صفحة الكاتب : محمد الحمّار

كتاب "إستراتيجيا" (2): كلمة لها أكثر من معنى
محمد الحمّار

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

"ديغاج" (أو "ارحل") كانت أوّل كلمة تناولها الثائر التونسي ذات يوم في الفترة الفاصلة بين اندلاع أولى شرارات الثورة في يوم 17-12-2010 و يوم 14-1-2011 تاريخ انتهاء المأمورية مكللة بإسقاط النظام السابق.
وكلمة "ديغاج" هذه، بالرغم من أنها باللغة الأجنبية (الفرنسية) إلا أنها كانت كلمة السر، سر النجاح، والكلمة الرنانة التي خرقت جدران الصمت وتفشت بسرعة الصوت وبقوة الصورة عبر كل المسامع وكل الأبصار وكافة البصائر، في تونس كما في كل بلد عربي وإسلامي بل وفي كافة أصقاع الدنيا.
في ضوء هذه الحظوة التي نالتها كلمة واحدة، فضلا عن الشرف الذي نال كل التونسيين والعرب أجمعين في المقام الأول من ورائها، لا أعتقد أنّ تأثير الكلمة سيتوقف عند هذا الحد، حد الرواج، عبر فايسبوك وتويتر، ثم حدّ الإثارة، إثارة الهمم وحثها على أن تقول "لا" للاستبداد وللظلم.
ولئن اكتفى عامة الشعب بهذا الأثر الطيب لكلمة مفردة، فإنّ الباحث لن يكتفي بذلك، بل من واجبه تقصّي مزيدٍ من الحقائق والمُضيّ قُدُما في مسار التحرر و الانعتاق، لغويا كان أم سياسيا أم دينيا أم كل ذلك معا.
فهل من المشروعية بمكان أن نتحدث عن ثورة معلوماتية أو اتصالية أو فايسبوكية أو تويترية، مثلما يتحدث الأخصائيون من البلدان المتقدمة علميا و تكنولوجيا التي اخترعت هذه الوسائل وروّجتها واستأثرت بواسطتها بعقول الشباب المسلم، أم الأجدى أن نتحدث عن ثورة الكلمة باعتبارها ربما فرصة لا تُعوَّض لإثارة ثورة لغوية في مجتمع مثل مجتمعنا العربي الكبير، أين اللغة لم تُنجز ثورتها بعدُ، ناهيك المعلومة والاتصال والمعرفة في هذا المجتمع؟
أعتقد أنّ الجواب بديهيّ طالما أنّ الحالة اللغوية (بالتوازي مع الحالة الدينية كما سيتبيّن لاحقا) في مجتمعنا التونسي والعربي من الحالات التي أضحت تستدعي منذ زمن طويل معالجة ثورية. وفي هذا السياق أعتقد أنّ مجرد تحوّل مجتمعاتٍ بحالها، على الأقل سياسيا، من وضع المستضعف إلى وضع المستردّ لكرامته،  بين عشية وضحاها و بواسطة كلمات نفاثة مثل "ديغاج" ومرادفها العربي"ارحل"، فضلا عن آلاف الرسائل القصيرة المتبادلة عبر الموقعين الاجتماعيين الأكثر شهرة، والمؤثرة بموجب القانون السيكولوجي المسمَّى بـ"الإيحاء"، يستوجب وقفة تأمل عميقة وتاريخية تستبطن فرضيتين اثنتين على الأقل:
 أولا، أنّ للكلام وللغة نفوذ يفوق النفوذ اللغوي المتعارف حتى لدى الأدباء و الألسنيين. وهو نفوذ ثوري. ثانيا، أنّه قد يكون صحيحا، كما يزعمه بل ويتشدق به الكثيرون من السياسيين والحقوقيين ونشطاء المجتمع المدني، أنّ أحلى ما في ثورة تونس (ومصر وبقية البلاد العربية الثائرة) أنها "لا تحتوي على شعارات دينية وإيديولوجية"؛ لكن الذي ليس صحيحا أنّ "الحلاوة" المتأتية، حسب زعم أصحاب هذا الرأي، مِن خلوّ الثورة من الشعار الديني، لا يمكن أن يتركها عاقلٌ تُستعملُ كذريعة لاستبعاد البُعد الديني للثورة (غير المكشوف عنه بعدُ، افتراضا)، بل أنّ الأقرب من الحقيقة هو أن الثورة التونسية (والعربية) لم تنفلت من الوعي الديني العميق.
