الفلسفة هي محبّة الحكمة..هكذا عرّفها الكلاسيكيون..وهو كذلك..فلا زال المتفلسف يجنح وراء الحقيقة ليحكمها إحكاما حتى إذا بلغ الحكمة استغنى عن الفلسفة نفسها..وكذلك المنطق ، فهو يحتل منزلة وسيلة الفيلسوف في بناء نسقه فلا غنى عن المنطق إلا ببديل من سنخيته..لكن يا ترى ، هل أدركت مهزلة المنطق حينما تكتشفت أنّ المنطق عدوّ الإبداع ..متى كان المناطقة مبدعين وهم حرّاس معبد الكاطيقورياس؟ كان قدر الفلسفة أن تمضي وهي تراعي السير البطيئ للمنطق الذي حوّل البحث في الوجود من حيث هو موجود إلى مباحث ألفاظ وحكاية مقولات..كانت الفلسفة بين الفينة والأخرى ترسم رشدها خارج قبضة اللّوغوس بالمعنى الذي استكمل أركانه مع أرسطو..هذا الأخير الذي هيمن على الفكر الفلسفي من العهد اليوناني المتأخّر حتى القرون الوسطى والعصر الحديث..لا زال بعض الأرسطيين يعيشون بين ظهرانينا ويتبجّحون علينا بلعبة المقولات في زمن ثورة المنطقيات المابعد أرسطية..كان هذا أيضا من وحي انطباع مؤرّخ الفلسفة حين ظنّ بالفعل أن أرسطو هيمن على العقل البشري..والحقيقة أنّه حتى في العصر اليوناني الأرسطي وما بعده كانت هناك تمرّدات وانزياحات ظلت وفيّة للعهد ما قبل السقراطي، نظرا لحيويته وتصرفه خارج ضغط المقولات..في العصر الوسيط حيث احتلت السينوية أم المدارس المشاائية كان هناك أيضا انزياحات..حتى ابن سينا لم يكن أرسطيا خالصا..وهذه ليست هنة في تجربته بل واحدة من جوانب عبقريته التي سرعان ما بدأت تتطور لتنتج رموز الحكمة المتعالية الأكثر صراحة في تاريخ الفكر الفلسفي، أولئك الذين نظروا إلى أرسطو نظرة موضوعية كلحظة في تاريخ الفلسفة وليس الأب الروحي للحكمة..وكان القرن الوسيط الإسلامي قادرا على تصحيح المسار لولا ابن رشد الذي أعاد الروح إلى الأرسطية واقتحم بها العدوة الشمالية ليرسي حركة دي بارابون ونظرائه ممن أعادوا أرسطت المشهد الأوربي الجاهل يومها بالفلسفة..كان حينئذ المشرق الإسلامي قد انتقل إلى ما بعد القول الفلسفي، بل استطاع بناء هيكل حكمي إشراقي فريد..تجاوزنا أرسطي ولم نحتفل بابن رشد لأنه فضل أن يكون شارحا..في تلك المرحلة كانت الحكمة الإشراقية وكان الفكر الأكبري ينتقد المنطق الأرسطي اليوناني ويوسع من مدارك الجكمة..إنما المغالطة الكبرى التي حصلت بعد ذلك ، حين قيل أنّ أوربا الحديثة نهضت حينما اكتشفت أرسطو الذي علّمها إيّاه ابن رشد والرشدية اللاتينية..والحقيقة كما أثبتناها مرارا إنّ أوربا الناهضة إنما نهضت حينما تخلّت عن أرسطو والرشدية وأعادت اكتشاف أفلاطون..تأمل كيف سخر إراسموس من العقل بالمنظور الأرسطي وكيف اعتبر أن الأرسطية مهزلة..إنّ اللحظة الحديثة في أوربا هي لحظة أفلاطونية بكل المقاييس..وبات المنطق شعبة محدودة ضمن شعب أخرى لم تأبه بمقولات أرسطو..وما هي إلاّ فترة وجيزة حتى بدأ انشقاق العلوم وتولدها واهتزاز الأسس مما أفضى إلى منطقيات ما بعد أرسطو..وهندسات ما بعد أقليدس..ثم بتنا أمام لحظات أخرى من تجاوز الحداثة لنفسها في سائر العلوم الاجتماعية والبحتة..وطفرنا إلى ما بعد النيوتونية وما بعد بعد الأقليدية وأصبح أرسطو جزء من تاريخ أوربا بينما عاد ابن رشد الهارب من العدوة الشمالية لتحيين أرسطو في مجال تمكّن منه الإنحطاط وما عاد ينفعه أرسطو ولا أفلاطون لأنّ منطق التقدم هو أبعد مدى وأعمق، فهو يتعلق بإرادة التقدم أوّلا والباقي تفاصيل..بالتأكيد إن اليابان والصين لم يحتاجا إلى أرسطو ولا إلى أفلاطون..تستطيع من فكرك الخلاّق أن تصنع الفارق الحضاري بفعل الإرادة والانطلاق وهدم المقولات المعيقة..إنّ فكرة التقدم والتأخّر ليست مظاهر وأشكال..بل هي أمر يتعلق بالروح الحضارية وإرادة التقدم..لقد أدهشتنا تجربة رفاعة الطهطاوي وهو يصف الديار الباريسية لقوم لا يعلمون..ولكن رفاعة آخر فرنسي وهو ذي توكوفيل أدهش الفرنسيين أنفسهم وهو يصف الديار الأمريكية..دائما هناك فوارق ، غير أنّ فكرة التقدم في نظري حينما يراد لها أن تمنح لبوسا فلسفيا، فإنّ المغالطة في ذلك تكمن حينما نسعى لتنميط الشكل الفلسفي للنهضة..إنّ إرادة التقدم حينما تكتمل في روح أمّة من الأمم فهي قد تجعل من عبادة الفئران وأكل الدود تراثا خلاّقا..من كان يتصور يوما أنّ السائح الأوربي قد يستمتع في الصين بوجبة حشرات أو كلاب؟ إنّ هذا يؤكّد على أنّ أشكالا من الفلسفات قد تزدهر في بيئات التخلف وأخرى متخلفة قد تزدهر في بيئات التقدم..ولا التآخر التاريخي ولا التقدم التاريخي قد ينقصان أو يزيدان في جودتيهما.. إنما لا بدّ من التأكيد على العنصر الغائب في التأريخ للفلسفة ألا وهو الاقتصاد السياسي للفلسفة..اللحظة التاريخية التي يلعب فيها الرأسمال المادي دورا في تعزيز مكانة الرأسمال الرمزي في أمّة من الأمم..من هنا أعلن أنّ الحكمة المتعالية هي أرقى أشكال التفكير الفلسفي على الرغم من أنها نشأت في بيئة آيلة للانحطاط..بينما هناك فلسفات ولدت في العصر الحديث وهي أقلّ ما تكون أهمّية من تفكير جدّتي حينما نمعن في مضمونها النظر..وحين نلوذ بالمقارنة ، فقد نجد الفارق بين ابن عربي أو السهروردي أو ملاصدرا وبين مالبرانس وسبينوزا، تماما كالفرق بين جاك بريفير والمتنبّئ...بين أرتر رامبو وأبي العلاء المعرّي...لا شيء من التاريخ يمكن أن يغنينا عن النصوص الجميلة...
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat