صفحة الكاتب : خالد محمد الجنابي

في ذكرى ميلاد الجواهري شاعر العرب ألأكبر
خالد محمد الجنابي
 ولد الشاعر محمد مهدي الجواهري في محافظة النجف الاشرف في السادس والعشرين من تموز عام 1899 م ، وكان والده عبد الحسين عالما من علماء النجف و أراد لابنه ان يكون عالما بعد ان بدت عليه ميزات الذكاء لذلك ألبسهُ عباءة العلماء وعمامتهم وهو في سن العاشرة . 
 
تحدَر الجواهري من اسرة نجفية عريقة في العلم والادب والشعر تعرف بآل الجواهر ، نسبة الى احد اجداد الاسرة الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر ، والذي ألَف كتابا في الفقه اسماه (جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام ) وكان لهذه الاسرة ، كما لباقي الاسر الكبيرة في النجف مجلس عامر بالأدب والأدباء يرتاده كبار الشخصيات الأدبية والعلمية . 
 
لقد قرأ الجواهري القرآن الكريم وهو في سن مبكرة لذا فقد ارسله والده الى مدرسين كبار ليعلموه النحو والصرف والبلاغة ، وقد كان قوي الذاكرة ، سريع الحفظ ، ويروى انه في احد المرات وضعت امامه ليرة ذهبية وطلب منه ان يبرهن عن مقدرته في الحفظ وتكون الليرة له فغاب الفتى ثماني ساعات وحفظ قصيدة من ( 450 ) بيتا واسمعها للحاضرين وقبض الليرة ،وكان ابوه  يريده عالمًا لا شاعرا‘ لكن ميله للشعر غلب عليه ، وفي عام 1917 توفي والده وبعد ان قضيت ايام الحزن عاد الى دروسه وأضاف اليها دروس البيان والمنطق والفلسفة .
 
كان في بداية حياته يرتدي العمامة لباس رجال الدين لأنه نشأ نشأة دينية محافظة ، وأشترك في ثورة العشرين وهو لابس العمامة ، بعدها أشتغل فترة قصيرة في بلاط الملك فيصل الاول عندما توج ملكا على العراق وكان لايزال يرتدي العمامة ، ثم ترك العمامة كما ترك الاشتغال في البلاط الفيصلي وراح يعمل بالصحافة بعد ان غادر النجف الى بغداد ، وقد اصدر مجموعة من الصحف منها جريدة الفرات وجريدة الانقلاب ثم جريدة الرأي العام . 
 
الجواهري ومنذ ان وعى ذاته وقدراته الذهنية والاستيعابية والابداعية في مجال الشعر راحت تعتمر في داخله غربة عارمة اكتشف من خلالها كل مايدور من حوله وكانت شخصيات البحتري والمتنبي وابي تمام وبشار بن برد وابي العلاء المعري تتلبسه بعنف وتلوي عنقه باتجاه ابداعاتها وطرائق حياتها ، واساليب معيشتها ومواقفها أزاء مجتمعاتها ، في النهاية أضحت واحدة من هذه الشخصيات تعيش وتأتلف معه وتنادمه ووجد ذاته تتغرب تدريجيا وتبتعد عن تلك الاجواء المفعمة بطقوس الفقـــه وعلوم الدين ، وتتجه صوب ماأراد لها ان تكون ، وتتغنى بلغة هي ليست اللغة التي أرادها له ابوه ، وليست اللغة المستعملة بين الناس في التفكير ، لأن الناس لايفكرون شعرا . 
 
الجواهري واحد من ذلك الرهط الشامخ بل هو اولهم ، رهط امرىء القيـس ، وطرفة بن العبد ، وعروة بن الورد ، والبحترى ، وابي تمام ، والمتنبي ، وابي العلاء المعري ، ينتمي اليهم في شموخهم ولغتهم وفنهم ، ولكنه لاينتمي الى عصورهم ، وتفرد عنهم في شخصيته الابداعية المتميزة . 
 
مع مرور الوقت ونتيجة الموهبة الشعرية التي يمتلكها بدأ بكتابة ابيات من الشعر وسرعان ماتحولت الابيات الى قصائد ثم الى روائع ، وأول قصيدة له كانت قد نشرت في شهر كانون الثاني من عام 1921 ، وأخذ يوالي النشر في مختلف الجرائد والمجلات العراقية والعربية ، ومن القصائد التي نشرها وهو في العشرينيات من عمره قصيدة جربيني وفيها يقول .  
 
جربيني قبل ان تزدريني         واذا ما ذممتني فاهجريني 
 
لاتقيسي على ملامح وجهي         وتقاطيعه جميع شؤوني
 
إن لي في الحياة طبع رقيق     يتنافى ولون وجهي الحزين
 
قربيني من اللذاذةِ المسها              اريني بداعة التكوين 
 
انزليني الى الحضيض اذاماشئت     او فوق ربوة فضعيني 
 
احمليني كالطفل بين ذراعيك          احتضانا ومثله دلليني  
 
واذا ما سئلت عني فقولي         ليس بدعا ً اغاثة المسكينِ  
 
ِلست أما ً لكن بأمثال هذا          شاءت الامهات ان تبتليني 
 
 بسبب الموهبة الشعرية الفذة التي كان يمتلكها تمكن وفي فترة مبكرة جداًً من مجاراة كبارالشعراء آنذاك كالزهاوي والرصافي حتى انه كان يدخل في مزاحات معهم بحيث قال في نهاية قصيدته ( جربيني ) مخاطبا الزهاوي .
 
        فغدا يستبيـك رضـــوان               ويلقيك بين حـور وعيــــن
 
        وأنا فـي جهنم بيـــــن               أشـاخ بغيـــــم غمروني
 
       عـــن يسـاري اعمى المعرةِ               والشيخ الزهاوي مقعدا ً عن يمني
 
ولما قرأ الزهاوي القصيدة ( وكان مصابا بداء أقعده عن الحركة ) كتب الى الجواهري يقول ( أما يكفي أنني مقعد في بيتي حتى صيرتني مقعدا في جهنم ) ، أما الرصافي فقد كان يطرب لسماع قصائد الجواهري ويترنم بها وبدأ يحفظــــها ويــرددها حتى غــدا الشاعر الكبير الرصافي معجباً كـــبيراً ومحباً نادراً لقصائد الجواهري وتعبيرا ًعـن هــذا فلـقد كتب الرصافي رائعته التي تحمــل عنـوان ( الجواهري ) وفيها يقول :
 
         اقـول لرب الشعرمهدي الجواهري         الى كم تناغي بالقوافي السواحرِ
 
         فترسلها دررا ً تصاعـــد في العلى          يــــزودُ منها سمعه كل شـــاعرِ
 
استمرت العلاقة الحميمة بين الجواهري والشاعرين الكبيرين الزهاوي والرصافي حتى أخذ الزهاوي يردد قصائد الجواهري في المجالس الادبية التي تعقد في مقهى الادباء المعروف بـ (مقهى الزهاوي) الشهيرالذي يقع في شارع الرشيد ببغداد وكان الزهاوي يطلب من الجواهري الحضور الى تلك المجالس وراح يحضرها لحين وفاة الزهاوي فما كان من الجواهري إلا ان ينعية برائعة خالدة عنوانها ( الزهاوي) والتي مطلعها :
 
        على رغم أنف الموت ذكرك خالد         ترنُُُُ بسمع الدهـــــر منك القصائدُ 
 
        نعيت الى غر القوافـــي فأعولـــت        عليك من الشعــر الحسان الخرائد
 
حروف القصيدة كانت تبكي بعضها بعضا بسبب ما جاشت به قريحة الجواهري العظيم من كلمات مؤثرة ولا عجبا بذلك حيث ان الذي يرثي هو الجواهري والذي يرثى هو الزهاوي ، يستمر الجواهري في رائعته مخاطبا الزهاوي قائلا :
 
         أبا الشعر ، إن الشعر هذا محلــــ ـه        فقد نصت الاسماع والجمع حاشد 
 
         وهذي جيوش العلم والشعر تبتغـــي        لها قائدا فذا فهل أنت قائـــــد؟
 
بعد ذلك يخاطب جمع الشعراء فيقول :
 