 وأمام تزامن الموقف الباهت والسطّحي الذي نستشفه من تصريحات المثقفين والساسة إجمالا مع ما يقابله من فوزٍ "لغوي" (وتواصلي وإعلامي) رهيب، لن يترك الباحث هذه الفرصة تمرّ دون أن يتساءل إن ليس بين الدين واللغة ما يكفي من التواطؤ الطبيعي والإيجابي لإسناد الروح الثورية وتحويل النتاج الثوري إلى نتاج ثقافي مستدام، إن لم نقل لإحداث ثورة في العقول وفي النفوس.
في هذا السياق أتساءل: لِمَ لا يتبادر للأذهان، ولأذهان هؤلاء الفرحين المسرورين بغياب الشعار الديني، أنّ الكلمة الثورية "ديغاج" إنما هي الشعار التحرّري للمسلم المعاصر بناءً على أنّ ثورة تونس أهدت إلى الشعب العربي بأكمله وربما الإسلامي أيضا فرصة تجديد تصوراتها للحرية عند المسلمين من ألفها إلى يائها، حسب مقتضيات الزمان الحالي والمكان الحالي (جغرافية العالم الإسلامي الآن)؟ فما دامت الكلمة نطق بها مسلمٌ فهي من الإسلام. وما دامت دلالتها الثورية صدرت عن قلب المسلم فدلالتها من الإسلام. والثورة التي أحدثتها من الإسلام.
 لنحوصل ونقول: إمّا إننا مسلمون ولم نقم بالثورة، لذا فسنبقى مسلمون نرجئ العودة إلى الفهم الصحيح للإسلام بالطرق البالية. وإما إننا مسلمون وقمنا بثورة، لذا فالثورة ستغيّر المنظور الذي سيتيسر لنا أن نرى من خلاله الإسلام الصحيح.
أمّا ما يبعث على مزيد من الاستغراب من الموقف المتبرئ من دور الدين في الثورة أنّ الحركات الإسلامية نفسها تتباهى بغياب الشعار الديني من الحدث الثوري، ممّا يدعنا نستخلص أنّ لا هُم ولا خصومهم التقليديون (العلمانيون واليساريون عموما) كانوا يحلمون بفرصة لثورةٍ ستتحقق في الفضاء العربي والعربي الإسلامي في يومٍ ما وفي حياتهم. ذلك أنهم لم يعملوا من أجل تثوير العقل العربي. لو فعلوا لَكانوا جاهزين لتوظيف نظرياتهم في الحدث الثوري الحاصل، وذلك بالرغم من صفته المباغِتة. أم أنّ المستقبل سيثبت لنا غير هذا؟
 وما يزيد دلالة على عدم قابلية هؤلاء وأولئك للتفكير الثوري وعدم استعدادهم لأي حدث ثوري وشيك، سواء أكان قريب المدى أو متوسط المدى، أنّك ترى كل طرف منهم يشدد على "غياب القيادات الثورية"، الأمر الذي يعني أنّ هؤلاء وأولئك يتبرؤون لا فقط من دور ممكن للدين بل أيضا من إمكانية التدارك الفكري والإيديولوجي لقيادة ثورة ثقافية شاملة. ومن تبرّأ من القيادة فلأنه غير جاهز للقيادة.
