صفحة الكاتب : ادريس هاني

في تفكيك المصلحة والاعتقاد استراتيجيا التناص ودورها في تجديد الفهم الدّيني
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

أنظر في دعوى فكرة إسلامية المعرفة وفوضى أدواتها المعرفية، وأنظر في إنشاءات دعاة الحديث الحشوية وجمود نظرتهم إلى النّصوص، كما أنظر في دعوى القرآنيين وافتقارهم إلى منهجية مقنعة في التأويل، وهي محاولات للهروب إلى الأمام..فحينما يغيب المنهج الخلاّق لا ينفع أن تستأثر لا بقرآن ولا بحديث ولا بهما معا..إنّ الفريضة الغائبة عن هذه الممارسة هو تدبير المعنى وفق آلية تأويل غابت وغيّبت عن الأمّة..وبات على قلوب أقفالها..

يبدو أنّ علم الكلام ظهرت أزمته معه حينما بدأ يظهر عجزا عن حل بعض أشكال القناعات العقائدية وفق تقنيات الحجاج المتعارف عليها أنذاك..وكان هذا أمرا طبيعيا لأنّ الحجاج هو ابن المعطيات التي آلت إليها الحيل الجدلية التي هي قوام علم الكلام..حدّد علم الكلام وظيفته في الدفاع عن العقيدة..والدفاع هو مشروع أيديولوجي لأن وظيفته الإقناع والدّفاع عن القناعات..وبعد ذلك كانت صدمة الكلام الحقيقية بالفلسفة، بعضهم أعاد تنظيم المضامين الكلامية وفق آليات فلسفية مما يعني أننا امام وظيفة دفاعية ووظيفة معرفية ارتبطت منذ البداية بتدبير العقل..أصبحنا أمام اعتقاد المتكلمين واعتقاد الحكماء وبينهما مستويات من الاعتقاد تتقاسمه العامة والحشوية..ارتكاز علم الكلام على النصوص لم يعد يكفي للدفاع عن المعتقد..فهي نصوص قابلة للتأويل وفق آليات متشظّية حسب المدارس والأهواء..النصوص هي الأخرى تمذهبت سكولاستيكيا..ماذا في وسع الفلسفة أن تقدّم للمعتقد؟

