صفحة الكاتب : محمد الحمّار

هل لنا ثقافة القرار؟
محمد الحمّار

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 ما من شك في أنّ لنا تاريخ، مُعظمه مجيد، لكن كثيره مشبوه. وما من شك في أنّ لنا تراث غني ومتنوع لا يمكن من دونه أن تبقى ذاكرتنا سليمة. لكن الأهم أن ليست لنا حاجة بأن نتذرع لا بالتاريخ ولا بالتراث لكي نهرب من الواقع وننكمش فيهما، وذلك كبديل عن مجابهة الواقع. ويُعدّ التقوقع في التاريخ وفي التراث من الأمراض التي يتألم منها الجسم المجتمعي في ثقافتنا. 

أمّا مجابهة الواقع فتتطلب أن يكون الفرد هو التاريخ والمجتمع هو التاريخ. فالتاريخ إحياءٌ لا انطواءٌ. ولكي نكون كذلك لا بد أن ينشأ الطفل في بيئة تسمح له برؤية الكثرة في الواحد، وكذلك برؤية الواحد في الكثرة. وهذا لعمري من أهم فوائد عقيدة التوحيد السمحاء. والتوحيد إرث كوني (الفكرة عزيزة على الفيلسوف الأمريكي رالف  والْدو إمرسون، وعلى المفكر التونسي يوسف الصديق، وغيرهما) لا بد أن نتعلم كيف نقحم آلياته في مناهج التعليم ووسائل الإعلام والتواصل. 
ولمّا يتم تنصيب نظرتنا إلى العالم على السكة الصحيحة سيعود التاريخ تاريخا والتراث تراثا. سيتوقف عن كونه ملاذا تارة وشماعة طورا ومرضا في كل الحالات. سنستعيد جميع أصناف الذاكرة. والأصناف المتضررة تتراوح بين الذاكرة الشعبية والذاكرة التاريخية وتمرّ بالذاكرة الأدبية والذاكرة الشعرية وبالذاكرة الفنية وبالذاكرة الثقافية عموما. وهذه كلها تقوم مقام المحركات في الجسم المتحرك للشخصية. عندئذ ستتقلص الأعراض تلو الأعراض وتنحسر الظواهر الهجينة مثل التردد و الإخلال بالواجب و خيانة الأمانة و عدم احترام المواعيد و الكذب والبهتان والسَفه والتهور والعنجهية و الانفعال والاعتباط وغياب القرار.
ما أحلى أن يكون الكيان الإنساني متزودا بكل أعضائه الوظيفية. وأحلى من ذلك عدم اكتفائه بالوارد من المعرفة والمعلومات والصور والعلامات، وعدم استغنائه عن الصادر من الأفعال. ولو أقدمنا على قياس ما يصدر عن المواطن في المجتمع العربي الإسلامي اليوم من قرارات، على غرار مجتمعنا، لكانت النتيجة ضحلة جدا. بل لاكتشفنا أنها، بالإضافة إلى ضحالتها، مُحتكَرة من طرف من يُسمون بالنخبة أو النخب.
والحال أنّ العيش في مجتمع حرّ، ومن باب أحرى لمّا يكون الشعب قد قرر الانتقال الديمقراطي، يتطلب توفر شرطين على الأقل. والشرطان هما: أولا، اتساع رقعة اتخاذ القرار لتشمل أكثر عدد ممكن من أبناء الشعب، سيما القوى الحية والقوى الفاعلة فيه. ثانيا، اتساق القرار مع الإرادة الحرة لصاحب القرار. وإلا فسيبقى المجتمع رهن ندرة من القرارات التي لا تمثل غالبية الشعب من جهة، والتي لا تعبر، كما ينبغي أن يكون التعبير، عن طموحات الشعب وعن الصورة التي يحملها الشعب عن المستقبل، من جهة أخرى. وهذا هو الوضع الذي يتم به الحياة الفكرية والسياسية في تونس الآن.
وبناءًا على الطابع الاستعجالي الذي تكتسيه مسألة القرار إزاء المسار الثوري، ومنه إزاء الانتقال الديمقراطي، حريّ بالانتلجنسيا في تونس، وفي كل بلد عربي إسلامي، أن تتواضع كثيرا أمام هذه العلة. بل ليس لها من خيار سوى التواضع، وإلا فستكون هي المسؤول الرئيس عن أي نكوص للثورة، لا قدر الله، وبالتالي عن أي فشل قد تُمنى به عملية الانتقال الديمقراطي. وتواضع النخب المثقفة لا يقتصر على الاعتراف بالشعب كسلطة للقرار، وإنما على تنوير الشعب، أفرادا ومجموعات، إزاء كيفية اكتساب سلطة القرار.
لست سياسيا حتى أتكلم باسم التيار الفلاني أو الجبهة الفلانية أو الحزب كذا أو الحركة كذا. لكنا أخشى ما أخشاه أن يضيع جهد النخب الممثلة لمختلف الحساسيات السياسية في تونس في الانجذاب الإيديولوجي وفي الحسابات التكتيكية فتضيّع على نفسها وعلى الشعب فرصة التنوير.
والتنوير في هذا الباب يبدأ من الاعتقاد في الله ربا وفي محمد نبيا صلى الله عليه وسلم، لينتهي إلى قرار.
