من مذكرات الجواهري : لماذا لم يلتقي المرجع الامام ابي الحسن الاصفهاني (قده ) الملك فيصل

 لماذا لم يلتقي المرجع الامام ابي الحسن الاصفهاني (قده ) الملك فيصل أثناء زيارته للنجف ، وماذا قال مبعوث الملك الشاعر محمد مهدي الجواهري عن المرجع الاعلى وكيف كان استقبال المرجع للجواهري ، وما وجه المقارنة بين مرجع الامة الروحي وبين مرجع السلطة هذا ما سطره الجواهري في ( ذكرياتي ) :

خلاف في النجف 
تناهى الى الملك فيصل وهو في النجف قادما من بغداد بعد زيارة كربلاء التي مرت الاشارة اليها ، ان الامام السيد ابا الحسن ، يشكو وجعاً في عينيه ، يمنعه من الخروج . فأستدعاني اليه ، طالباً ان اذهب ، بصحبة مرافقه العسكري ( خالد الزهاوي ) إلى بيت الامام وابلغه سلام الملك عليه واستفساره عن صحته .
كنت على بينّة من مثل هذه الامور ، وبخاصة هذا الامر بالذات ، واني لأعلم علم اليقين ان السيد الامام ابا الحسن ، في اثناء زيارة الملك الاخيرة هذه للنجف ، خرق مألوف العادات .
فقي مثل هذه الزيارات ، كانت الطليعة من العلماء ، وخصوصاً السيد ابو الحسن ، والشيخ النائيني ( وهما اعلى مرجعين دينيين في النجف وفي العراق كله عهد ذاك ) ، لايزورون الملك فيصل في الاستراحة ، ولا هو يزورهم في بيوتهم ، ( بالمناسبة ، لم يزر الملك فيصل احداً في بيته ، طيلة فترة عملي معه ، باستثناء بيت محسن السعدون ، يوم انتحاره ).
عوضا عن الزيارة المباشرة ، كان ثمة ترتيب وسط ، مدام خير الأمور أوسطها ، وهو ان يقوم الملك بزيارة الحرم العلوي في النجف ، في الوقت الذي يكون خلاله السيد أبو الحسن أو الشيخ النائيني يصليان أو يتعبدان هناك ويرتب اجتماع في ركن من أركان الحضرة العلوية .
في الزيارة الأخيرة للملك فيصل لم يحضر أبو الحسن وتعلل بالمرض . الواقع انه كان غاضباّ من الملك ، لأن طلباً له لم يلبَ سريعا وهذا كثير على السيد الإمام ، نظرا لأنه وبالرغم من مستوى منزلته تلك ، لم تكن له مطالب دنيوية البته ، كما نجدها عند الاخرين . لكن مبتغاه كان هو ان يمدّ جسر جديد فيما بين جانبي نهر دجلة سامراء يعين زوار العتبات المقدسة ويجنبهم مشقة الجسر العتيق غير ان تسويفاً قد حصل ، وكان السيد أبو الحسن مغضبا لذلك ، فلم يأت إلى الحضرة العلوية . وعليه ، كان لابد من صورة مقبولة من صور المجاملة تزيل الجفوة وتسد الفجوة وتصلح ما فسد ، أي ان نذهب ، باسم الملك ، لزيارة السيد ابي الحسن .
توجهت إلى خالد ، وقلت له ان ( شد حزامك ياابا الوليد ) . ذهبنا سوية في صيف قائظ . واحب خالد ، كما احببت ، ان أُريه بعض معالم المدينة . ورغم ان النجف صغيرة اجمالا ، إلا ان الطواف في أزقتها وشوارعها يستغرق وقتا اطول.
زرنا بعض المواقع ، وبعض المعالم ، ومنها الابواب الزرق كما يسمونها – مقابر العوائل الثلاث الشهيرة في النجف – السادة آل بحر العلوم وآل الجواهري ومسجدهما ، وجامع آل كاشف الغطاء .
