صفحة الكاتب : د . فائق يونس المنصوري

البصرةُ... أرضُ الخرابْ (2)
د . فائق يونس المنصوري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

(بمناسبة الإعلان عن البصرة عاصمة للثقافة العربية عام 2018)

 

نشيج الوجع البصري

" بنا دروبٌ تَنامُ القُبَّراتُ بها/ تُوزعُ الموتَ والاوهامَ والسَغَّبا/ على السطوحِ نواحُ البدرِ مُنكَسراً/ وفي الضفافِ نشيجُ الناي مكتئبا/ وفي الزوايا مرايا غَيرُ عاكسةٍ/ وفي الجذُوعِ يطوفُ السوسُ مغتَصِبا/ وللديوكِ اصطكاكٌ في مقابِرنا/ كأنما الضَيفُ في اسمائِنا كُتِبا/ وللنهارِ شُحوبٌ في ملامِحِنا/ كأنما كلُ ضياءٍ حولَنا شَحُبا/ لكنْ نَدوسُ على اوجاعِنا كِبَراً /لأن في دَمِنا الاصرارُ ما نَضُبا..." *

   هذا هو نشيج البصري الذي قتله الجوع والسغب بينما يرى خيراته تذهب لكل من هب ودب، فيبكي بدل الدموع دما وهو يراقب احتضار مدينته التي امتد عمرها الى ما قبل التاريخ تغرق تحت اكوام من القمامة المادية والمعنوية، لكنه لم ولن ييأس ما دامت شعلة الإصرار تتوهج في أعماق وجدانه. وما نبغي من وصفنا لخراب الحاضر الا ليكون درسا يستفيد منه جيل ابنائنا القادم، ولا نقول الا كما قال متحدث البصرة وحكيمها خالد بن صفوان "ورثناها عن الآباء (ونعمرها) للأبناء ويدفع لنا عنها ربُّ السماء".

 

خراب البصرة المادي   

   ولنبدأ اولاً بإعطاء صورة مختصرة للقمامة المادية (او الخراب المادي)، فلقد فاضت ازقتها وشوارعها وساحاتها واسواقها بل وحتى مستشفياتها وجامعتها بالأوساخ والازبال والاوحال والمياه الاسنة والسكراب وضجت من التجاوزات على الأرصفة والساحات بل وصل التجاوز حتى الى البناء في الطريق العام ومؤسسات الدولة ودوائرها الرسمية التي هي ملك للجميع وليس لشخص او عائلة او عشيرة معينة او .....

   

   فاجتُثت اشجارها وخُربت حدائقها وقُطِّعت اوصال مزارعها واقتُلعت نخلتها واُبدلت بنبات غريب عن بيئتها، وتملحت مياهها وتعفنت انهارها وجفت اهوارها وسكنت الفئران خرائبها وطنطن الذباب في أسواقها ومطاعمها وعششت اسراب البعوض في بيوت فقرائها ورحلت الى غير رجعة غابات اثلها. 

    ولم تبقَ ساحةَ فارغةَ او فسحةُ بناءِ الا وقد استوطنها الغرباء الذين احالوا المدينة الزاهية (بعدما غض المسؤولون الطرف عن هذه التجاوزات لاتهم ليسوا بصريين أصلاَ) الى زريبة للأبقار والنعاج والصخول والحمير والكلاب واكداس من الخرائب والازبال وبرك من المياه الاسنة وجداول عفنة، بل وصل التجاوز الى درجة طمر الأنهار الفرعية في داخل المدينة؛ التي كانت تعمل كمبازل للمياه تحت الارضية Under water table level drains والتي تتميز بارتفاع مستوياتها في تربة البصرة؛ لغرض البناء عليها!!! 

   

   مما أدى لان تطفح المياه الثقيلة الى الشوارع والساحات مشكلة بركا اسنة تتفاقم حدتها مع اول زخة مطر فتمنع الناس من الخروج من بيوتهم لأعمالهم ومدارسهم، ولا من سامع ولا مجيب لأستغاثات البصريين المبتلين بأسراب الذباب والبعوض وتفشي امراض الملاريا والاسهال والتيفوئيد والتهاب الكبد الفايروسي والامراض التنفسية، ناهيك عن الامراض النفسية كالتوحد والاكتئاب بسبب التلوث البصري للتجاوزات على الطرق والساحات والارصفة، والتلوث الضوضائي بسبب عربات الباعة المتجولين او مكبرات صوت باعة قناني الغاز في المناطق السكنية ، او ضجة (يوم الحشر) بسبب نداء الباعة على بضائعهم عبر مكبرات الصوت في أي سوق من أسواق البصرة.. (مدينة الفراهيدي والجاحظ والاصمعي واخوان الصفا الذين لو عاشوا في زمننا هذا لهجوا وارتحلوا الى بلاد الواق واق ناجين بعقولهم قبل أجسادهم!!!!)