لمّا يتم تنصيب النظرة العُقدية على "رجليها" لن يكون من الممكن أن يفكر المسلمون مثلما هم فاعلون اليوم، أي بالكيفية التي لم تسمح لهم على امتداد القرون من اتخاذ القرار، كمّا وكيفا، مثلما شرحتُ أنفا. فالمواطن المسلم اليوم ما يزال يفتقر القدرة على اتخاذ القرار. وما يزال متعودا على تنصيب الحاكم وصيا له في اتخاذ القرار. وأشك في أن الثورة التونسية قد قضت بعدُ على مبررات هذه العادة. وبالتالي فإني أشك في أنّ المواطن قد حوّل موقفه من مُعوّلٍ على الحاكم كمقرر بالنيابة عنه إلى موقف أصح يقضي بتفويضه زعيمَ الحزب السياسي كواسطة خير بينه (بفضل قرار هذا المواطن) وبين السلطة.
بكلام آخر، لمّا يعي السياسيون أن المواطن لا يمثل بعدُ سلطة قرار، لا يجوز أن يستغلوا  هذا الضعف، المحسوب أولا وبالذات على المواطن، لكي يمرروا ما يطيب لهم من الأهواء والأفكار والتصورات. بالعكس يستوجب الأمر أن يتجاوز السياسيون حساباتهم الضيقة وأن يقبلوا بتثوير تصوراتهم وبتحوير برامجهم، وذلك باستساغة الواقع التالي: إنّ تعويل المسلمين على من ينوب عنهم من السياسيين بأن يتخذوا القرار بالنيابة عنهم يعود، إلى حد بعيد، إلى عادتهم على تفويض أمورهم لله جل وعلا. بينما التعويل على البشر في باب القرار ليس من الإسلام في شيء. ومن أراد تحرير الإنسان المسلم من الوصاية فلا بدّ له أن يدع الله والإسلام جانبا ولا يحشرهما، معاذ الله، في أية مسؤولية عن تلك التبعية. ومن أراد تحرير الإنسان المسلم من تلك التبعية فليعتنِ بذهنية ونفسية المسلم ليُقربها من صحيح العقيدة.
أمّا صحيح العقيدة، من هذا المنظور الواقعي والظواهراتي، لا من منظور العلوم الشرعية، فهو أن يمارس المسلم حقه المباشر في الاتصال المباشر بالخالق البارئ. وهذه الممارسة التعبدية، لو أدرك المسلم مشروعيتها وأحقيته بها، لَوَلّدت لديه الثقة الضرورية لاتخاذ القرار في الشأن الدنيوي، العلمي والسياسي والاجتماعي. وليست ممارسة هذا الحق التعبدي، لمّا تتم على الشاكلة الأصلية، ممارسةً للتفكير الديني بقدر ما هي تدريب على التصفية الذاتية لمسَلمات ولمُقدمات القرار لدى المقرر، فكريا وعاطفيا ولغويا، عبر مصفاة العقيدة والدين. ولو كانت هذه الممارسة معمولٌ بها في المجتمع العربي الإسلامي بعدُ، لَمَا كانت هنالك ظاهرة اسمها الإسلام السياسي، بل لَمَا كانت المسألة الدينية تكون مشكلة أبدا.
فالذي حصل إلى حد الآن، ومنذ عقود طويلة، في بوتقة الظاهرة الإسلامية بمختلف أوجُهِها، أنّ "الجماعة الإسلامية" احتكرت سلطة القرار لدى مَن لا يملكون القرار، وهو بمثابة إصدار حُكم غيابي على جمهور المسلمين، لكي تتملك حقهم وحق الملايين ممّن ليس لهم سلطة قرار ذاتية، في التعبير واتخاذ القرار بالوكالة عنهم. ولو آلت الجماعات الإسلامية على نفسها أن تُعلم المسلمين سَواء السبيل من منظور مقاربة الحاجيات، مثلما شرحنا، لَمَا تطورت المسألة الدينية إلى ظاهرة يكاد يكون الله فيها، معاذ الله، محل شك وتشكيك (وهنا تتنزل الورطة الحاصلة بسبب عرض الشريط الفزاعة "لا الله لا سيدي/ لاشيء").
إذن ليست الظاهرة الإسلامية السياسية مُجرد تعبير عن حق المجموعات السياسية في التشكل في أحزاب ابتغاء المشاركة في حياة سياسية تعددية بقدر ما هي تعبير عن غياب مَلكة التعبير بمقتضى متطلبات الشخصية وبمقتضى شروط العقيدة. من هنا نفهم كيف أنّ التواضع مطلوب لا فقط من السياسيين إزاء منظوريهم كما بينتُ أعلاه، وإنما أيضا وبالخصوص من الإسلاميين، إن أرادوا فعلا خدمة الإسلام والمسلمين. إنّ النخب، من مسلمين وإسلاميين وعلمانيين وملحدين، كلهم مُطالبون بأن يضيئوا الطريق أمام المواطن في المجتمع المسلم، لكي يكون قادرا على أن يرى بأعينه لا بعيون ممثلين ونواب ووكلاء عنه.
بعدئذ يكون هنالك حديث عن التمثيلية السياسية والبرلمانية والبلدية وغيرها. لن تكون للتمثيلية ولا للتعددية  معنى قبل أن يكتسب المواطن التونسي، والعربي المسلم، هذا الحق الإنساني المتمثل في دمج الحرية الفردية (وهي من الحريات الأساسية في العصر الحديث) بالحرية الدينية والعقدية، الإسلامية بالخصوص، طالما أنّ الإسلام يتميز عن سائر الديانات بكونه فكرا وشرعة ومنهاجا، فضلا عن كونه عقيدة.
محمد الحمّار
 
كانت هذه الحلقة (12) من كتاب في طور الإنجاز : "استراتيجيا النهوض بعد الثورة".
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الحمّار
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/09/12



كتابة تعليق لموضوع : هل لنا ثقافة القرار؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net