صفحة الكاتب : د . محمد تقي جون

    بعد الجزء الأول من (تاريخ الكوت السياسي) يتحفنا المبدع الأستاذ رائد السوداني بالجزء الثاني، ليكمل ما بدأه في موضوع لم يطرقه أحد قبله، يخص التاريخ السياسي المعاصر لمدينة الكوت. تلك المدينة التي اشتكى تاريخها القديم الاهمال الكثير والاهمية القليلة، وانحصرت بالهدف العسكري منذ بناها الحجاج للغرض نفسه، فكانت طريق الفاتحين؛ احتلها في العهد الاسلامي ابراهيم بن الحسن العلوي ليسقط الكوفة فيتهاوى حكم المنصور، واحتلها يعقوب الصفار ليحتل بغداد. وفي العصر الحديث احتلها الانكليز ليصلوا الى بغداد، وسلك الأمريكان الطريق نفسه وبالتكتيك نفسه. ولكنَّ الاستاذ رائد السوداني يطلعنا على حقيقة ان أحداث العهدين الملكي والجمهوري تستفز الكوت فتقوم بقدر لا يستهان به من المشاركة والتأثر والتأثير. 

   وهنا أسجل انطباعي وما أثاره فيَّ الكتاب من تداعيات وتحليل لأحداثه الكبرى، متعاطياً معه بسطور قليلة قد تصلح تقديماً وقد تبقى بحدود الانطباع، ولا يخلو في هذه الحالة من التعريف بالكتاب وتسليط الضوء عليه.
   كان الثقل السياسي للحزبين الكبيرين الشيوعي والبعثي ولاسيما في بغداد، وهي مركز الصراع وتقرر المصير دائماً كونها عاصمة البلاد. إلا أن الحزب الشيوعي انتشر في العراق كله، فكان له مركز مهم في كردستان ولاسيما السليمانية، وفي محافظات الجنوب ومنها مدينة الكوت. كما اخذ مساحة كبيرة حزب البعث، وإذا لم يجد مكاناً مهماً في كردستان لغالبيته الكردية، فقد وجد أرضية قوية في الشمال في الموصل وفي الغرب والجنوب، فكان منافساً لدوداً للحزب الشيوعي. 
    وكان الحزبان رئيسيين متسيدين في مدينة الكوت كما هما في البلد عموماً، يتحكمان بشارعه، ويوجهان الاحداث، ويؤثران في قرارات وتحركات الدولة. وانبرى رجال من المحافظة يدافعون مخلصين عن مبادئ الحزبين، مسجلين لانفسهم وللحزبين تاريخاً سياسياً لا يمكن اغفاله. ولنفوذ رفاق كل حزب في مفاصل الدولة ومؤسساته، فضلا عن المساحة الجماهيرية التي يفترشها كل حزب، اكتسب الحزبان قوتهما بشكل لم نألفه نحن الذين عاصرنا دولة البعث المركزية جدا الى درجة أن الأحزاب كانت في عهدها هامشية وغير فاعلة، حيث قلَّص صدام بطاغوتيته المعارضة إلى أصغر حجم ممكن كما ذكر في أحد المؤتمرات الصحفية.
   لقد أخلص الحزبيون الشيوعيون والبعثيون لحزبيهما، وقدموا التضحيات، وعانوا السجون وظلماتها من أجل أهداف عبرت عنها شعارات وعبارات الحزبين التي حفظها الناس. وذكر لي أحد كبار السن أنه شاهد شيوعياً مكبلاً يقوده شرطيان في العهد الملكي، وحين اعترضهم طفل ربَّت الشيوعي السجين على كتف الطفل وقال له: (نحن نضحي وأنت تحصد ناتج جهادنا). ولكننا اليوم – ومعنا الطفل وقد كبر – لم نشاهد أيَّ حصاد لذلك الجهاد الحزبي الشيوعي، بل صرنا في قرارنا نذكر ذلك الجهاد بكثير من الشفقة والتجاهل.
   وإذا رجعنا الى خلفية الحزبين – كما استعرض المؤلف – نجد الحزب الشيوعي جاءنا من روسيا، وحزب البعث جاءنا من سوريا، أي كلاهما ليس انتاجاً محلياً، وكلا الحزبين أسس على أجندات غير عراقية وأهداف غير واضحة العراقية. ويذكر (السياب) ان القادة الشيوعيين وضعوا الاعتبارات الروسية فوق الاعتبارت العراقية، وأشاعوا مع (الشيوعية) الالحاد والتهاون في الدين، مما جرح مشاعر الكثيرين. ويذكر الكاتب أن حزب الدعوة نشأ ردة فعل عن ذلك. وحزب البعث نادى بالقومية العربية متجاهلاً الاطياف العرقية الاخرى للشعب العراقي، وهي بنسب سكانية غير خاملة.