 

خراب البصرة الثقافي   

   وطالَ الخرابُ معالمَ البصرةِ الثقافية وشواهدها التاريخية، فقد هُدِّمت أولى جامعاتها التي كانت عبارة عن جنة غناء في الساحل الشرقي من المدينة في ناحية التنومة الزراعية، ثم انتقلت الة التدمير لتطال اهم معلم ثقافي فيها الا وهي قاعة بهو الإدارة المحلية والتي شهد مسرحها عرض مسرحية (كاسك يا وطن) لدريد لحام وضجت قاعاتها بصدى أصوات اعاظم شعراء العرب أيام مهرجانات المربد، فقد داست على خشبة ذلك المسرح اقدام محمود درويش وعبدالله البردوني والمنصف المزغني. وقد كان ذلك البناء الذي شُيدت العديد من اخواته في كافة مدن العراق الرئيسة بعد ثورة تموز 1958 قد انشا في وسط مدينة البصرة ابان عهد الزعيم الشهيد عبدالكريم قاسم وتميز بهندسته المعمارية الفذة على شكل كوخ من القصب وجؤجؤ سفينة مشرعة بالإبحار، ليقام مكانها سوقاً تعود ملكيته لأصحاب رؤوس اموال القطط السمان. 

   ومن ثم اُزيلت سينماتها الشتوية والصيفية في المعقل والعشار، وفيما بين هذا وذاك تحولت مكتبة النهضة اعرق مكتبات البصرة واكبرها الى محل لبيع الأحذية ومكتبة المرحوم فرجو عبدالله الى محل لبيع الملابس ومكتبة الفكر الجديد الى محل لبيع الخمور ومن ثم الى خرابة مظلمة، وأغلقت مكتبة الجميع بعد رحيل صاحبها، واختفت عربات بيع الكتب من شارع الكويت ورحل باعة الكتب من سوق الجمعة الذي تحول سوقا لبيع الطيور والسكراب، واُحرقت مكتباتها بدءاً بمكتبة جامعة البصرة التي لا تعوض بثمن ومرورا بمكتبة محافظة البصرة المركزية وانتهاءاً بمكتبة المعقل الزاخرة بأنفس الكتب والمجلدات العلمية والأدبية والثقافية... 

   انه خراب لا يعدله الا خراب التتار عندما دخلوا بغداد عام 1258. وهكذا انتهت معالم البصرة الثقافية ومن ثم خُتمت برحيل اخر رموز التراث الشعبي للمدينة لما مات (تومان) الذي كان يعزف لنا بنايه القصبي من فتحة انفه وهو يدور في شوارع العشار حاملا اعلانات أفلام سينما الوطني والحمراء. ورحيل ابي عباس ذلك الكادح البصري الأصيل بوجهه الطيب وابتسامته التي يطغي شذاها على روائح بهارات (سمبوسته) الشهيرة في دكانه الصغير الذي كان يلوذ بإحدى زوايا عمارة النقيب التي اختفت هي الاخرى.

   اما حدائق البصرة الغناء فصارت طُعمة لهجمة الجراد القاضية فاختفت حديقة الامة أيام العهد الفاشي المباد بمسرحها الصغير الذي يعرض مسرحية ( قرقوز) للأطفال أيام الجمعات، واُقتلعت من جوانبها لوحات الزهور الملونة أيام أعياد نوروز، ومن ثم لحقتها حديقة الاندلس الغناء، وتابع العهد الجديد صرير معاول الهدم فقضى على جزيرة السندباد ( محج كل عرس بصري فيما سلف من غابر الزمان) وحدائق السلام في المعقل على ضفاف شط الترك بعدما تحول من نهر تسبح فيه الأسماك الى مجرى عفن يطفح بالقاذورات والامراض وانتهى بتدمير الحديقة الصينية في المعقل ( يطلق عليها العامة شفقة العامل- أي قبعة العامل-) بنافوراتها والواح زهورها وجسرها الخشبي الرائع فوق نهر ام الصبور، ولا ننسى الدمار الذي لحق بحدائق الخورة والسراجي الخضراء أيام العهدين الذي حل والذي رحل.

   وباندثار نخيل البصرة وموت انهارها ودمار حدائقها ووفاة تومانها ورحيل أبي عباسها، انطوت اخر صفحات الكادحين من البصريين الاصلاء الذين كانوا ينزفون عرقا نظيفا تحت حر البصرة اللاهب وشرجيها القائظ ليطعموا أبنائهم خبزا حلالا صافيا، ليحل بعدها ليل السوقة والنصابين واكلي أموال السحت الحرام، فأغلقت البصرة ابوابها على مَنْ تبقى من أهلها وتكومت القرفصاء على نفسها وهي ترتجف بردا والما وحزنا... وساد الظلام....  

 

* الابيات للشاعر العراقي حازم التميمي


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . فائق يونس المنصوري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/02/03



كتابة تعليق لموضوع : البصرةُ... أرضُ الخرابْ (2)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net