ويتميز جامع الجواهري وما يجاوره من مقابر ، عن هذين الجامعين وما حولهما بما استشهد به من تواريخ وفيات البارزين من العائلة شعرا والمعروف ان هذه القطع الشعرية كانت لوالدي ، وعلى مرقد الشيخ محمد الحسن – صاحب الجواهر – بالذات كان البيت الاخير هو :
أُودى ومُــذ أتـــمَ الاسلامُ أرخـــهُ ( بين الانـــام يتيماتُ جواهره )
رأينا انا وخالد ، كل ذلك ، ونحن في طريقنا إلى مايشبه الزقاق ، حيث يوجد بيت قديم لايتميز بشيء عما حوله ، بيت عادي لايخطر ببال من يراه ، انه بيت هذا العلم الشاخص السيد ( ابو الحسن ) جفل خالد مستغرباً ، كما لو كان ينتظر ان يطل على قصر منيف على غرار البيوت الدينية في بغداد . لعجبه ، ولدهشته ، وجد دارة صغيرة ، لاحارس على بابها ولا خادم فيها يقف على خدمة هذا العالم الجليل .
طرقنا الباب طرقاً خفيفاً ، فخرج رجل اشيب كريم الوجه . سلمنا عليه ، وأخبرناه اننا آتيان من عند جلالة الملك فيصل إلى السيد للاسافسار عن صحته ، وعينيه الكريمتين . 
دعانا إلى الجلوس ، واذا بحصيرة نظيفة فقط في صحن الدار ، وعليها وسادة خفيفة من القطن ، ومتكأ خفيف . وهناك سلم قصير الدرجات إلى ما يسمى بطابق ثان ، حيث مقر السيد الامام ، وهو ، في الواقع طابق لا يرتفع عن الارض إلا قليلا .
بعد لحظات ، نزل السيد بتؤدة ، وقد وضع ضمادة على احدى عينيه ، واظن ان ذلك كان من باب التمويه ، المبرر ، الذكي . ففي الفقه باب مخصص باسم التقية يجيز للانسان ان يتقي ما يكره بهذه الحجة أو تلك ، عند الضرورة . وإلا ما كان السيد بحاجة إلى ضماد ، فعيناه كما عهدت عينا نسر .
وكما تقتضي الاعراف ، قبلت يدَ السيد ، وحذا ( خالد ) حذوي وجلس الامام المهيب ، الوقور ، وقلت له : ( سيدنا ، انا فلان ، ابن الشيخ عبد الحسين ) – وكان ذا علاقة وطيدة بوالدي وأنا نفسي ذو علاقة مثلها بولده الشهيد ( حسن ) الذي يكنى به من ايام الزمالة وعهد الصبا ، وعلاقته تلك استمرت حتى وفاة والدي قبل ان ينفرد السيد بالامامة ، وكان ايامها من المرشحين لها ( وهذا السيد خالد الزهاوي معي ، وهو مثلي من عائلة دينية معروفة ) ، شيء جميل ان يكون الزهاوي من بغداد والجواهري من النجف .
قلت ( جئنا لخدمتك مبعوثين من جلالة الملك فيصل الذي يسأل عن صحتك ، ويستفسر عن سلامة عينيك ، ويتمنى لك الشفاء ) وبعد ان خصني بالترحيب لمجرد هذا الانتساب . رد الرجل علينا بكلمة أو كلمتين :
( اهلاً وسهلا بكم ... ابلغاه سلامي ) . قالها باقتضاب بالغ ، فهمنا منه بطبيعة الموقف ان قد انتهت الزيارة .
اشرت إلى خالد اشارة خفيفة ، وقلت للسيد ابي الحسن ، ( نستأذنكم سيدنا ) . اجاب : ( مع السلامة ) . وانتهى كل شيء وخرجنا .
