يكون للتباين بعض الأسس الجينيّة (تدعى إمكانيّة التوارث)، لو لم يكن هناك اختلاف جينيّ بين الفئران الفاتحة والداكنة لكانت الفئران الفاتحة بقيت حيّة أفضل على الكثبان. لكن لم يكن اختلاف لون الفراء سيُمَرر إلى الجيل التالي. ولمَا كان سيصير هناك تغيّر تطوّريّ.
وهذا الشرط أيضا حاصل، وإنّنا نعلم من خلال ملاحظة جينات هذه الفئران أنّ المتطلّب الجينيّ متوفّر أيضاً في هذه الفئران. 
3-  أنّ التباين الجينيّ ينبغي أن يؤثّر على احتماليّة ترك الفرد لنسل.
وهذا الشرط أيضاً حاصل فإنّنا نجد في حالة الفئران؛ لأنّ تجارب الافتراس أثبتت أن الفئران الأكثر تموّهاً ستترك نسخاً أكبر من جيناتها. من ثَمّ فإن اللون الفاتح لفئران الشاطئ يطابق كلّ المعايير ليكون قد تطوّر كصفة تكيّفيّة.
ملاحظات في شأن النظريّة منبثقة عن تقريرها على أساس حدوثالطفرة الجينيّة
رابعا : هذا، وقد أدّى اكتشاف توقّف التطوّر على الطفرة الجينيّة وكون الطفرة هي أداة التطوّر الحقيقيّة إلى بعض الملاحظات الإضافيّة في شأن النظريّة وحيثيّاتها:
1- لقد كان يُظنّ من قبلُ أنّ تطوّر الكائن الحيّ استجابة للظروف البيئيّة هي جزء من القانون الأحيائيّ العامّ الذي ينظّم عمل الكائنات الحيّة؛ ولكن باتّضاح توقّف التطوّر على الطفرة تبيّن أنّ الجينات محصّنة مبدئيّاً تجاه أيّ تغيير فيها وأنّ الطفرة الجينيّة في تسلسل الحمض النوويّ إنّما تحدث كأخطاء عندما ينسخ الجزيء أثناء انقسام الخليّة، فتحدث حالة جينيّة مباينة للحالة الأصليّة من خلال الطفرة الجينيّة.
2- وقد كان يُظنّ من قبل أنّ التغيّرات الطارئة في الكائن الحيّ الموجبة لتطوّره هي على العموم تحدث في جهة صلاح الكائن الحيّ وتكيّفه مع البيئة، فكأنّها جزء من المنحى الغائيّ في مسيرة الكائنات الحيّة نظير كثير من الاستعدادات والخصائص التي تتّصف بها ممّا تتوجّه بها إلى منحى كمالها.
ولكن تبيّن للعلماء بملاحظة التجارب المختبريّة واستقراء حالات الطفرة الحادثة خارجاً أنّ الطفرات ليست حالات موجّهة لأجل صلاح الكائن الحيّ، وإنّما هي حالات عشوائيّة؛ بمعنى: أنّها تحدث دون اعتبار لما إذا كانت ستكون مفيدة للأفراد؛ لأنّها ليست إلّا أخطاء في نسخ الحمض النوويّ، ومعظمها ضارّ ببقاء الكائن الحيّ فيموت الكائن في أثرها؛ إذ لا يكون قابلاً للتكاثر، أو يقلّل من فرصة تكاثره أو بقائه، وبعضها عديم التأثير ولكنّ القليل منها يمكن أن يظهر أنّه مفيد، إلّا أنّه ليس هناك سبيل لتحديد احتماليّة أنّ طفرة ستلائم الاحتياجات التكيّفيّة الحاليّة لكائن، مثلا : من الأفضل للفئران الذين يعيشون على الكثبان الرمليّة الفاتحة على ساحل خليج فلوريدا أن يكون لهم فراء أفتح؛ لكنّ فرصتهم للحصول على طفرة مفيدة كهذه ليست أعلى من التي للفئران التي تعيش على التربة الداكنة، إذن، ولذلك يبدو أنّ تسمية تلك الطفرات (حياديّة( أكثر دقّة من تسميتها )عشوائيّة(؛ لأنّ احتماليّة ظهور طفرة هو حياديّ لما إذا كانت ستكون مفيدة أو مؤذية للفرد.
3- أنّ التقرير الأوّل للنظريّة الذي أنجزه داروين كان مبنيّاً على أساس التشابه الجسديّ والسلوكيّ بين الكائنات الحيّة على نحو متسلسل وتدريجيّ؛ ومن ثمّ اعتمد داروين في إثبات هذه النظريّة على علم الأجنّة والتشريح والحيوان وسلوك الحيوان وغيرها. وتُسمّى النظريّة بهذا الاعتبار بالنظريّة الداروينيّة.
ولكن التقرير الثاني للنظريّة المبنيّ على علم الجينات وسّع من مدارك النظريّة، حيث تأتّى الانتفاع بعلوم أخرى ح عرفت لاحقاً بعد داروين، مثل: علم الوراثة، والجينات، والحمض النوويّ، والطفرات الوراثيّة. وقد تُسمّى النظريّة بهذا الاعتبار بنظريّة التطوّر الحديثة أو الداروينيّة الحديثة.
انقسام التطوّر إلى صغير وكبير، وثبوت التطوّر الصغير في الكائنات الحيّة
المقدّمة الرابعة : التي نذكرها لتقييم نظريّة التطوّر : في بيان أنّ محلّ البحث في نظريّة التطوّر إنّما هو التطوّر الكبير دون الصغير، ويتضمّن ذكر انقسام التطوّر إلى تطوّر صغير وآخر كبير، وثبوت التطوّر الصغير في الكائنات الحيّة.
ينقسم التطوّر إلى قسمين: تطوّر صغير، وآخر كبير:
أمّا التطوّر الصغير : فهو التطوّر الذي يوجب تغيّراً في الكائن الحيّ ولكن لا يؤدّي إلى تنوّع هذا الكائن؛ بمعنى: حدوث أنواع متعدّدة متباينة في خصائص مهمّة، وإنّما يوجب اختلافاً في سمات ثانويّة، مثل: اللون والحجم والصحّة والسلوك والتغيّرات الفسيولوجيّة.
وهذا التطوّر ممّا لا ريب في معقوليّته وفي وقوعه كما يلاحَظ بوضوح في عدّة حالات:
حالات التطوّر الصغير
الحالة الأولى : التطوّر بالتزاوج، ونعني به: التغيّرات الطارئة بموجب تزاوج كائنين حيّين (ذكر وأنثى). والتزاوج عادةً إنّما ينتج في النوع الواحد، إمّا مع الاختلاف الصنفيّ أو من دونه، ولا ينتج في حال الاختلاف النوعيّ إلّا في حالات معدودة نظير تزاوج الحصان والحمار حيث أنتج البغل، والتطوّر بالتزاوج ليس مبنيّاً على قانون الطفرة الوراثيّة؛ بل يبتني على امتزاج أوصاف الأبوين في نتاجهما.
وقد ينتج من التزاوج صفات لم تكن فعلاً في الأبوين، كأن يرث الابن من جهة الأمّ صفات تتعلّق بالذكر، أو ترث البنت من جهة الأب صفات وخصائص تتعلّق بالأنثى.
ومن هذا القبيل عوارض في الأولاد نتيجة اجتماع جينات الأبوين كما في مرض فقر الدم المنجلي؛ فإنّ ذلك ناشئ عن طفرة طارئة في جين )الهيموجلوبين( الذي يحمل الأكسجين في خلايا الدم الحمراء ، فإذا حدث ذلك عند الوالدين وورث الولد نسختين من هذا الجين غير الطبيعيّ حدث عنده هذا المرض.
وهذا النحو من التطوّر جائز وشائع، ولا علاقة له بالتطوّر النوعيّ.
الحالة الثانية : التطوّر الوصفيّ الفرديّ، ونعني به: التطوّر الحاصل في أوصاف الفرد بالقياس إلى سائر أفراد الكائن الخاصّ الذي ينتمي إليه؛ ومن ثَمّ نجد اختلاف أحوال الأولاد عن الآباء؛ فإنّ هذا الاختلاف وإن كان يرجع بعضه إلى امتزاج الاستعدادات الوراثيّة للأب والأمّ في الأولاد، إلّا أنّه قد لوحظ أنّ بعض هذا الاختلاف ينشأ عن طفرات في الجينات المكوّنة للفرد.