   ومما يثير السؤال كبيراً، أن الحزبين قارعا النظام الملكي ونادوا باسقاطه لانه يعني الرجعية، والعمالة، والظلم، والتخلف، وتطلعوا الى نظام بديل يحقق الحرية والعدالة ويمثل العراقيين، وحين جاءت الجمهورية احتفل الحزبان وأعلنا تأييدهما لها. وبعد هنيهة لم تزد على العام عاد الحزبان الى نغمة الجهاد ذاتها، وصار الصراع بينهما دامياً، وصارا يخططان كلا على حدة لاسقاط الجمهورية وتحويلها الى صبغتهما الحزبية. وقد نشرت صحيفة شيوعية أن عبد الكريم ضد الديمقراطية، ملوحين الى اسقاطه بثورة جديدة كما فعل الشيء نفسه البلاشفة في روسيا حين صعدوا الى السلطة. ويدل حدث ثلث الجزرة على تأليب الناس ضد الجمهورية، وهذا ما فعله البعثيون أيضاً. وفي خاتمة المطاف الجهادي تآمر البعثيون مع بريطانيا وأمريكا ومصر والاردن فاسقطوا عبد الكريم، ووقف الشيوعيون يتفرجون على السقوط وسط ذهول الناس ورعبهم وقلقهم بزوال أول وآخر حكومة تفكر بجدية في تطوير العراق، وتشعر بالمواطن وتعمل على تحقيق آماله وتطلعاته. وبعدها صفى البعثيون الشيوعيين لعلمهم انهم يتطلعون الى هدف السلطة ذاته. 
   واذا تأملنا ذلك الجهاد المستميت والتضحيات الكبيرة وهذا المصير المؤلم، نخلص الى ان قيادة الحزبين أخطأت تقدير الامور، أو انها عملت بعيداً عن مناضليها مع قوى دولية حسمت مصير المنطقة. وقد راحت تضحياتهم سدىً. ويذكر الكاتب ندم بعض البعثيين على اسقاط عبد الكريم قاسم، ونقرأ ندماً لشيوعيين أيضاً. ولو أن الحزبين أخلصا للعراق لعملا على اسناد الجمهورية، والتخطيط معها، ومعالجة أخطائها، للحفاظ عليها واستمرارها، وتحويلها مع وجود الثقة وصدق العمل من الشكل العسكري إلى الحكم البرلماني، اذن لتجنب العراق كل البراكين التي زلزلته والى اليوم. 
   كما احتضنت الكوت حزبين آخرين هما: حزب الدعوة، والحزب الديمقراطي الكردستاني. والحزبان أثرا منذ تأسيسهما واستقطبا شباب الكوت للعمل الحزبي فضلا عن انضمام أفراد الى البيشمركة في كردستان تحت خيمة الديمقراطي الكردستاني. 
   الكتاب ملمّ ومهمّ، ومعلوماته جديدة تطلع القارئ على صفحات مطوية وتواريخ شخصية للكوت في الحياة السياسية في حقبة خطيرة وخطرة، لا تنفصل في حقيقتها عن الحياة السياسية التي نعيشها الان بكل حراكها، مما يجعل من الضروري الاطلاع على الكتاب وقراءته بعمق، فإنه يفتح تداعيات لا منتهى لها في تفسير وسبر الاحداث المختلفة للتكهن بما يمكن أن يكون. والكتاب ضروري جداً لأنه يتناول تاريخ الكوت التي لم تأخذ حقها من الدراسة, ونحن بحاجة ماسة الى مؤلفات تتناول الكوت وباقي أقضية محافظة واسط من كل وجه ووجهة، حتى تتشكل بالدراسات التخصصية المختلفة موسوعة شاملة لمحافظة واسط. 
7/ 2/ 2016

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . محمد تقي جون
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/04/01



كتابة تعليق لموضوع : انطباع
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net