صفحة الكاتب : مصطفى غازي الدعمي

استيقظت مرعوبة وركضت باتجاه غرفة أبنتيها، احتضنتهما وسط خوف رهيب، فأصوات الرصاص تسمع في كل مكان وبعضها بات قريب، تمتمت سجى بكلمات حزينة وشفاه مرتجفة أمي أنا أكره هذا الصوت ففي أخر مرة سمعته خسرت أبي فلم يمضي شهر على استشهاده نعم قتله الجبناء وأعتقد أنهم جاءوا لقتلنا.

رأس الأم كان كبحر هائج تتلاطم أمواجه والأفكار سفن لا تعرف الثبات والخارج يشبه حال رأسها فالمدينة تستباح والعقارب تخرج من الجحور وهي تعلم أن حقدهم ليس له حدود فهم لن يكتفوا بقتلها وبناتها وقالت في نفسها ليتهم يفعلون ذلك ويكتفون.

كانت تفكر في حل يحفظها وبنتيها لكن كوابيس اليقظة تمنعها من التفكير عادت للحديث مع نفسها لن أدعهم يدنسوا شرفك يا شهيد لن أدع أيديهم تصل إلينا ولن تصبح ضحى وسجى جاريتين مهما حدث فهما أبنتا ضابط حر أعاهدك كما عاهدت وطنك وكما حافظت على شرف بدلتك العسكرية وعطرتها بمسك دمك سأحفظهن.

تذكرت ما أعده الوالد لهذه الساعة فقد كان يعلم أنه مستهدف وأن عائلته ستكون في خطر فكان لا يمر أسبوع واحد بدون ضرف يضم رصاصة وكلمات تهديد ووعيد بأنه وعائلته مستهدفون وعليه أن يترك الجيش أو يكتب أسمه في سجل الأموات وفعلاً فعل وسجل أسمه في سفر الأحياء فقبل رحيله أعد مخبئا سرياً تحت غرفته يتسع لعائله وأخبرهم أن يلجئوا إليه في حال أحسوا بالخطر وحينها لن يصيبهم شيء فهو قد أعده بإحكام شديد.

أخذت الشابتين وجرت نحو المخبأ أدخلتهما بسرعة وأخذت تنزل لهم بعض المؤن فهي تعلم أن مكوثهن هناك سيطول أدخلت كيس تمرٍ وماء وبعض ما موجود في البيت من طعام يمكن الاحتفاظ به لأطول مدة ممكنة كما أدخلت معها غالون بنزين وولاعة وبعض ما موجود في البيت من شموع اعتدن البنات أن يوقدنها عند باب المنزل لوالد تسامى صوب السماء ودخلت في المخبأ وأغلقته بإحكام.

المخبأ ملاذ آمن لكنه قد يتحول في أي لحظة إلى سجن وقبر فالقذائف تتساقط في كل مكان وكومة ركام فوق فتحته تكفي لنقل الأم وبنتيها إلى العالم الآخر بموت بطيء يأخذهن الواحدة تلو الأخرى دون أن يعلم بمعاناتهن أحد، وما يزيد هذا الاحتمال أن بيتهم مستهدف فمن قتل الأب بالأمس لن يتردد في هدم البيت على من فيه، هن على علم بتلك الاحتمالات ولكن ما في اليد حيلة فهو الحل الوحيد المتبقي.

اتكأت الأم على الحائط ومدت رجليها ليكونا وسادة للبنتين وأخذت تمسح على رأسيهما محاولة أن تُشعرهما بالأمان الذي غاب، اتفقن على ألا يأكلن إلا ما يبقيهن على قيد الحياة وأن يحافظن على الماء أطول مدة ممكنة عسى الله أن يأتي بحل.

مر وقت طويل جداً فنسبية الزمن هي من تقول ذلك لأن زمن الخوف طويل وهن لا يعلمن كم مضى فالظلام سيّد الموقف ولا يصارعه سوى شمعة بضوء خافت مرتجف تجعل الزمن يتحرك صوب منتصف الظلام أو أقل وتبعث بعض الأمل ولكن في الحقيقة لم يمضِ غير يوم على سقوط المدينة وأسرع الجبناء لمبايعة داعش فهذا يبايع شيشاني وذلك أفغاني وآخر مصري على حين أبناؤها الأبطال ومن تراجع إلى المناطق القريبة كانوا يترقبون بحرقة وصول الدعم ليستعيدوا مدينتهم أخذت¬¬¬ داعش تجنّد الخونة وتعد لهم صكوك التوبة، الامتياز يُمنح على حجم الولاء وميزان الولاء ظلم أكبر قدر من الأحرار وفعلاً تسابقت أذنابهم تعد قوائم بأسماء من ناصر العراق ووقف معه ومن تلك الأسماء اسم الشهيد أبو ضحى وعنوانه.