         أقول لرهط الشعر يبغون باعثـــــا       عليه ، تثير الشعر هذي النضائد
 
         هلمٌوا الى قبر الزهاوي نقتنـــــص       به نفســـا من روحـــه ونطــارد
 
ثم يختتم رائعته الخالدة بأبيات أسمى من الوصف ، أبيات أمتزج فيها الحزن بالشموخ ولوعة الفراق بروعة التعبير ، حيث أختتم القصيدة بهذه الابيات :
 
        أبا الشعر والفكر المنبَــة اُمــــــــةً        عزيز علينا إنك اليوم راقــــــــدُ
 
        وإن الذي هزَ القـلـــوب هوامــــدا         وحركها في الترب ثاوٍ فهامــــد
 
        وإن فؤادا شعً نــــــــورا وقـــــوة         هو اليوم مسوَدُ الجوانب بــــارد
 
        فهل أنت راض عن حياةٍ خبرتهـا         ممارسة أم أنت غضبانٌ حـارد؟
 
        أضاعـوك حياً وأبتغــوك جنـــازة        وهذا ألذي تأباه صيدٌ أماجـــــــد     
 
ومن قصائده الشهيــرة التي كتبها في أيام الشباب قصيــــدة ( ليلة معها ) والتي قال فيها :
 
       لااكذبنك أنني بشـــرٌ         جمُ المساوي آثم أشـــــــــــرُ
 
       لاالحب يطأ من نفســي         ولا رفيقـــي النظـــــــــرُ
 
ترك النجف عام 1927 ليعين مدرسا في المدارس الثانوية ولكنه فوجىء بتعيينه على الملاك الابتدائــــي في الكاظمية وخلال عام 1928 أصدر ديوانه الذي اسمـاه (بين الشعور والعاطفة ) نشر فيه ماأستجد من شعره ، ثم استقال من البلاط عام 1930 ليصدر جريدته ( الفرات ) وقد صدر منها عشرون عددا ثم الغت الحكومة امتيازها فآلمه ذلك كثيرا ، وحاول ان يعيد اصدارها لكن دون جدوى ، فبقي بدون عمل الى ان عين معلما في اواخر عام 1931 في مدرسة المأمونية ، ثم نقل الى ديوان الوزارة رئيسا لديوان التحرير وفي عام 1935 أصدر ديوانه الثاني بأسم ديوان الجواهري . 
 
في عام 1936 أصدر جريدة ( الانقلاب ) اثر الانقلاب العسكري الذي قاده بكر صدقي وعندما شعر بأن الانقلاب بدأ ينحرف عن اهدافه التي أعلن عنها أخذ يعارض سياسة الحكم في ما ينشر في هذه الجريدة ، فحكم عليه بالحبس ثلاثة اشهر وبأيقاف الجريدة عن الصدور شهرا واحدا وقد غير اسمها في ما بعد الى جريــــدة ( الرأي العام ) بعد سقوط حكومة الانقلاب ، لكن ايضا عطلت عن الصدور اكثر من مرة لما كان يكتب فيها من مقالات ناقدة للسياسات المتعاقبة .
 
في عام 1936 توفيت عقيلته ( أم فرات ) بسبب عارض مؤلم لم يمهلها سوى يومين وقد كان الجواهري في بيروت لحضور المؤتمر الطبي العربي مندوبا عن العراق ، وعند وصول الخبر اليه تخلَى عن الالتحاق بالمؤتمر وقد نظم وهو في بيروت رائعته الخالدة التي يرثي بها عقبلته وعنوانها ( ناجيت قبرك ) والتي نشرت في جريدة ( الرأي العام ) العدد 178 في 18 /3 / 1939 ، ومنها : 
 
         في ذمة الله ما ألقى وما أجــــــد        أهذه صخرة أم هذه كبـــد 
 
         قد يقتل الحزن من احبابه بعدوا        عنه فكيف بمن احبابه فقــــــدوا
 
         ليت الحياة وليت الموت مرحمة        فلا الشباب ابن عشرين ولا لبـــد 
 
يستمر الجواهري في رائعته ثم يحيي (أم فرات ) ويطلب منها ان ترد التحية بروحها التي تعيش معه ، حيث لم يتبقى له منها سوى صلة الروح ، فيقول :
 