بعد ان صرنا في الزقاق وأخذنا طريقنا عائدين ، ابدى خالد بشيء من الحماس اعجابه بالسيد الجليل وبدهشة مما كان ، فقد كان يتمنى ان يرى الصورة الصادقة للامامة ، الصورة التي كان يتخيلها كما يجب ان يكون عليه الدين والمتدينون ، والعبادة والعابد ، والزهد ، والزاهد الصادق فيه ، وببساطته إلى جانب مقامه الرفيع ، وكان مغتبطاً لهذه الزيارة ، فقد اعطته الصورة الجليلة التي ارادها . فحدثني وهو يمثل الشخص ونقيضه ، ومن باب المفارقات البعيدة بل والمتناقضة ، بحديث عجيب عن هذا النقيض ، فقد كان في العاصمة رجل دين ذو منصب لا يقل لو صحت المقارنة عن منصب السيد ( ابي الحسن ) ، لقد كان هذا الفقيه المتدين يوزع علينا الحلوى – والحديث لخالد – نحن معية الملك فيصل بين الآونة والأخرى في زياراته المتعددة ويرشنا بالعطور ، وبكل بداهة كان كل واحد منا يفهم انها تمهيد لمساعدته في مقابلة الملك فيصل .
وذات مرة جاء ( الشيخ ) على هذا النحو . وكان أحد المرافقين ( خير الدين العمري ) وهو من ابناء الموصل ، من عائلة العمري الشهيرة ، ثائراً ، معربداً ، جريئاً . وكان يمقت هذا الرجل وتصرفاته تلك ويصادف ان يكون يوم زيارة المندوب السامي إلى الملك فيصل كما هي العادة هو اليوم نفسه الذي يكون فيه رجل الدين الأول قد جاء هو بدوره ليوزع الحلوى ويرش العطور ، فلم يكن من الشاب العمري إلا ان يرتجل فكرة بعيدة عن الارتجال وان يجري عملية استئصال الزائدة ، فقد كان رجل الدين هذا يصطنع التمشي ، كما اعتاد ، في الردهة المتصلة بباب مقر الملك فيصل متعمدا ان يكون ذلك حين وصول المندوب السامي عسى ان يسأل بعد ذلك عنه وعن مكانته ، فأوعز العمري إلى الخدم ، - وما يزال الحديث لخالد – ان يدفعوا بالشيخ ، لحظة يدق الطبل ايذاناً بمقدم المندوب السامي إلى حجرة ( دورة المياه ) !! وفعلا ً وباستجابة عاجلة نفذ المأمورون مهمتهم ودفعوا به إلى حيث أراد العمري ، وأغلقوا الباب عليه ، ولم يفرجوا عنه إلا بعد ان كان ما بين المندوب السامي والملك قد انتهى معتذرين منه بلباقة : ( العفو مولانا ، اخطأنا ) ويقتحم الشيخ باب الملك فيصل ويقص عليه ماكان من امر العمري ، فيتظاهر الملك فيصل بالاستياء من هذا العمل النابي الذي ماكان ينبغي ان يحصل ، ويعده بمعاقبة العمري ، ويبلغه اسفه الشديد .
وبعد خروج الشيخ ، استدعى الملك فيصل العمري وقال له بالحرف الواحد : ( جزاك الله خيراً ونعم ما صنعت ! ) .
كان خالد يقص هذه الواقعة التي لطف كثيراً من حروفها من باب المقارنة بين هذه الصورة من التعلق بالدنيا ، والصورة الثانية من التعلق بالدين ، وقال لي : ( لا ورب الكعبة ، لن انسى حتى الممات هذه الصورة ) . انتهى 
ذكرياتي . محمد مهدي الجواهري ج1 ط1 .1988 دار الرافدين / دمشق صفحات ( 223 – 227 )
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/05/20



كتابة تعليق لموضوع : من مذكرات الجواهري : لماذا لم يلتقي المرجع الامام ابي الحسن الاصفهاني (قده ) الملك فيصل
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net