وهذا النحو من التطوّر جائز وواقع أيضاً ولا ينتج الاختلاف النوعيّ بأن يكون الأب من نوع والولد من نوع آخر.
الحالة الثالثة : التطوّر الصنفيّ، ونعني به: تولّد أصناف متعدّدة ومتمايزة في النوع الواحد تختلف بعضها عن بعض في مجموعة من الصفات، كما نجد مثلا اختلاف أقوام الإنسان في الشكل والحجم واللون وكثير من الصفات؛ فإنّ الأصل الأوّ ل لجميع هؤلاء الأفراد رجل وامرأة ومع ذلك حدث كلّ هذا الاختلاف الصنفيّ في الإنسان.
 كما أنّ المتمرّس والمتابع في أحوال الحيوانات كالحمام والدجاجة والكلب والغنم وغيرها قد يطمئن بنشأة الأصناف المتعدّدة منها عن أصل واحد غير هجين؛ ولكنّها اختلفت في أثر الطفرات الجينيّة في الخلايا الجنسيّة. 
وهكذا الحال في النباتات، مثل: اختلاف النوع الواحد في الفواكه والخضروات والثمار والزهور، إلّا أنّ النباتات يكفي في توريث الصفات فيها حدوث الطفرة في الخلايا غير الجنسيّة.
وهذا النحو من التطوّر أيضاً جائز وواقع، وهو يختلف عن التطوّر النوعيّ؛ لأنّ الأصناف المندرجة في نوع واحد لا تتباعد فيما بينها كتباعد الأنواع.
الحالة الرابعة : التطوّر المناعيّ، ونعني به: تطوّر الكائنات الحيّة في مقابل العوارض الضارّة والمميتة، وهذا أمر مشهود بوضوح في مقاومة البكتريا والفيروسات المسبّبة للأمراض المختلفة في مقابل العلاجات المستخدمة ومقاومة الحشرات للمبيدات الحشريّة وتكيّف النباتات مع مبيدات الأعشاب الطفيليّة ومقاومة الفطريّات والديدان والطحالب للمعادن الثقيلة التي لوّثت بيئتها.
وقد اعتقد الإنسان عند اكتشاف المضادّات الحيويّة في أربعينيات القرن العشرين أنّه استطاع من حلّ مشكلة الأمراض المعدية التي تسبّبها البكتريا، مثل: الدرن، والتهاب الحنجرة المتقرح، والتهاب الرئة؛ لكن لوحظ بعد فترة حدوث طفرة في البكتريا أنتجت مقاومة للمضادّ الحيويّ تاركةً وراءها ذرّيّة متطابقة معها جينيّاً مقاومة للعقار أيضاً؛ مم ا أدّى إلى ضعف فعّاليّة العقار. وهكذا الفيروسات الموجبة لأمراض أخرى؛ على أنّ هناك فيروسات لم تتطوّر، مثل: فيروسي شلل الأطفال والحصبة؛ فإنّهما لم يطوّرا مقاومةً للّقاحات التي استُعملت لأكثر من خمسين عاماً.
الحالة الخامسة : التطوّر الصناعيّ، ونعني به: تطوّر الكائنات المجهريّة (الميكروبات) في أنبوب الاختبار. فقد لاحظ علماء الأحياء تكيّفاً في مستويين للميكروبات:
الأوّل : التكيّفات البسيطة، فقد لوحظ أنّ الميكروبات تستطيع أن تتكيّف مع أيّ بيئة يوجدها العلماء في المعمل، مثل: الحرارة العالية أو المنخفضة، والمضادّات الحيويّة، والسموم، والمجاعة، والأغذية الجديدة، وأعدائها الفيروسات. علماً أنّ التجربة على الميكروبات تتيح وقوف الباحث على تطوّر آلاف الأجيال من البكتريا من جهة أنّ البكتريا تستطيع إعادة الانقسام كلّ عشرين دقيقة.
الثاني : التكيّفات الأكثر تعقيداً، مثل: نزع جين يحتاجه الميكروب للبقاء حيّاً، فقد جرت دراسة تّريبيّة على الميكروب لوحظ من خلالها أنّه استطاع البقاء حيّاً ومعالجة هذه المشكلة.
