قراءة في كتاب الدين والظمأ الانطولوجي
سمير الناصري
توجه الدكتور عبد الجبار الرفاعي مؤلف هذا الكتاب الى نقد الايديولوجية والفكر الثوري والشمولي للتغير لانه بحسب رأيه يؤدي الى صهر الفرد وذوبانه في مركب الجماعة مما يفضي الى نكران الذات وفقدان القيمة الفردية والروحية , بل انه سيؤدي ايضا الى فقدان الروح التأملية والفكرية الحرة, ولذا تجد الاتجاهات الاسلامية المؤدلجة ترفض التفكير الفلسفي الحر وتشن حربا لا هوادة ضدها.
ان الجماعات المؤدلجة والاسلامية كنموذج واضح تسعى بفعل اعلامها وشعاراتها التغيرية الى تسطيح الافراد وتنويمهم اجتماعيا, وتبث فيهم روح القطيع ومنهج الهمج الرعاع , فتضمحل فيهم القدرة على الخلق والابداع.
ان الخطاب المؤدلج يؤثر في تفشي أنماط همجية متوحشة من العنف الديني, تلك الصورة التي يبرز فيها داعش كأوضح مثال.
وفي مقابل ذلك دعا الدكتور الرفاعي الى الانطولوجية , اي الدعوة نحو رؤية وجودية عرفانية هي عبارة عن صوفية مجردة عن التنكيل بالجسد وتجاهل قواه الطبيعية , بل هي دعوة صوفية قوامها المحبة والسلام الذي بإمكانه احتضان الاخرين على اختلاف اتجاهاتهم تلك التي جسدها ابن عربي بقوله:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي .. إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ .. فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ
ِوبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ .. وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن
أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ .. ركـائـبهُ ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني
واثر هذه الرؤية الصوفية المشذبة انها تصل بالانسان الى فضاءات لا يمكن للعقل ان يصل اليها والتي تعجز الخبرة البشرية عن تأمينها لحياة البشر.
لا ادري هل أن صب اللعنات على الايدلوجية نشأ بسبب واقع الصدمة التي مني بها الدكتور من رفاق الماضي وأصدقاء الحاضر أو مما وصل اليه واقع الاحزاب اليوم, إن كان كذلك فله الحق في ذلك. لقد حملت الشعارات التي رفعها قادة الاحزاب صورا ملؤها الطهر والقداسة والتي اخذت على عاتقها تحرير الانسان من عبادة البشر والطواغيت, واخذت بلب الكثير من الشباب بل خيرة الشباب والقت بهم في مهلكة الردى, في حين تجسدت عند اغلب حملة تلك الشعارات صورا قاتمة احتل التنافس على الدنيا مرتبة كبيرة فيها.
لكن ذلك لايبرر للدكتور رفض الفكر الايديولوجي وكان عليه ان يأتي بالادلة المقنعة لرفض الايدلوجية, خصوصا وهو يدعو الى التمسك بالفكر العرفاني الذي بدوره يحمل شعارات ترتفع بها القداسة الى اعلى المستويات حيث الاتصال بالله ووحدة الشهود والوجود, في حين اننا نجد اكثر مدعيها يمتهنون الدجل والخداع للبسطاء من الناس. 
نجد التمجيد للانطولوجيا وهي الرؤية الوجودية والحضورية ذات المسلك العرفاني وهي رؤية فردية لا يمكنها ان تخرج عن مسار الفردية وتنصهر في اطار اجتماعي ما لم تتخذ طقوسا وتشريعات تميزها عن الاخرين, ان ما يميز الاتجاه العرفاني هو فرديته لانه اساسا ينطلق من رؤية وجودية مميزة لايمكن ان تكون ملكا مشاعا للجميع فهي تتحدث عن استعداد خاص وعمل دؤوب وسلوك خاص كي يتمكن الفرد من نيل الكمالات الوجودية ومراتب الرقي والسير السلوكي والتي تتطلب اوعية خاصة ونماذج فريدة وتجعل من العزلة هدفا اساسيا لها يعيش فريدا بقلبه مبتعدا عن الاخرين حتى وان كان يعيش معهم بجسده.
هي اذن حالة حضورية تجعل من الانسان يرتبط بالله لانه دائما في محضره وليست مجرد ترديد وقراءة اشعار مولانا الرومي او تفكيك عبارات ابن تركة اوفصوص ابن عربي .
ان تعميم هذه الحالة الصوفية اجتماعيا وعدم قصرها على من لهم الاهلية له اثر سيئ اذ انه سيخلق اتجاهات سلوكية منحرفة عن التعقل والانسانية غاية الانحرف, ولهذه الاتجاهات امثلة كثيرة حملها لنا التاريخ.
ان الدكتور يتحدث عن افراد قلائل حملوا تلك الروحية لوجود لياقات خاصة بهم, انه يتحدث عن ابن عربي وجلال الدين الرومي واخرين , هؤلاء توفرت لديهم تلك القابليات بحيث صار قلبهم جامع كل صورة لكن انى لنا ان نعطي هذه الخاصية ونعممها لتكون سلوكا اجتماعيا شاملا من دون ان تفقد مميزاتها المذكورة ومن دون ان تنخرط في التقليد الاعمى والنمطية السيئة والسلوك المنحرف. 