وعند المساء بدأت حملة الدهم على منازل المطلوبين لداعش دخلوا البيوت نهبوا كل ما فيها وخربوا وكسروا الأثاث وصادروا ملكية المنازل لدولتهم الافتراضية ومن تلك البيوت بيت أبو ضحى كانت الأم تضع يديها على فمي أبنتيها لكيلا يُسمع بكاؤهما أو تصرخ إحداهما فيفتضح أمر العائلة وما ساعدها أن أصوات الدواعش كانت عالية فهم يكبرون ويتصارخون بالسباب والشتم على من يسمونهم كفرة ومرتدين يركضون في كل الاتجاهات يفتشون البيت بحثاً عما يُنهب كان بعضهم يصرخ بلغات لا تعرفها.

وقد اتخذوا من بيت أبو ضحى مقراً لهم وكانوا يحتفلون ويعربدون في البيت في كل مساء والعائلة تصارع في الأسفل فضحكاتهم كانت تسلب روح الأم وبنتيها 

نظرن إلى الماء والأكل شارف على النفاد لن يبقى لأكثر من يومين وفي الأعلى هؤلاء المجرمين يبدو أنه لا حلَّ أخذن يتضرعن ويدعين الله أن ينقذهن من هؤلاء المجرمين.

وبعد أربعة أيام على دخولهم المنزل وضحكاتهم التي لا تخرسها سوى الغارات والقذائف التي كان أبطال الجيش والحشد يمطرونهم بها سمعت الأم وبناتها ضجيجهم تعالى وعاد صوت إطلاق النار من جديد فأصوات الرشاشات عادت للساحة وبقوة تشبه يوم سقوط المدينة ففي كل يوم كان هناك أصوات انفجارات وقصف وبعض الأسلحة الثقيلة ولكن هذا الأمر لم يغير شيء فهي أدمنت الخوف وبناتها وتعلم أن أفضل مصير تواجه هو الموت.

وبعد عدد من الساعات المشتعلة عاد الهدوء إلى المدينة لكن الخوف لم ينتهِ بل وصل إلى ذروته عندما همست ضحى قائلة أمي نفد كل شيء نفد الماء وأنا عطشة جداً جلست الأمّ تنظر إلى ابنتيها أشعلت بقايا شمعة دارت بعينها في زوايا المخبأ الضيقة لا حل لم يكن هنالك غير غالون البنزين.

أجابت الأم ضحى لا يوجد حل ولكننا لم نسمع أصوات أولئك المجرمين منذ عدد من الساعات فبعد تلك الليلة المشتعلة خيّم هدوءٌ كبير سأخرج وأنظر فإن بقينا هنا سنموت عطشاً 

قالت سجى وهي تبكي ولكن يا أمي أن خرجتي ستموتين ولن نتركك وحدك مهما حصل سنموت جميعنا أو نعيش معاً سنخرج سوية.

الأم تخاطب ابنتيها قائلة لا خيار أمامنا ولكن يا سجى ناوليني غالون البنزين وأدين مني أطفأت الشمعة وأخذت ترش البنزين عليها وعلى بنتيها وهي تبكي وتهمس أنا أحبكما سنخرج سوية وإن كشفوا أمرنا سنشعل أنفسنا فلا أريد لكن أن تصبحن جواري وأن يُدنس شرف أبيكن خرجت الأم وتعلقت البنتان بثوبها الذي يقطر بالبنزين كانت الفوضى في كل مكان المنزل كله مخرب نظرت من خلف الشباك بحذر شديد شاهدت سيارة عسكرية تمرُّ بالشارع عادت إلى الخلف بسرعة استجمعت شجاعتها ونظرت من جديد مرت سيارة أخرى حاملة علم عراقي لم تصدق ما رأت أخذت تبكي بدمع بارد على خلاف تلك الدموع التي جرت من قبل لكنها لا تعلم ما حل بالمدينة وقد تكون هذه مجرد تمويه للطيران أو ما شاكل ذلك سارت نحو الباب فتحته بحذر شديد وإذا ببندقية تصوب نحوها إنه شاب في الثلاثين من العمر ملتحي ويربط رأسه بعصابة خضراء وثبت في بدلته العسكرية علم العراق خفض سلاحه لكنه طلب منها أن ترفع يديها بحيث يراهما.

صرخت بكل عفوية أنت من الحشد أنت عراقي وأخذت تزغرد فتحت الباب وصرخت ببناتها دم أبيكن لم يذهب هدر وشرفنا إنصان فالحشد حرر المدينة الحشد صان عرضنا الحشد طرد الكلاب خاطبها المجاهد بكل أدب أمي أين كنت ومن معك فلقد فتشنا البيت ولم يكن فيه أحد.

قالت الأم كنا ننتظر أن تخلصونا ولم تقصروا.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


مصطفى غازي الدعمي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/06/19



كتابة تعليق لموضوع : انتظار
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net