صفحة الكاتب : د . فائق يونس المنصوري

البصرةُ... أرضُ الخرابْ (1)
د . فائق يونس المنصوري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
(بمناسبة الإعلان عن البصرة عاصمة للثقافة العربية عام 2018)
 
 
" بقوة الحقيقة، انا اثناء محياي، قد فتحت بقاع الكون" – فاوست-
 
ثقافة المدن ام مدن الثقافة
   تنشأ المدن فيزيائيا من حجارة وملاط وتُشَّقُ فيها شوارع وبيوت وأسواق، لكن نشأتها الحقيقية تكمن في بناء روح انسانها الذي اقام عمرانها فاتخذها موئلا وسكنا، وعمَّر ارضها فاستخرج خيراتها ليعتش منها معاشا رغدا، وتأقلم مع مناخها وطبيعة بيئتها فابتكر لنفسه وسائل وأدوات تعينه على مواجهة صعاب اجواءها او الاستمتاع بمباهج طبيعتها، فيصبح هذا البناء المادي والوضع المناخي بعد ذلك قاعدة واساسا للبناء الروحي والانطلاق الإبداعي في مجال الوعي والادراك مولدا ما يسمى بالهيكل الثقافي لأنسان المدينة الذي ولد وتكون وعيه الثقافي انعكاسا للتطور المادي الذي سارت بدربه مدينته التي عاش فيها وعايشها، وبذلك يتراكم النتاج الثقافي لأنسان هذه المدينة مكونا ثقافة مدينيه تستمر بعد ذلك بالتطور والازدهار لتصبح مدينة للثقافة يقصدها الدارسون وطالبو العلم والثقافة من شتى الاصقاع ليخلد اسمها في التاريخ..
البصرة.. بصرتان 
   والبصرة في الحقيقة بصرتان، أشهرها البصرة التي اختطها ووضع أولى لبناتها القائد الإسلامي عتبة بن غزوان المازني سنة 14 للهجرة (635 ميلادية) عند اعتاب الصحراء المحاذية لبادية العرب، كنتاج لعمل عسكري توسعي خاضت غماره الدولة الإسلامية كهدف استراتيجي لأنشاء قواعد عسكرية متقدمة بعد عهد الرسالة المحمدية التي انصبت جهودها على توطيد سلطة الإسلام الجديد داخليا مع بعض المناوشات العسكرية الحدودية وبعض العلاقات الدبلوماسية مع الأمم المسيطرة آنذاك. (راجع وصايا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب لأمير الجيش الذي أرسل ليعسكر في اقصى ارض العرب وأدنى ارض العجم تحت قيادة عتبة بن غزوان كما وردت في الكامل في التاريخ لابن الاثير في احداث سنة 14 للهجرة وما بعدها)، فهي مدينة صحراوية ذات ثقافة بدوية تعتمد الشدة والقسوة والغلاظة في السلوك والتعامل.   
   والبصرة الثانية وهي موغلة في أعماق التاريخ والتي ذكر امير المؤمنين (عليه السلام) في احدى خطبه لأهل البصرة ان اسمها (الخريبة)، ذلك لأنها بنيت على خرائب مدينة تريدون البابلية التي انشاها الملك نبوخذ نصر البابلي عام 253 قبل الميلاد، ولكن من المؤكد أنها بنيت على أطلال مدينة فارسية بناها مؤسس الإمبراطورية الساسانية الملك اردشير الاول كانت تسمى (بهمن أردشير) ثم آل اسمها مع الزمان الى الابُلة، وقد انشات على جانب النهر الشرقي  الذي كان يسمى بدجلة العوراء ( شط العرب الان)، فهي مدينة زراعية تجارية نشأت على ضفاف النهر ولها علاقة بالبحر لذلك تميزت بثقافة حضرية تعتمد اللين والسياسة والمداراة بسبب تعاملها مع اجناس بشرية متعددة من الفرس والصينين والهنود والاحباش. (راجع مقالة السيد ضياء نجم الاسدي (2008).   
ماهي الثقافة؟؟