وفي اطار نقد الدكتور الرفاعي للايديولوجية يرى ان بث الروح الثورية في الاسلام يعد ترحيلا خطيرا لوظيفة الدين لان وظيفته ستصبح سياسية نضالية كفاحية, وسيؤدي الى تجييش الجمهور على رأي واحد مما يؤدي الى تعطيل العقل واشاعة البلاهة, وهذه الطريقة هي الاشد اعاقة للعقل والاكثر تأثيرا على المجتمعات, يصب جام غصبه على الدكتور شريعتي لانه قام بتحويل الاسلام من ثقافة الى ايديولوجية , وحول من شخصيات الاسلام وقادته الى شخصيات ثورية كفاحية. 
لكن الرفاعي ـ وهو الذي يمجد الدين والاسلام ـ لم يوضح لنا كيف سعى الاسلام لتحقيق العدالة ورفع الظلم والحيف عن الناس وهل اتخذ نهجا تغيريا او لا؟.
وكيف يمكن لاي مصلح يحمل على عاتقه مشروعا اصلاحيا يبثه بين الناس فيتحمسون له ويؤيدوه ويقفوا معه من دون ان يقعوا في مضار الايدلوجيا التي ذكرها الدكتور.
وكيف يتسنى للدكتور الرفاعي نفسه ان يقنع الناس ويحثهم بحماس لنبذ الوضع الراهن والفاسد برأيه فيدعوهم للولوج في انطولوجيا ابن عربي المشذبة من جلد الجسد وتعذيبه مع تجنب من يتبعه من المضار التي ذكرها, فهو ليس بمنأى عن تلك المضار ما دام يحمل فكرا تغييريا وليس الامر له علاقة بالمسميات.
ان خلف الدكتور علي شريعتي اسماء كبيرة حملت فكرة التغيير وقد تجنب الرفاعي المساس بها يمكن ان يكون الصدر المثال الاوضح لذلك.
والمسألة الاهم التي لم يتعرض لها الرفاعي والتي سكت عنها سكوتا غير مبرر وهي ما مثله منهج الامام الخميني الذي جمع الاتجاه التغيري والفكر الثوري اي الفكرة الايدلوجيا بكل ابعادها, الى جنب الفكر الصوفي والروحي بابعاده الاخرى.
ويمكن ان اضيف بعض الملاحظات العامة:
ملاحظة1 : ان الدعوة نحو النزوع الفردي والتخلي عن المسائل العامة والقضايا المصيرية المشتركة ليست حلا سليما لما نشاهده من الصراعات الطائفية والاقليمة, لانها تمثل دعوة عزوفية ورؤية سلبية يكون محور تفكير الشخص ذاته لاجل خلاصها انها دعوة سلبية غير مقدسة وان صورت بطريقة مقدسة على اساس ارتباطها باسم الله.
ملاحظة2: رغم تكرار الدكتور الرفاعي ان الايديولوجيا تؤدي الى تحجيم العقل وتسطيح الفكر لانها ترسم حدودا لا تبيح لاتباعها تجاوزها, الا انه لم يبين الاسباب الاساسية لهذا الامر , وغاية ما جاء به هو ان الاعتقاد بالفكرة يؤدي الى الايمان بها من غير دليل ومن ثم سيؤدي الى منع العقل لان يلج حريم ما امن بها وقدسه.
وهذا الكلام رغم عموميته الا انه غير صحيح الا في اطار الجماعات التي تصرح بحرمة التفكير في خارج مجال ما تؤمن, وخصوصا الفكر السلفي منها, والا فحرية التفكير قائمة على جذور كلامية وهي شاملة لكل الاتجاهات الايديولوجية والجماعات الاسلامية.
نعم قد نجد امثلة حية وشواهد خارجية من الاتجاهات الحزبية على صحة ما يقوله الدكتور لكن هل ان الحزب هو من اثر في تسطيح عقل متبعيه ام ان لسطحية عقولهم اثر في اتباعه, وهل يخلوا اتجاه اي مسلك اجتماعي من نماذج سطحية في التفكير , وهل يحق لنا عندها ان نتهمهم بان هذا التسطيح نشأ من ذلك المسلك او الحزب .
ملاحظة 3: اهمل الدكتور الرفاعي حسنات الايديولوجيا والتي من اوضحها انها تحفز الناس نحو العمل والانتاج وبناء الحضارة وهذا امر استفادت اغلب الدول في الماضي والحاضر , كالولايات المتحدة الامريكية التي ترى نفسها الدولة الاولى عالميا وتغذي شعوبها اعلاميا على رؤية النموذج الامريكي هو النموذج الذي يمثل نهاية العالم حيث فوكاياما وهنجنشتون.
ويرى كثير من المثقفين ان فكر ما بعد الحداثة ورؤية التفتيت الوجودي يمثل خطرا حقيقيا على هذه الرؤية الايديولوجية التي بفضلها قامت امبراطورية امريكا كل هذه السنين.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


سمير الناصري

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/08/24



كتابة تعليق لموضوع : قراءة في كتاب الدين والظمأ الانطولوجي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net