صفحة الكاتب : السيد اسعد القاضي

كيف عادت بنات الوحي؟
السيد اسعد القاضي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

ليس بمقدور أيّ كاتب أن يصف حال ربائب الوحي وعميدهن السجاّد وهم رجوع من رحلة السبي.. الرحلة التي لها الأثر العميق في النفوس.. رحلة تباينت عندها قلوب الناس ومشاعرهم.. أحزنت قلوباً وأدمتها.. أفرحت قلوباً أخرى وسرّتها.. أحزنت قلوب الغيارى.. بعد أن أحزنت قلب النبي (ص) والبتول وبعلها الوصي.. في مقابل هذا أفرحت قلب يزيد بن معاوية ومن يسير في سفينته.. أفرحت قلب كل حاقد.. من لا يرغب في اجتماع النبوة والإمامة في بيت واحد.. ينظر للنبوة أنها مُلك وسلطان..

نطوي كِشحاً عما حصل في مجالس اللهو من توهين للذوات القدسيّة.. لا يحتمل قلب الموالي ولا يطيق ذكر جرأة القوم على سادتهم.. سادة الدنيا والآخرة..

ها هي القافلة الحزينة تعود من تلك الرحلة الشاقّة.. المثقلة بالأحزان والأكدار.. لتعود إلى أرض الفداء.. أرض التضحية.. إلى كربلاء المآسي.. حلّوا بكربلاء وهم في حالة تختلف كليّاً عن حالتهم يومَ دخلوها أوّلَ مرة.. تقرحت أكبادهم من الحزن.. انكسرت قلوبهم من الهوان.. تقشّرت وجوههم من حرارة الشمس.. أضناهم العناء والتعب.. نضيف إلى ذلك ما أصابهم من مصاب فقدِ حماتهن.. 

أقاموا في كربلا أياماً قضوها بالنوح والبكاء.. عزموا على الرحيل.. سارت القافلة نحو المدينة أياماً.. يقترب الركب من مدينة عزّهم.. يحطّ الامام السجاد (ع) رحله.. ينصب خيمته.. يُنزل من معه من نساء وأطفال.. يلتفت إلى بشير بن حذلم..

 ـ يا بشير، رحم الله أباك، لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شيء منه؟.

 ـ بلي يا ابن رسول الله، إني لشاعر.  

 ما الذي يريده الإمام (ع) من بشير الشاعر؟.. يسأله هل يستطيع نظم الشعر.. يريده أن ينظم شيئاً من الشعر.. لكن في أيّ موضوع؟.. في موضوع له أهميّته في وقته.. أجابه الإمام (ع).. 

 ـ فادخل المدينة، وانعَ أبا عبد الله.. 

 إن من الشعر لحُكماً.. النعي بصيغة كلام منظوم أوقع في النفوس.. إنه أبلغ في تجسيد الفاجعة.. ركب بشير فرسه.. جدّ السير ليدخل المدينة المفجوعة بسيّدها.. عيون السماء بعدُ لم تجفّ من البكاء على شهيد الظمأ.. لم ترقأ دموع الملائكة.. بل ولا الأنبياء.. لم تخفّ وطأة المصيبة على قلب المصطفى (ع).. ولا بضعته الزهراء (ع).. مصيبة أنستها آلامها وأحزانها..

وقف بشير عند مسجد النبي (ص).. علا صوته بالبكاء.. أنشأ يقول..

 يا أهل يثرب لا مقام لكم بها * قتل الحسين فأدمعي مدرار الجسم منه بكربلا مضرج * والرأس منه على القناة يدار

وأردف: 

 ــ يا أهل المدينة، هذا علي بن الحسين مع عماته وأخواته قد حلّوا بساحتكم، ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله اليكم، أعرفكم مكانه. 