         حيَيـت ( أم فرات ) ان والـــــدة        بمثل ما انجبت تكنى بما تلـــــد 
 
         بالروح ردي عليها انها صلــــة        بين المحبين ماذا ينفع الجســـــــد 
 
البكاء والدموع التي ذرفهــــــا الجواهري لم يسبــق لغيره من الشعــــراء أن يصفهما ، الوصف كان اعجازا متناهيا ، تفوق على كل وصف من هذا النوع ورد في شعر المعلقات وقصائد الشعر الجاهلي الاخرى بل كان اروع مما ورد في رائعة المتنبي التي رثى بها أخت سيف الدولة ، حيث قال الجواهري :
 
         عزت دموعي لولم تبعثي شجنـا        رجعت منه لحر الدمع ابتــــــرد
 
         خلعت ثوب اصطباركان يسترني      وبان كذب ادعائي انني جلــــــد 
 
         بكيت حتى بكى من ليس يعرفني       ونحت حتى حكاني طائر غــــرد
 
         كما تفجر عينا ثرة حجـــــر       قاس تفجر دمعا قلبي الصلـــد 
 
 الحميمية الكبيرة بين الزوجين ( أبا فرات وأم فرات ) تجعل الجواهري يستمر في بناء القمة الشعرية بيتا فبيتا ، فيقول :
 
         مدي الي يدا تمدد اليك يـــــد       لابد في العيش او في الموت نتحد 
 
         ناجيت قبرك استوحي غياهبــــه       عن حال ضيف عليه معجلا يفــد 
 
         ولفني شبح ما كان اشبهــــه       بجعد شعرك حول الوجه ينعقــــد 
 
         أيام ان ضاق صدري استريح الى     صدر هو الدهر ما وفى وما يعــد 
 
         لايوحش الله ربعا تنزلين بــه       أظن قبرك روضا نوره يقـــــد
 
         وان روحك روح تأنسين بهــا       اذا تململ ميت روحه نكـــــد
 
بعد ذلك ينتقل الى وصف ( أم فرات ) الوالدة وكيف كانت الصدر الرحب والحنون لاطفاله ، معادلة شعرية يجسدها الجواهري حين يصف ذلك بما يمتلك من عاطفة جيَاشة وحس مرهف حيث يقول : 
 
         غطى جناحاك اطفالي فكنت لهـم       ثغرا اذا استيقظوا ،عينا اذا رقدوا  
 
ثم يتألق ويسمو حين يذكر صفاتها وخصالها التي عرفت بها ، يذكر نقاء قلبها وصفاء سريرتها ، بمعاني ودلالات فاقت الصورالرائعة التي وردت في معلقة (النابغة الذبياني ، ودع هريرة إن الركب مرتحل ) يسمو يتألق ، ثم يقول :
 
         لم يلق في قلبها غل ولا دنـــس       له محلا ، ولا خبث ولا حسـد 
 
         ولم تكن ضرة غيرى لجارتهــــا       تلوى لخير يواتيها وتضطهـد 
 
         قالوا اتى البرق عجلانا فقلت لهم       والله لو كان خير ابطأت بــرد 
 
         لعلني قارىء في حر صفحتهــا       اي العواطف والاهواء تحتشــــــد   
 
بعد ذلك بدأ هاجس الروح الثورية يكبر بقوة لامثيل لها حيث كان لا يتفق مع أي جهة سياسية و كان يعبر عن ذلك صراحة ًو أمام الملأ حتى بدأت المضايقات تنهال عليه من كل جانب و بشكل خاص في مورد معيشته حيث كانت الجريدة التي يفتتحها تغلق لأبسط الاسباب و هكذا ، فما كان منه الا ان يكتب رائعـــــــــة          ( المحرَََّقه ) والتي ختمها بالبيتين التاليين :
 
