صفحة الكاتب : د . صادق السامرائي

إلى صديقي الذي أخبرني بأنه مات....!!
د . صادق السامرائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 في مدينتنا الجميلة الرائعة المتهادية على ضفاف دجلة، الشامخة بالكبرياء والعزة والتأريخ، والمتطلعة بشواهدها إلى السماء والساعية بمآذنها نحو المطلق، كنا نجوب طرقاتها ونلعب في ساحاتها، ونعانق مياه النهر الجارية بقوة وإنسيابية ذات أنغام تمنحنا الهدوء والطمأنينة والأمل.

وكنا صبية، وسمعنا به لأنه  لمع في رياضة بناء الأجسام، فاتخذناه مثلا فيها وصرنا نمارسها بشغف بسببه ,  وفي أيام العطلة الصيفية، نراه عصر كل يوم على ضفاف النهر يتمرن في الهواء الطلق، واقتربنا منه أكثر وأكثر، يشدنا إعجاب به ومشاركة بتلك الرياضة. 
فصار أستاذنا ومدربنا في كيفية بناء أجسامنا، وكان يريدنا أن نترجم مقولة الجسم السليم في العقل السليم بالفعل لا بالقول. 
وتطورت علاقتنا وأصبحنا أصدقاء , وأخذنا نلتقي به يوميا لنمارس التمارين الرياضية، وبعدها نجلس في حلقة فوق الرمال لنتحدث عن شؤون الأدب والثقافة، وكان يخيّم صيفا عند النهر بأثقاله التي يتمرن بها، ومعه كيس صغير يحوي كتبا يقرؤها. 
وكانت حلقاتنا الثقافية اليومية تتناول الأدب العالمي لجميع  الكتاب الذين كانت لديهم كتبا مترجمة إلى العربية , فما أبقينا كتابا لكاتب أجنبي إلا وتناولناه، وكانت مكتبة مدينتنا العريقة موئلنا، فنقضي فيها معظم الوقت صباحا لنقرأ ما يوجد من كتبهم، وعند العصر نذهب إلى الرياضة وبعدها نتحدث عمّا قرأناه ,  وفينا أيضا مَن يقرأ للعقاد ولتوفيق الحكيم  ولطه حسين والمنفلوطي وجبران ويوسف إدريس وحتى للغزالي وآخرين، وغدت تلك الحلقة اليومية ذات طعم خاص ولذة ثقافية وقيمة وأثر في حياتنا فواظبنا على المشاركة الفعالة فيها. 
وكان صديقنا يديرها بشغف وحب ويتحاور معنا فيما قرأه من مقالات وموضوعات، وكنا لا نريد لتلك الحلقة أن تنتهي لثراء موادها الثقافية وتفاعل العقول المشاركة بجد وإجتهاد ,  وما لدينا هدف سوى حب الثقافة والرياضة والإبداع . 
ومن المجلات التي كنا مغرمين بها مجلة لبنانية إسمها    " نجوم الرياضة" فنتابع أعدادها لأنه يقرؤها ونحن المشغوفين برياضة بناء الأجسام. 
ولم يكن ميسور الحال لكنه ثري الثقافة والخيال، ويجهد في مساعدة والده على حمل هموم المعيشة وسد حاجات العائلة.
ومع الأيام توطدت علاقتي به وتطورت موضوعاتنا وتعمقت ونضجت، وفي كل لقاء نغوص بموضوع ثقافي شائك، نصب فيه ما نستطيعه من الرؤى والتصورات. 
وكنا نكتب القصة القصيرة ونتناقش فيما نكتبه بين الحين والآخر، لكنه لم ينشر ولم أنشر.
وبعد أن ذهب للدراسة لكي يكون معلما، إنقطعت أخباره عني، وكنت ألتقيه كلما سنحت الصدفة بذلك ,  وبعد أعوام أصبحت طالبا في الكلية، وفي أحد الأيام، وأنا مزمع على  السفر إلى كليتي، وجدته منتظرا لسيارة ستنقله إلى القرية التي يعمل فيها، فرحبنا ببعضنا، وأخذ يحدثني عن حياته وأيامه، وكيف أنه يشعر بالسعادة الغامرة، لأنه يعلّم في قرية، ويقضي ليله في بيت من الطين، ويأكل طعاما بسيطا، ووجدته قد زهد كثيرا ومال إلى التفقه في الدين , والبحث عن الأفكار وممارسة رياضة التأمل وغيرها من الرياضات، فانتقل من رياضة بناء الأجسام إلى رياضة بناء الروح.
وقال لي: أنت ستكون كذا بعد بضعة سنين، وسيكون لك مستقبلك
قلت: إنشاء الله نكون جميعا بخير
قال: أنا قد وجدت مستقبلي وعرفت غايتي وأعيش سعادتي
قلت: وكيف يكون ذلك وأنت في القرية وتعيش في غرفة الطين كما ذكرت
قال: إنها أروع لحظات الحياة وأعمقها وعيا وثقافة 
ومضينا في حديث متشعب ,  ثم أخذني جانبا وأخرج كتيبا صغيرا من حقيبته السوداء التي يتأبطها، وكان الكتيب عن الدين والتراث. 
وقال لي غاضبا: هل قرأته، سأفنده وأرد عليه. 
قلت: ألا تخاف؟!!
قال: وهل تحسبني أعرف الخوف , أو لازلت حيا في هذا الزمن الميت؟!
وبعد نقاش وتبادل آراء حول الموقف من التراث، ودعته بحرارة وشوق وودعني بحزن وألم، وهو يريد أن تتكرر لقاءاتنا ,  لكننا ماالتقينا بعد ذلك اليوم، ولم أقرأ له ولم يقرأ لي. لكنني بقيت أتذكره، وأراه من الذين ساهموا في صياغة  تفكيري وتوجهاتي  ,  لأن تلك اللقاءات الثقافية الحامية الجادة الثرية ونحن في صبانا، كان لها أكبر الأثر في تنويرنا وفتح بوابات عديدة في عقولنا , وجعلتنا نعشق الثقافة والأدب عشقا غريبا ومتواصلا، ونمارس الكتابة والنشر ,  رغم أننا لا نكسب منهما، ولا نحتاجهما لإمتلاكنا ما يساعدنا على الحياة. 
وكلما تساءلت لماذا التمسك بالقلم والكتابة والكتاب، أعود إلى أيام تلك الحلقات الثقافية النقية الصافية الرائعة التطلعات، وأدرك أنها ربما كانت السبب.
وأمعَنت بفرقتنا الأيام والأحداث والتطورات، وعاش صديقي في الوطن الذي يخنق الطاقات ويحطم القدرات , ويمنع العقول الفذة المبدعة من التفاعل والنماء ,  وعندما عرفت بخبر وفاته ، توقدت الذكريات وحضرت تلك الأوقات الغنية بالمعرفة والإبداع، وأدركت أنه لا يتحمل ألما وحزنا كحزن الوطن الذي عشقه وبث أنهاره لوعة الوجد الإنساني النبيل. 
وبودي أن أقرأ له، لأرى كيف صار يفكر ذلك الإنسان الممتلئ بالحيوية , والباني لجسمه وعقله وروحه أحسن البناء.
فتحية لك يا صديقي والموت يكحل عيون الذكريات ,  وألف تحية لمدينتنا الزاهية بالعقول والأمنيات.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . صادق السامرائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/09/10



كتابة تعليق لموضوع : إلى صديقي الذي أخبرني بأنه مات....!!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net