صفحة الكاتب : صلاح عبد المهدي الحلو

عندما يموت المريض
صلاح عبد المهدي الحلو

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

رنَّت نغمة النَّقال على غير ميعاد,ولم يكن مع الرقم من إسم,ولما كان المزاجُ رائقاً – وقلَّما راق لي مزاج – فتحت الخط,وسمعتُ صوت المتكلم,الصوت مألوفٌ والرقم غريب,وقَرعُ اللهجة ,ونبرةُ الكلام,صكَّا في أذني من قبل,وسمعته يُسلِّمُ بحفاوة,ويسأل بلهفة,وقال لي:- هل عرفتني؟

وظننته شخصاً من المعارف يمزح معي باستمرار,فذكرتُ له اسم ذلك المعرفة,فقال :- لستُ أنا!

وبدأتُ أعدُّ عنده الأسماء,وأذكرُ له الألقاب,فلم يكن واحداً ممن ذكرت,ولمَّا رأى أني لن أهتديَ إلى اسمه ولو دعا لي نبيٌّ بالهداية,قال كالمستبشر :- أنا فلان!

- فلان؟ هكذا تساءلتُ باستغراب,وفزعتُ إلى ذاكرتي بما فيها من ألوانٍ وأشكال,عساني أجد فيهما ضالتي,ولكن مع هذا لم أعرفه.

وأخذ يذكرني بأشياءَ فاتت عليها سنون,ومضت عليها أيام,وكاد لو كان يقدر, أن يحقنَ رأسيَ بمصلٍ فيه صور الذكريات التي بيني وبينه كلها,عساني أذكَّر إن نفعت الذكرى,لَحَقَنْ,ولكن مابيد العاجز من حيلة.

ولكن مع هذا,كان وعاء الذاكرةِ أفرغ من فؤاد امِّ موسى,فقال بلهجةٍ غضبى فيها ألم العتاب:- حسناً,لقد دعوت فلاناً وفلاناً وفلاناً من الناس إلى داري مساء هذا اليوم ,فتعال معهم.

وكان هؤلاء من أصدقائنا المشتركين بيني وبينه.

وجاء الذي عنده واسطة نقل إلى باب داري,هو والذين معه,فأوصلنا إلى باب داره,أنا والذين معي.

فلما طرقنا رتاج الباب,وقرعنا جرس الدَّار,خرج إلينا,وكان ينتظر قدومنا,وكنتُ انتظر معرفته,فلما خرج الينا عرفته بمجرد رؤية وجهه,ولكنني نسيت اسمه,كان طالباً معي في المتوسطة,وإن جمَّع بيننا مقعد الدراسة,فقد شتَّتَ جمعنا فارق المعدل,فذهب هو إلى الخارج يدرس الطب من علم,وأنا في الداخل أؤدي خدمة العلم.

وكان من أحسن الطلاب علماً وفهما,والحق مارأيت مثل جدِّه واجتهاده.

وكنا ,نحن الطلاب,نهزءُ به أيام التلمذة ,ونسخر منه عهد الطلب,حين نراه يأتي في كل صباحٍ درسي,شبه مغمض العينين من التعب,وبيده شطيرة يقضمها من الجوع,لأنه لاوقت لديه للإفطار في البيت,لكثرة ما يقرأ,وشدة ما يدرس.

لم أذكر يوما انه أخذ أقل من مئة في درسٍ ما,إلاَّ مرة واحدة أخذ فيها في امتحان الجغرافية التحريري 48من خمسين,فعجبنا لذلك,وتناقل هذا الخبر شفاهُ الطلاب مندهشين,ولاكته ألسنةُ الاساتذة مستغربين,وظننا أن القيامة قد قامت أو كادت,وأن الساعة قد أزفت وكادت,أو أن قوانين الكون قد انثلمت بعد ان انتظمت,وقواعد الفلسفة قد انهدمت بعد أن استُحكِمَت...

دخلنا إلى داره,كانت واسعةً جميلة,وقمر شعبان هذا الذي مضى,يغسل بضوئه العاري ,ذرى أشجار السرو الباسقة في حديقتها,وبعد أن أخذنا مقاعدنا,خيَّرنا بين أصنافٍ من الفاكهة,وأجناسٍ من المشروبات,فطلب كلٌ منا ,شيئاً غير الذي يشتهي صاحبه,وتلك من مضَّار الديمقراطية,ومازلت أقول إن الحزم أحكم,والرأي الواحد يُفرض على الجميع خير,وحلاً للنزاع اقترحتُ أن نعمل بالإحتياط,فهو طريق النجاة,فنأكل من كل صنفٍ صنفا,ونشرب من كل شراب كأسا,وكفى الله المؤمنين القتال.