      ذممتُ مقامي في العراق وعلنــــي     متى أعتزم مسراي أن احمد المسرى                                     
 
      لعلي أرى شبرا من الغدر خالــــيا      كفانــي اضطهاداً انني طالبٌ شبــرا
 
انه ثائراً عنيفاً يحمل قدره معه ، ومعتداً بنفسه بشكل كبير يثور ويغضب و لا يمكن ان يخفي غضبه فبمجرد النظر الى عينيه تعرف مقدار ثورته كان لا يخشى ما يقول و يهزأ و يستهجن الامور التي يرى انها مدعاة للسخرية و الاستهجان و بدا ذلك واضحاً في رائعتين له الاولى ( عدّا عليَّ ) و التي مطلعها : 
 
        عـــــدّا عليَّ كمــا يستكلب الذيب ُ         خلــــقٌ ببغــداد انمـــاطٌ أعاجيبُ 
 
و الثانيه كانت رائعته الشهيرة (طرطرا) التي جسد فيها أروع الصور والمعاني الساخرة والتي لم ترد مثلها في دواوين الشعر العربي قديمه وحديثه ، ( طرطرا) صورة ناطقة للمجتمع العراقي آنذاك ولاتحتاج لاي وصف أو شرح لانها تصف وتشرح نفسها بنفسها ، ( طرطرا ) رائعة ساخرة تتفوق على كافة الاعمال الساخرة لــ ( برنارد شو ) وبفارق كبير ، حيث يقول وماأروعه حين يقول : 
 
        أيْ طرطــرا تطرطــــري              تقدمــي تأخـــري 
 
        تشيعـــي تسننــــي              تهــودي تنصــــــري
 
        تعممــي تبرنطـــي             تعقلــي تســــــــدري
 
        تقلبي تقلب الدهــر            بشتــى الغيـــــــــــر
 
        تصرفــي كما تشــا             ئيـــن ولا تعتـــذري
 
        لمن ؟؟ أللناس ! وهـم             حثالـــــة البشـــر
 
        أم للقوانيـــن وما             جـــاءت بغيــر الهــذر
 
        تأمـــر بالمعـروف ، والمنكر            فــــوق المنبر
 
        أم للضميـر والضمير            صنـع البشـــــر
 
        لمن ؟ أللتاريــخ وهـو            في يــــد المحبـــر 
 
        مسخــر طـوع بنــان            الحاكــم المسخــر
 
        بدرهــــم اقلب الحـــال            يــــد المحـــرر
 
        قد تقـــرأ الاجيــال             في دفــة هذا المحضـــــر
 
        عــن مثــــل هذا العصــر            ان كان زيــن الاعصر
 
        وأنــه مــن ذهــب             وأنــــه مــن جوهـر
 
        أم للمقاييــس أقتضاهـن             أختــلاف النظـــــر
 
        أن اخــا طرطـر            من كــل المقاييـس بـــري
 
كانت الموهبة الشعرية فياضة و جياشه تفوق التصور فالصورة الشعرية كانت ضرباً من الخيال بحيث جعل من صوت الضفدعة صورة نادرة في بيت من ابيات رائعتــه ( المقصوره ) والذي قال فيه :
 
         سلام على جاعلات النقيـق                 على الشاطئين بريد الهوى 
 
لكنه سرعان ما يعود لحزنه وشجنه الذي رافقه سنين طويلة من حياته بسبب ما كان يواجهه من مصاعب جمة لا لشئ سوى انه كان يعيش آلام المجتمع واحزانه وبكل التفاصيل ويتجلى ذلك بوضوح في رائعته الخالدة ( سائلي عما يؤرقني ) والتي يقول فيها :
 
           سائلــي عمـــا يؤرقـي                لا تسلْ عني ولا تلــم ِ
 
           حال ريعان الشموس ضحى                وتقضّى العمر كالحلم ِ 
 
           نـــدمٌ فـي اثره نـدم ٌ                عظمت كقارة النـــدم ِ
 
           يــــا حبيبي و المنـى قسمٌ                بين مرجـــو ٍ و مغتنم ِ 
 
لكنه سرعان ما يخرج من صومعة الحزن و يتحدى الايام والزمن و يزهو شامخا بتحديه كما قال في مطلع قصيدته ( عناد ) التي إبتدأها بثورة عارمة ضد الظلم والاضطهاد الذي كان يتعرض له حيث قال فيه :
 