   والثقافة (حسب التعريف الذي وضعه العالم الانثروبولوجي ادوارد تايلر) هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والعادات والتقاليد، وأية قدرات او عادات أخرى يكتسبها الأنسان بوصفه عنصرا من عناصر المجتمع، ولأنها نتاج تكامل الوعي البشري بعد ان يشبع الانسان حاجاته المادية والغرائزية فهي المرآة الناصعة لنضوج الفكر بعد سمو الروح نتيجة اشباع حاجات الجسد، لذلك فلا ثقافة بدون سكن مريح وشارع نظيف وحديقة غناء وملاعب للأطفال ومسارح للصبيان ودور سينما للبالغين واوبرات للمتذوقين ومدارس للمتعلمين وجامعات للدارسين ومراكز عبادة للمؤمنين. فالثقافة تتطلب قبل كل شيء فهما للإنسان ولأنماطه السلوكية التي يتعامل بها مع بيئته ويتفاعل معها.  
   ولا ثقافة بدون قانون يبسط سلطانه على الجميع لا فرق بين سيد ومسود وابيض واسود وسني وشيعي وعربي وكردي ومسلم ونصراني ومعمم ومبرنط (يلبس البرنيطة- القبعة) ومعفَّـل (يرتدي العقال) ومسدَّر (يرتدي السدارة) والا فابشري –يا بصرتي- بالذل والتدهورِ، وطرطري ما شئتِ ان تطرطري، قد جاءك من _بغدانَ- كل شمردلٍ وعبقري –بملبسٍ مزورِ- فعطري وبخري، وطبلي وزمري، وشبهي الظلام ظُلماً بالصباحِ المسفِرِ، وصيري من جُعلِ حديقةَ من زهرِ، وغالطي وكابري وحوري وزوري، ان طولوا فطولي، او قصروا فقصري، او خبطوا عشوا فقولي أي نجم نيرِ، او صنعوا ما لم يبرر منطقٌ فبرري، ولا تغضي الطرفَ عن فرط الحيا والخَفرِ، كوني على شاكلة الوزير بادي الخطرِ، كوني على الاضداد في تكوينكِ المبعثرِ، شامخةً شموخَ قرن الثورِ بينَ البقرِ)*.
المواطن البصري كائن ألِفَ الخراب
   ومثلما تعبر قصيدة الشاعر الإنكليزي العظيم توماس اس. اليوت "ارض اليباب" عن مشاعر الخيبة والالم لجيل ما بعد الحرب العالمية الأولى في عالم مليء بالمخاوف وعدم الاستقرار وملبد بغيوم الياس والقهر ومحاط بأساليب العنف وشهوة القتل واستباحة الدماء دونما امل بالخلاص، كذلك يعاني الانسان البصري الأصيل من ركام غيوم البؤس والقهر والظلم والقسوة والعنف وعدم المساواة بعدما زحف الجراد على مدينته جالبين معهم قيم العنف والفظاظة في التعامل والقيم العشائرية المتخلفة، فعششت طيور الهم في راسه بعدما أمست بصرته ارضاً يباباً وقاعاً صفصفاً من دون أي نسمة لراحة النفس او البال بعدما مُلئت مدينته (التي رغب يوما امير دبي ان تصبح مدينته مثلها)  امتلأت قمامة مادية ومعنوية.
وللخراب بقية...
 
هامش:
* استعارات لفظية من قصيدة الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري (طرطرا) التي انشدها عام 1946، وربما لا زالت صالحة لوصف حالنا بعد مرور 70 عاماً من نظمها، واظنها ستخلد الى أكثر من قرن قادم (مادامت حالتنا هذي الحالة)!!!!
المصادر:
ضياء نجم الاسدي (2008).  البصرة، مقاربة انثروبولوجية http://www.alsada.org/ar/index.php?option=com_content&task=view&id=3451&Itemid=2
 عز الدين ابي الحسن ابن الاثير الجزري. الكامل في التاريخ.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . فائق يونس المنصوري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/02/02



كتابة تعليق لموضوع : البصرةُ... أرضُ الخرابْ (1)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net