والنكوص الحاصل اليوم باسم الإسلام حجة على التذبذب المنهجي والإيديولوجي. فالإسلام السياسي بصدد تحويل وجهة الثورة من حيث لا تشعر قياداته ولا أتباعه: من حرية المسلم إلى أسلمة الحرية. ولما تؤسلَم الحرية لا يمكن أن يكون هنالك ضمانات لكونها بقيت حرية. ذلك لأنّ الذي يؤسلمها ليس مضمونَ الحرية؛ لا شيء يضمن أنّ الحرية التي يحددها الشخص أو الجماعة من المنظور الإسلامي إنما هي الحرية. إنما ذلك تصوره الشخصي أو تصور المجموعة للحرية في الإسلام. ولا علاقة لهذه الحرية بالحرية الميدانية التي اكتسبها شعب تونس من الثورة التونسية. بينما دور القرآن والسنة من هذا المنظور إلهام المدّ الثوري الشعبي الميداني المكتسَب، ومراقبته وتعديله وشحذه متى لزم الأمر.
 تلك أمور على غاية من الأهمية بل على غاية من الخطورة إزاء مستقبل الثورة والانتقال لإلى حكم تعددي في بلدنا وفي سائر البلاد العربية. حيث إنّه لا تعددية بغير حرية. وإذا لا تُعاد صياغة  مفهوم الحرية بحسب متطلبات ثورة 14-1 وبحسب قراءةٍ تدعيميه للثورة، فعن أية حرية سنتحدث؟ وإلاّ فأي شكل ستأخذه التعددية (الديمقراطية أو غيرها) والحالة تلك؟ 
في ضوء ذلك، لئن كانت ثورة تونس وسائر الثورات العربية خارجة عن كل التنبؤات، فإنّ الواقع الثوري الحالي، اليومي، لن يرضى بأقلّ من ذكاءٍ متدرّبٍ على التفكير الثوري للإسهام في تسيير الثورة نحو الوجهة التاريخية الصحيحة. وهل سترضى ثورة تونس بفكر الإسلاميين التقليديين أو بفكر أيٍ كان من الفصائل الأخرى (المهيكلة) على بِكرة أبيها قادةً لها، والحال أنّ لا هؤلاء ولا أولئك يملكون القابلية الثورية ولا التفكير الثوري ذي الأسبقية الزمنية عن الثورة المندلَعة؟
 وأذهبُ إلى أبعد من ذلك لأفترض أنه لا يمكن تصديق أن الثورة العربية بقيت منفلتة عن الوعي الديني، حتى لو افترضنا جدلا أنّ الانفلات حاصل فعلا. إذ لا يمكن لشعب تونس أن يبارك "غياب الشعار الديني" و"غياب القيادات الثورية" ذات التفكير المتأصّل في الثقافة الإسلامية ويظل، في الآن ذاته، مطمئنا لكونه ينتمي ولا يزال ينتمي إلى الإسلام، إن لم يكن ذلك الانتماء دينيا وعقديا، فثقافيا وحضاريا.
إذن فالذي يُفرضُ على الباحث ليس اختلاق مبرراتٍ تاريخية وإيديولوجية لثورة قد يكون لم يساهم فيها (كما قد يكون؛ وهذا ما شاع التعبير عنه بعبارة "الركوب على الثورة")، وإنما صناعة أسباب اكتمال الثورة النفاثة الحاصلة، في بُعدها الثقافي الشامل. وتتمثل الصناعة في بناء الأسس النظرية المُستقاة من أرضية الثورة ذاتها ومن طبيعة الثورة، لكي يساعد المثقفُ المنكبّ على المسألة الشعبَ، مُنجزَ الثورة، على التفتيش عن مبرراتٍ ذاتية يدعم بها استدامة الثورة. كما يتمثل التبرير الذاتي من باب أولى في تحقيق التمكين التعددي (والديمقراطي ) اللازم للانتقال السلس والثابت، سيما أنّ بضعة أسابيع فحسب تفصلنا عن انتخابات 23-10-2011 التاريخية. وكم نحن بحاجة إلى هزة تنويرية غير مسبوقة تضاهي الهزة السياسية الحاصلة. فهل من الممكن إذن تحقيق التنوير بثنائي اللغة والدين؟
محمد الحمّار
الاجتهاد الثالث
* كانت هذه الحلقة 2 من كتاب "إستراتيجيا ومشروع النهوض بعد الثورة".
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الحمّار
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/08/05



كتابة تعليق لموضوع : كتاب "إستراتيجيا" (2): كلمة لها أكثر من معنى
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net