           عنادٌ من الايام هذا التعسف                تحاول مني ان اظام وآنف ُ
 
كانت المضايقات تنهال عليه من كل جانب و جريدته التي هي مصدر رزقه تغلق باستمرارومرت به ايام عصيبة جدا ً نتيجة الضائقات المالية التي يتعرض لهـا وذات يوم كان يجلس في داره و كانت حرارة الصيف شديدة وهو لا يمتلك مروحة وكذلك الحال بالنسبة للشتاء فهو لا يمتلك مدفأة فما كان منه الا ان يصف الحال بهذين البيتين : 
 
           شتاءٌ عصـــــرٌ زمهريـــرُ                 و صيف ٌ كتنور يفـــــور ُ
 
           افٍ لعمــرٍ لا يســـاوي                 ســعْرَ مروحـــةٍ تـــــدورُ 
 
كان يمر بلحضات يأس و احباط لكنه ينهض من جديد ولا يترك مناسبة الاّ و يعَبر عنها حيث قال مناجياً نفسه :
 
           خبتْ للشعـر أنفــــــاس                 أم اشتط بـــــك اليـــــاس 
 
في منتصف الاربعينيات تلقى دعوة لحضور مهرجان المعري بمناسبة الذكرى الالفية لوفاته فغادر بغداد الى دمشق لحضور المهرجان الذي حضرته شخصيات ادبية مرموقة جدا وعلى رأسهم عميد الادب العربي ( الدكتور طه حسين ) ، إعتلى الجواهري المنصة وبعد ان القى التحية على الحاضرين قال : الرجاء عدم استعادة الابيات لان القصيدة طويلة وابياتها تؤلمني ،  لكن وبعد ان بدأ الجواهري بالالقاء بدأ الحاضرين يستعيدون البيت تلو الاخرمن تلك الرائعة الخالدة التي قال في مطلعها :
 
                قف بالمعرة وامسح خدها التربــا         واستوح من طوق الدينا بما وهبا 
 
ثم دوت القاعة بالتصفيق بعـــد هــــذا البيت ودوت اكثر بعد الابيات التالية : 
 
                يابرج مفخرة الاجداث لاتهنـي         ان لم تكوني لابراج السما قطبــا
 
                فكل نجم تمنى في قرارتـه         لو انه بشعــــاع منك قد جـذبا
 
                نور لنا ، اننا في اي مدَلــج        مما تشككت ، ان صدقا وان كذبا
 
                أبا العلاء وحتى اليوم ما برحـت  صناجة الشعرتهدي المترف الطربا
 
تعود به الذاكرة الى ماقبل الف عام ، يستذكر موعظة المعري ، فيتفجر بما جادت به قريحته العملاقة في تلك اللحظة ، فيقول :  
 
من قبل الف لو انا نبتغي عظــة         وعظتنا ان نصون العلم والادبـا
 
على الحصير وكوز الماء يرفــده         وذهنه ورفوف تحمل الكتبـا
 
اقام بالضجة الدينا واقعدهــا          شيخ أطل عليها مشفقا حدبــــا
 
بكى لاوجاع ماضيها وحاضرهـا         وشام مستقبــلا منها ومرتقبا
 
تناول الرث من طبع ومصطلـح        بالنقد لايتأبى أيَــة ً شجبـا
 
لثورة الفكر تاريخ يحدثنا         بأن الف مسيح دونها صلبــا
 
ان الذي ألهب الافلاك مقولـه        والدهر ، لارغبا يرجو ولا رهبا
 
               لم ينس ان تشمل الانعام رحمتــــه        ولا الطيور ،  ولا افراخها الزغبا
 
               حنا على كل مغصوب فضمــــده        وشج من كان ، أيا كان ، مغتصبا
 
 استمر حتى انهى رائعته ( المعري ) ببيت اروع مايكون من ابيات الشعر العربي : 
 
               أ من حكمة ان يجتني الرطبـا         فرد بجهد الوف تعلك’ الكربـا 
 
 بعد ان انتهى الجواهري نهض (الدكتور طه حسين ) من كرسيه وقا ل للجواهري 
 
أعدها ألفا ثم الف ،  فــرد الجواهري تكريما لك ساعيدها مرة اخرى وبعد ان انتهى من   الاعادة نهض ( الدكتور طه حسين) من كرسيه وقال ( قودوني اليه انه رب الشعر ) فقادوه اليه وقبّله وحيًاهُ على تلك الرائعة الخالدة . 
 