أعود لأركّز على أهمية التناص في تطوير عملية التأويل الإسلامي..ذلك لأنّنا إن نحن لم نستوعب أزمة محدودية النصوص ونهائيتها في قبال لا نهائية المعنى وتشكله فلن نفهم القيمة المنهجية للتناص في إنتاج المعنى..لست أوافق على نظرية العود الأبدي لنيتشه من حيث ذهابه إلى محدودية تشكل أشياء العالم من المادة المحدودة..هذا إن نحن جاريناه فهو محصور في قوانين المادة لا قوانين اللغة..فلا عود أبدي في التفكير بالضرورة، لأنّ العود الأبدي ضدّ الجركة الجوهرية للمادة والنّفس..العودة الأبدي هو بالفعل تراجيديا المادة والفكر..ولكن لنا مع فكرة العود الأبدي حكايات أخرة سنتطرق لها في سياقها..غير أنّنا نؤكّد على أنّ فكرة العود الأبدي قد لا تصح من منطق محدودية التشكل المستمر للأشياء، ولكن قد تكون صحيحة بالنظر إلى فيزياء الطّاقة وقواعد التيرموديناميكا والميكانيكا وتاريخانية فيزياء الانفجار العظيم..ولكن ثمة فرصة للمقايسات..فالانفجار العظيم للمعنى الذي نتج عن ميلاد اللغة ولنقل تشظّيها البابلي كان له فضل في هذا التشكل المستمر للكلمات..وتنهض فكرة التأويل عندنا على محدودية الألفاظ ولانهائية المعنى..وهذا الأمر لا ينحلّ إلاّ بجدل التّناص..نقصد بالتناص هنا ليس قراءة النص في نص ينتمي للمنظومته ذاتها بل فتح النصوص على سائر نظائرها التي هي نتاج لبيغ بانغ اللغة والمعنى..ذكرنا أيضا أنّ لسانيات باختين كانت قد حامت حول هذه الحقيقة..وأمنت طريقا للتجاوز الخلاّق انطلاقا من النصوص التي لا مناصّ منها في تأسيس المعرفة..وهي نصوص أبعد مدى من الوثيقة المكتوبة..فالممارسة الشفهية وأضيف إلى ذلك الحوادث الصامتة هي نصوص لا تقلّ أهمية عن المكتوب..لكن بما أنّ الأفكار تبني لها نظاما راسخا في بنية اللغة فإن مصائر المعنى ستظل رهينة بالاستثمار السياقي للألفاظ..هنا تتجلى حتمية التأويل باعتبارها في صلبها هي عملية تناص مفتوح..وهي عملية لا تكشف عن المعنى فحسب بل تنتج النصوص أيضا..فكل قراءة وتأويل هي نص..وهذا يجعلنا نؤكّد على أنّه ليس المعنى وحده من يتجدد بل حتى النّصوص تتكاثر..ولقد سمّى القرآن التأويل قرآنا:(ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه)..وقد كان يعتبر القرّاء ـ وهم أهل تأويل ـ تأويلهم قرآنا..لذا كان ما يعرف بفتنة حرق القرائين..وهي في الحقيقة حرق تآويل كانت لها أسبابها الأيديولوجية وكذا السياسية..لأنّ بعضهم عمل بمقتضى أن القرآن لو قرئ كما أنزل، أي وفق التأويل الدقيق، لوجدوا فيه مسمّين..كان التأويل آلية ثورية محقت في التراث الإسلامي لأسباب غير معرفية..في هذا السياق أحب أن أذكّر بنظرية توسيع الحديث..أو التوسيع المستمر للسنّة..هذه الفكرة قصدت بها أنّ الحلّ لا يوجد لا عند القرآنيين ولا عند أهل الحديث..الحلّ في التأويل، وإنتاج السّنن..فالسنة لم تنته حتى نجعلها تحت رحمة الجرح والتعديل بل يمكن تصحيحها عبر التّناص..تعريف الحديث بأنه هو ما جاء به النبي تعريف قاصر جدّا..وسأحدث لك في هذه النازلة ذكرا..إنّ حديث النبي هو حديث نموذجي تعليمي تربوي هدفه تربية العقول على إنتاج السنن..لكن حينما طغى المفعول الجامد للتاريخ..وأخضعت السنن النبوية إلى سنن التأريخ في الغلب كان لا بدّ من التأويل..والتأويل هو التناص..والتناص هو المنهج النبوي نفسه الذي دعى إلى إحكام السنة بالقرآن..فإن لم يوافقه فالعب به الطّابة وإن وافقه فالزمه سواء قاله النبي أو لم يقله..هذا العبارة الأخيرة قاله النبي أو لم يقله هي الأخرى مما جاء في الخبر عند أعلام الفقه والحديث ولكن لم يقفوا عندها البتة.. يا للهول...ومعناه أنّ الأصل في السنّة هو ما يوافق القرآن..وحتى لو كان الخبر من غير النبي ووافق القرآن وفق آلية العرض المذكورة فهو نبوي سواء أقاله النبي أو لم يقله لأنّ أصل السنة هي التعبير عن المضمون القرآني والسنة هي ما وفق القرآن..والكاذبون ليسوا فقط من يروي كذبا بل من يشرح القرآن مغالطا..وعليه كان كلّ نص علمي أو معرفي يوافق القرآن وفق آلية التأويل المزبورة كان نصّا نبويا ..وهذه دعوى أبعد مدى مما ذهبت إليه أيديولوجيا إسلامية المعرفة وقد تاهت في مقولات تعسفية على المعرفة والدين معا..فانظر إلى ما قال ولا تنظر فيمن قال لتدرك أن التأويل معني بقراءة النصوص وتأويلها وقراءة المتشابه منها في سياق نظيرها المحكم..ولا طريق مستقيم غير فعل إحكام النصوص بالتّناص وآلياته المانعة له دون السقوط في فوضى المماثلات السطحية التي هي مصداق للتأويل الماحق للمعنى والمراد الجدّي..السنة إذن هي كل قول تقرأن..وكل قول تقرأن أي في ضوء القواعد العامة حيث لا شيء يناهض القواعد العقلية العامة ولا الوجدان العلمي ولاسنة تعمير الأرض واختراق أسرار الكون والسير في مسار الاقتصاد في العلم ونبذ غير المقنع..كل ما هو كوني يفترض أن يكون مقرأنا..التقرؤن هو فعل تأويلي يتناص فيه القرآن مع كل نص محتمل لتعزيز استراتيجيا الإحكام..وحصيلة الإحكام هي نصوص جديدة وقراءات متجددة..