فوارق التطوّر الكبير مع التطوّر الصغير
وأمّا التطوّر الكبير: فهو تطوّر يحصل في أثر طفرات تغيرّ من نوع الكائن وخصال أساسيّة فيه؛ ومن ثَمّ نعبّر عنه أيضاً بالتطوّر النوعيّ، ويمكن أن يلاحَظ حجم التغيّر من جهات وزوايا متعدّدة.
الزاوية الأولى : بالنظر المادّيّ في الحمض النوويّ، حيث أنّ التطوّر الصغير يتحقّق بتغيير قليل في الحمض النوويّ، مثل: نقصان جين، أو تكرّر جين، أو استبدال جين بآخر، أو تحفيز جين غير نشط، أو نحو ذلك، وقد يتحقّق ذلك في عدد معدود من الجينات. كما أنّ هذا التطوّر يمسّ الجينات المسؤولة عن الأوصاف الثانويّة للكائن الحيّ كاللون والحجم ونحوهما.
وأمّا التطوّر الكبير فهو يقتضي فيما يظهر بملاحظة الفواصل الجينيّة بين الكائنات الحيّة اختلافاً كبيراً في كمّ القواعد الجينيّة وكيفها .
فأمّا في الكمّ: فإنّ هناك اختلافاً كبيراً بين عامّة هذه الكائنات، حيث يزيد بعضها على بعض بملايين من هذه القواعد، وأمّا في كيفها فلاختلاف أنواع القواعد الجينيّة وتركيبتها بين هذه الكائنات اختلافاً شاسعاً وكبيراً ، كما أنّ هذا التطوّر يقع في جينات مسؤولة عن تكوين الأعضاء وأجهزة الجسم.
الزاوية الثانية : بالنظر إلى الفرق الجسديّ والعضويّ ، فالتطوّر الصغير يمكن أن يؤثّر في حجم الكائن وأوصافه وبعض سلوكيّاته؛ ولكنّ التطوّر الكبير يؤثّر تأثيراً نوعيّاً في التشكّل الجسديّ بأحد أنحاء:
1- حدوث الريش والصوف والشعر ونحو ذلك، أو حدوث أعضاء مثل: الرأس، والقلب، والأمعاء، والأرجل، والأيادي.
2- حدوث أجهزة متعدّدة في الفرع ذات أجزاء مترابطة لا ينفع بعضها من دون بعض ولا يؤدّي غرضاً ممّا لابدّ من حصولها بنحو متزامن، والواقع: أنّ كثيراً من أجهزة الجسم هي من هذا القبيل كما في الجهاز الهضميّ والبصريّ والتنفّسيّ وغيرها.
3- حدوث أجهزة في الفرع ناظرة إلى وجود كائن آخر كما في الجهاز التناسليّ في الرجل والمرأة، والذي هو ناظر إلى وجود الطرف الآخر.
والزاوية الثالثة : بالنظر إلى القوى والاستعدادات النفسيّة للكائن الحيّ، فالتطوّر الصغير لا يوجب زيادة نوعيّة في هذه القوى ولكنّ التطوّر الكبير يؤدّي إلى حدوث قوى نفسيّة رئيسة في الفرع لم تكن في الأصل، من قبيل ما يلي:
1- حدوث قوّة حسّيّة في الفرع لم توجد في الأصل أصلاً، مثل: حدوث الحواسّ في الفرع مع خلوّ الأصل عنها إذ الأصل الأوّل للكائنات حسب الافتراض كائن حيّ مشترك بين النبات والحيوان، وحيث أنّ النبات فاقد للإحساس بأيّ نوع من أنواعه؛ فإنّ أنواع الإحساس يكون قد تَو ر لد لاحقاً، ثمّ إنّ الكائن الأوّل الذي اتُّصِف بالإحساس لم يكن متّصفاً بجميع الحواسّ بطبيعة الحال ؛ بل ربّما اتّصف بحاسّة اللمس ثمّ حدث سائر الحواسّ بالتدريج، وهكذا لابّد أن تكون أنواع الإحساس قد حدثت بعد عدم اتّصاف الكائنات الأولى بها.
2- حدوث غريزة في الفرع لم توجد في الأصل؛ فإنّ الكائنات الحيّة ليست متماثلة في غرائزها؛ بل تتميّز الكائنات التي هي أرقى بمزيد من الغرائز النفسيّة، فلابدّ أن تكون هذه الغرائز كلّها وليدة التطوّر.