بتلك الابيات الخالدة استذكر الجواهري العظيم ابي العلاء المعري ، فكيف يستذكر ابي الطيب المتنبي ، لقد استذكره في مناسبات عديدة بأبيات وقصائد لايمكن لكاتب او ناقد ان يصفها لكونها اسمى من كل وصف واروع من اي تعبير وعلى سبيل المثال لا الحصر الابيات التي وردت في رائعتــــه ( ياابن الفراتين ) ، ورائعتــه الشهيـــرة ( فتى الفتيان ، المتنبي ) والتي كان مطلعها : 
 
             تحدى الموت واختزل الزمانا         فتى لوى من الزمن العنانا 
 
             فتى خبط الدنى والنـاس طرا         وآلى أن يكونهما فكانـــا 
 
ان مفردات البيت الثاني لاتقل روعة عن مفردات البيت الاول ومضمونه انما هو تصعيد بعيد المدى لما ورد تمهيدا في البيت الاول الذي كان تفجيرا مباشرا لما سيأتي بعد ذلك ، يتابع الجواهري ذلك التفجر المقصود منذ البداية فيقول : 
 
            أراب الجـن أنـــس عبقـري         بوادي ( عبقر ) أفتـــرش الجنانـــا 
 
ان انتقال الجواهري الى هذه الصورة ، فان المعنى ياتي امتدادا طبيعيا ومدهشا لما ورد في بيتي المطلع ، ذلك ان الذي ( تحدى الموت ) والذي ( اختزل الزمانا ) والذي ( لوى ) عنان الزمان ، والذي ( خبط الدنى والناس ) والذي قرر ان يكون الدنى والناس ، فكان له ذلك ،، ان هذا الذي حقق كل ماتقدم ، لايكون مكانه ، اذن ، الا         ( وادي عبقر ) يستمر الجواهري فيقول :
 
            دما صاغ الحروف مجنحــات        رهافا ، مشرئبات ، حسانــا 
 
انه مورد اعتيادي فيه تمهيد ، على الرغم من الوقع المؤلم لكلمة ( الدم ) ، يمضي الجواهري في تأسيس المورد الذي يعنى بالحروف التي عالجها المتنبي ، فيقول : 
 
            فويق الشمس كن لـه مـدارا         وتحت الشمــــس كن له مكانــا 
 
            وآب كما اشتهى يشتـط آنــا         فيعصــف قاصفا ويرقُ آنـــــا
 
            وفي حاليـــه يسحـرنا هـواه         فننسـى عبر غمرته هوانــــا 
 
بعد هذا التغني بمواهب ( المتنبي ) في اللغة وشعرها يتفجر الجواهري ببيت عجيب لايمكن لسواه على الاطلاق أن يأتي بمثله حيث قال : 
 
            فتــى دوىَََ مع الفلــك المــدوي   فقـال كلاهمــا : أنَا كلانـــا
 
ترى كيف يكون دوي الفتى ؟ ثم كيف يكون دوى الفتى موازيا لدوى الفلك ( الكون ) أو متناغما معه ؟ انه التصعيد المثالي والمدهش الذي يكاد ان يخرج هذا البيت من مضمار المديح ليضعه في مضمار ظاهرة طبيعيـــــة ، رغم انها في منتهى الخيــــال ، ونحن هنــا لانملك الا ( الدهشة الموافِقة ) أزاء تعبير لغوي غير مسبوق ، بل هو نتاج خيال خارق .
 
ان هذا البيت يضعنا في محنة نرضاها بنشوة كبيرة ، بين عظمة المتنبي الذي استحق هذا ا

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


خالد محمد الجنابي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/07/27



كتابة تعليق لموضوع : في ذكرى ميلاد الجواهري شاعر العرب ألأكبر
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net