وكنتُ أمزح,ولكنه أخذ كلامي على محمل الجد,فجاء لنا بما لذ من الطعام,وطاب من الشراب,ولما استوى بنا المجلس,وتعاطينا كؤوس الحديث,وقرعنا الاسماع بما تهوى الانفس,قال صاحبنا:- لقد درستُ الطبَّ في الخارج,وذات يوم جاء الاستاذ ليختبرنا,وكانت طريقة الاختبار أن يكتب على السبورة أعراضاً لمرضٍ ما,ثم يطلب من كل مجموعة من الطلاب أن تنهض فيسمُّون فرداً فرداً هذا المرض ,ويصفون العلاج للمريض.

رشف صاحبنا شيئاً من العصير,رطَّب به شفتيه وأردف قائلا:- ولما وصل الدَّور إليَّ نهضت من مقعدي,مسح الاستاذ السبورة,وكتب اعراضاً جديدةً لمرضٍ جديد,وطلب مني تشخيصه,ثم عاد الى مقعده..

قال صاحبنا:- فلتُ للأستاذ,هذه الاعراض للمرض الفلاني (سمَّاه ونسيت اسمه) ,فقال له الاستاذ:- أكتب لمريضك المفترض وصفةً طبية.

يقول صاحبنا:- كتبتُ الوصفة الطبية المفترضة للمريض المفترض,بحسب فهمي وعلمي,ولما استدرت لأرجع إلى مقعدي,بدا لي أن أغير رأيي ,وان تشخيصي كان خاطئاً,ولابد من إعادة كتابة الوصفة المفترضة ,والدواء المفترض من جديد على السبورة...

هنا,أردتُ مسحَ الوصفة القديمة التي كتبتها,أنبرى لي الاستاذ,وقام من على مقعده وقال باستغراب مشوبٍ بالاستنكار:- ماذا تريد أن تفعل؟

قلتُ له:- أريد أن أكتب وصفةً جديدةً للمريض!

ماذا؟ ردَّ عليَّ الاستاذ بغضب,وأردف قائلاً :- لن تستطيع.

- ولكن لماذا؟

- لقد مات المريض...

ثم استدرك موضحاً الموقف:-

حين تعطي وصفةً طبيةً لمريضك,فإنه سيغلق باب العيادة ويخرج,لن ينتظرك لتفكر وتكتب له دواءً آخر,ولما كان تشخيصك خطئاً,ومريضك تناول دواءك الخطأ فقد مات,فمن أين تكتب له الوصفة؟

هنا سار الاستاذ قليلاً ,ووقف منتصباً أمام السبورة وقال بصوته الفخم:-

- كثيرون يستعجلون الحكم على الأمور,كما استعجل زميلكم هذا في كتابة الوصفة,وقد يؤدي الاستعجال أحياناً إلى عدم القدرة على تصحيح مجريات الاحداث,لان الوقت قد فات,فالوقت,والعمر لاينتظرانك لتصحيح أخطاءك,تموت الفرصة السانحة لتدارك الخطأ كما مات هذا المريض,وقد ينتهي عمر كامل بالموت معنوياً,للاستعجال بالحكم في قضية تخص مستقبله,وبعد ذلك لايستطيع الاصلاح.

ثم لاحظنا انه مطرق الرأس, شارد الذهن,وقد أغمض عينيه في شبه إغماءة,كأنَّه سافرَ إلى عالمٍ علوي ,يستوحي منه الحكمة,وكأنَّه بعد ذلك انتبه فجأة,ورجع من سفره من ذلك العالم والتفت الينا وقال بألم:- لاتقتلوا أشياءكم بأيديكم,فإن الموتى لايعودون.

وبعد أن خرجنا منه,وركبنا السيارة,سادَ جوٌّ من الوجوم,وشيءٌ من السكوت,وخُيِّل إليَّ - ربَّما - انهم كانوا يُعدُّون الفرص السانحة التي ذهبت عليهم,وقتلوها باستعجالهم,

أما أنا ,فقد رثيتُ قتلاي لوحدي,وأبّنتهم بمفردي,فإن الفرص التي سنحت في حياتي كثيرة,ولكنني قتلتها جميعاً لاستعجالي في الحكم على الأمور,وهذه من طبيعة ضعف النفس البشرية,ألا ترى أنك تتمنى أحياناً أن يُعاد شريط حياتك إلى الوراء,وأن تقف عند بعض محطاته,تستدرك قراراً,وتُغير ؤأيا؟

 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صلاح عبد المهدي الحلو
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/06/29



كتابة تعليق لموضوع : عندما يموت المريض
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net