 نعي أقرح الأكباد.. صدّع القلوب.. ترك الناس حيارى.. لم يبق بالمدينة أحد إلا خرج من منزله.. يضجّون بالبكاء.. برزت المخدرات من خدورهن.. يلطمن الوجوه.. يخمشن الخدود.. جاريةٌ للحسين (ع) عدت مسرعة من بين ذلك الجمع الغفير الصارخ الباكي.. خاطبت بشيراً بصوت متهدّج.. تتكلّم والعبرة تكاد تقطّع سلسة كلامها..

ـ أيها الناعي، جدّدت حزننا بأبي عبد الله (ع)، وخدشت منا قروحاً لمّا تندمل، فمن أنت، رحمك الله؟. 

توجّه الحضور نحو الناعي.. ليسمعوا جوابه.. أخبرهم عمّا وراءه..

ـ أنا بشير بن حذلم، وجّهني مولاي علي بن الحسين (ع)، وهو نازل بموضع كذا وكذا، مع عيال أبي عبد الله الحسين (ع) ونسائه.

سمع الناس كلام بشير وقلوبهم تكاد تنفطر من وقع مصيبة تجدّدت عليهم وكأنها حدثت الآن.. ما انتهى من كلامه حتى تركوه.. بادروا نحو الموضع الذي أخبرهم به.. توجّه بشير معهم.. وصلوا إلى الخيمة التي نصبها الإمام السجاد (ع).. خرج (ع) من الخيمة ومعه خرقة يمسح بها دموعاً تجري كأنها السيل.. لم يُقدّر لتلك الدموع أن تجفّ يوماً.. حتى أصبحت تمتزج بالطعام والشراب حزناً على من حُرم الماء.. وضع له الخادم كرسياً.. جلس عليه حيث لا يقوى على الجلوس من وقع المصاب.. وقع نظر الحاضرين عليه.. ارتفعت أصواتهم بالبكاء من كل ناحية.. جعلوا يعزون الإمام (ع).. علا ضجيجهم.. أومأ (ع) بيده أن اسكتوا.. فسكنت فورتهم.. خطب خطبة ملؤها حزن وأسى .. فقراتها المشجية تدلّنا على عمق المأساة.. على تأثيرها في النفوس.. تُعلّمنا كيف ينبغي أن نتعامل مع الفاجعة التي ألمّت بالكائنات وأحزنتها.. وتغيّر العوالم لفداحتها..  خطبة ليست بالقصيرة.. نكتفي بذكر شيء منها..

ــ أيها الناس.. فأيّ رجالاتٍ منكم يُسرّون بعد قتله؟!.. أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله؟!.. أم أيّ عين منكم تحبس دمعها، وتضنّ عن انهمالها؟!.. فلقد بكت السبع الشداد لقتله.. وبكت البحار بأمواجها.. والسموات بأركانها.. والأرض بأرجائها.. والأشجار بأغصانها.. والحيتان في لُجج البحار.. والملائكة المقربون.. وأهل السموات أجمعون.

يا أيها الناس.. أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟!.. أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟!.. أم أيّ سمع يسمع هذه الثلمة التي ثُلمت في الإسلام ولا يُصمّ؟!.. 

يواصل الإمام (ع) خطبته.. يختمها بالإخبار عن حقيقة ينبغي أن لا تغيب عن أذهان الأمة.. بل عليهم أن يعوها بقلوبهم.. تنطوي عليها ضمائرهم..

ــ والله، لو أن النبي (ص) تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاية بنا.. لما زادوا على ما فعلوا بنا. 

الإقرار بهذه الحقيقة ليس بالأمر السهل.. هو الواقع المرّ الذي يصعب الاعتراف به.. ما الذي جناه آل النبي (ص) حتى جرّعوهم الغصص.. صبّوا جام غضبهم.. غليل حقدهم.. بل بلغوا الغاية في إيذائهم وقتلهم وسبيهم وتشريدهم..


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


السيد اسعد القاضي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/11/25



كتابة تعليق لموضوع : كيف عادت بنات الوحي؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net