في إطار ما ابتدأنا به الحديث عن المقنع وغير المقنع من آليات علم الكلام، فإنّ معظم ما استند إليه هذا العلم هو نظرية الإمكان.. وبالفعل لا شيء عصيّ على الإمكان..ولكن الإمكان لا يكفي في عملية الإقناع..فلو سلّمنا بنظرية الإمكان لاعتقدنا بالأطروحة ونقيض الأطروحة..من هنا تعيّن أن يضاف إلى الإمكان عامل إضافي حاسم طبقا لقاعدة قبح الترجيح من دون مرجّح..العامل المرجح في حجة الإمكان هو الفكرة الراسخة في المحتوى القرآني والذي يتعلّق بالتجارة والمقصد والمصلحة..وهي قيم تتشابك مع قيم أخرى لا تنفك عنها..لأن انفكاك المقاصد عن منظومة القيم الأخرى يجعلها شكلا من المغالطة القيمية كما نجد لدى دعاة المقاصد في زماننا هذا..إنّني أرى أن ثمة ما هو أكثر حيوية لحلّ معضلة الكلام غير المقنع بالمعنى المنطقي للعبارة..العودة إلى إرادة الاعتقاد..فحينما يتّحد الاعتقاد بالمصلحة ينتجان قوّة الحضور..هذا هو الشكل الذي يمثّل الحدّ الأدنى من الاعتقاد..وليس كل الاعتقاد كما ذهب وليام جيمس..البعد البراغماتي للاعتقاد هنا يشكّل عامل أمان للاسهلاك العام للمعتقد..في هذا المستوى نستطيع القول بأن: 

الإمكان + المصلحة = الاعتقاد

دور النص هنا تأسيسي..لكن انكسار النصوص يجبر بنظرية الإمكان والمصلحة..فلا موضوع بعد ذلك للتسامح في أدلّة السّنن..وفي كلّ جيل وجب أن تراجع أسس الإمكان والمصلحة لتعزيز المعتقدات..

إنّ اعتقادات العوام تقوم هي الأخرى على مرجح الإمكان بقيد المصلحة..إنّ زهد العوام واعتقاداتهم ليست سوى الضامن في حدّه الأدنى حيث يلعب الطّقس دورا كبيرا في جدلية قيام المعقول العقدي على اللامعقول الثقافي..فالمعرفة كالاعتقاد كما في العقل الشعبي هي منظومة من المفارقات التي لا محيد عنها لاستمرارية المقدّس في وعي ولا وعي الحشود..وكل المعاني كذلك: الدين، الأيديولوجيا، الثورة...كلها تقوم في ذهن العوام على حدس المصلحة ومفارقات الإمكان..ولكن التخلي عن هذه ممكن وببساطة لدى العوام متى غاب مرجح المصلحة وبقي الإمكان وحده حيث يبدو قادرا على استيعاب الشيء ونقيضه..يظل اعتقاد العارفين والحكماء وأهل الخبرة والأسفار العقلية والروحية هم من يجري الاعتقاد لديهم على مقتضى قوانين أخرى غير قابلة دائما للاقتسام..قوانين تحضر فيها الحقيقة بنحو غير متاح لمن جعل الإمكان والمصلحة طريقا للاقتناع بالأحرى من جعل الإمكان وحده أو المصلحة وحدها طريقا للاعتقاد..وهو ما كان حقيقا بنعته بمعتقد الأحرار...


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/07/29



كتابة تعليق لموضوع : في تفكيك المصلحة والاعتقاد استراتيجيا التناص ودورها في تجديد الفهم الدّيني
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net