3- حدوث قوّة ذهنيّة في الفرع لم تكن في الأصل، مثل: قوّة التفكير والتأمّل والاستكشاف التي يتميّز بها الإنسان بالقياس إلى الأصل المفترَض له وهو سلف مشترك بين القرد والإنسان، وهو بطبيعة الحال أقرب إلى القرد جدّاً منه إلى الإنسان؛ لأنّ الإنسان هو الذي تطوّر تطوّراً مميّزاً وكثيراً عن ذلك السلف المشترك.
4- قوّة الضمير الأخلاقيّ، وهي قوّة تستبطن هدياً مُمَيزا في الإنسان تعارض الاستجابة للغرائز، على نقيض تمام الكائنات الحيّة الأخرى التي تسيّرها الغرائز فحسب.. وهذا الهدي هو الأمّ لجميع القوانين المجعولة العرفيّة والوضعيّة والشرعيّة.
5- قوّة الاختيار والشعور بالمسؤوليّة، وهي أيضاً قوّة يختصّ بها الإنسان ويمتاز بها عن الحيوانات، وهي حالة خاصّة تتمثّل في قدرة الإنسان على التباعد عن الدواعي الطبيعيّة الجاهزة وعدم الرضوخ لها.
وبهذا العرض يتّضح أنّ التطوّر الصغير يمكن اعتباره بديهةً واضحةً بالنظر إلى الاختلاف المشهود بين أفراد النوع الواحد والتي ترجع إلى أصل واحد ولكن نظريّة التطوّر الأحيائيّ تبتني على افتراض وقوع التطوّر الكبير المؤدّي إلى تولّد كائن نوعيّ مختلف.
نعم، ربّما ادّعى بعض الباحثين أنّ التطوّر الكبير يمكن أن ينشأ عن تطوّرات صغيرة متعاقبة.. وسيأتي تحقيق ذلك خلال أصل البحث.
وبهذا يتمّ المدخل الذي عقدناه للبحث عن نظريّة التطوّر
في الحلقة القادمة سيشرع السيد حفظه الله في المبحث الاول من بحث نظرية التطور
______
الهوامش
_______
1- لاحظ: لماذا النشوء والتطوّر حقيقة: 19 وما بعدها.
2- قيل: وقد يحصل التطوّر من خلال الانجراف الجينيّ وهو تطوّر عشوائيّ بسيط في نسب الجينات من جهة كون الأسر المختلفة ذات أعداد مختلفة من النسل مما يؤدّي إلى تغيّر عشوائيّ، إلّا أنّه لا يكون ذا صلة بزيادة التكيّف مع البيئة والظروف المعاشة كي يستتبع الانتخاب الطبيعيّ لبعض الأنواع )لاحظ في توضيحه: لماذا النشوء والتطوّر حقيقة: 133 .
3- لماذا النشوء والتطوّر حقيقة: 128 - 130 بتصرّف.
4- هكذا قيل؛ ولكنّ الواقع أنّ هذا الأمر ليس ضروريّاً في عمليّة التطوّر. وإلّا لم يصحّ أصل نظريّة التطوّرالإحيائيّ؛ لأنّها تقتضي نشأة جميع الكائنات عن أصل مشترك واحد.. وعليه: فلم تكن هناك أفراد عدّة متغايرة في الأصل.
فالمهمّ أن يكون في جينات الكائن الحيّ ما يمكن أن يكون منشأً لإيجاد صفات مختلفة متى تعرّض لعوامل مختلفة.
المصدر : مدونة صدى النجف

تنويه : هذه السلسلة من تقريرات دروس اية الله السيد محمد باقر السيستاني التي القاها في السنة الماضية 14377 هـ بعنوان منهج التثبت في شأن الدين اضفنا لها الصور والمعلومات المتعلقة بها
الحلقة الاولى تناولت :  دليل التنوع الأحيائي والأبعاد الدينية والاخلاقية لنظرية التطور ومستواها العلمي - لمطالعتها اضغط هنا


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صدى النجف
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/06/03



كتابة تعليق لموضوع : نقد نظرية التطور – الحلقة 2 – توضيح النظرية من جهة توقفها على الطفرة الجينية وانقسامها الى التطور الكبير والتطور الصغير والفرق بينهما : اية الله السيد محمد باقر السيستاني حفظه الله
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net