صفحة الكاتب : نجاح بيعي

الـطـّوُفـَان .. قـصّـة قَـصِـيـرة
نجاح بيعي
( .. على الأرض .. لم يكن هناك غيره ، وإذا بتمثال عظيم وقف قبالته , منظره هائل رأس هذا التمثال من ذهب جيد , صدره و ذراعاه من فضة , بطنه و فخذاه من نحاس , ساقاه من حديد , قدماه بعضهما من حديد و البعض من خزف . أقتطع حجر بغير يدين فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد و خزف فسحقهما , فانسحق حينئذ الحديد و الخزف و النحاس و الفضة و الذهب معا ، وصارت كعصافة البيدر في الصيف , أما الحجر الذي ضرب التمثال ، فصار جبلا كبيرا و ملا الأرض كلها . ) سفر دانيال / الإصحاح الثاني .
بعد أن رَغى كبعير هائج ، أستيقظ من كابوسه ، في حين يغطّ عالمه بسبات يقظ بليل خريفي بارد . عند الصباح تذكر الحلم ، وهو في طريقه لتدشين هيكل مجده المزعوم . فبالرغم من إحساسه بوضوح الشّبه ، بين الحلم والواقع ، لكن بدا له الحلم خاليا من أي نذير . بل أضغاث أحلام . لذا تناساه ولم يعره أهمية ، فقط استذكر كيف استيقظ محموما يلوك الهواء والزّبد ، سابحا بالعرق ، وقد تدلت شفته السفلى وصدره منفوخا ثقيلا ، عالجه بالنوم ثانية بانكفائه على بطنه .
اجتاز الرواق الفخم ، عبر ممرات عديدة ذات حراسة غير مرئية . ونزل السلم الحلزوني إلى ما تحت الأرض الخفيّة ، وساقته قدماه بخطوات ثابتة لدهاليز سرية عدة ، وقف أمام باب كبير موصد . وكمن يؤدي طقسا ما ، تمتم بكلمات مبهمة , فانفتح الباب على مصراعيه. كان الهيكل أمامه رابضا في الوسط . وسط قاعة دائرية فخمة ، تحيطها من الداخل مرايا كبيرة . وهو يسير شيّع شبحه الساقط على سطح أولى المرايا ، بابتسامة اعتداد لم يألفها من قبل . 
استدرك ووقف !. 
خطى للوراء بضع خطوات وأمامها وقف , مزهوا اخذ يمسّد ببصره الحاد رتب المهابة المغتصبة على كتفيه ، وألوان نياشين الشجاعة المستعارة على صدره ، نزولا مع الحرير الأحمر لشريط الاستحقاق الذي ينتهي بوسام البطولة الوهمية الذهبي ، حيث قبضة يده اليمنى الموشومة ، المتأهبة للاشيء ، لأي شيء ، وهي تحضن سيف إرهابه المتدلي جنب رجليه الكسيحتين .
استهواه النظر لهيئة الآخر القابعُ بالمرآة . بإمعان أعاد الكرّة .. كأنه يستقريء بأميّته أسرار الوثن الكاكيّ الذي أمامه ، حتى ألتقت العينان , وتشابكت النظرات . تسمّرت ببعضها . دون أن يرمش لهما جفن . لم يمضِ زمن طويل ، حتى اكتشف انه لم يكن يملك عينين , كعيون سائر البشر . بل كوّتين تطلان على هوّة بلا قرار . هوّة سحيقة غارقة بالظلمة . لم يأبه . ركز بإصرار واقترب أكثر من عينيّ الآخر . اجتاز الغلالة , ونفذ من خلالهما , واطلع على الفضاء المظلم ... 
بذرّوة التّحديق ، سَرت بداخله ولأول مرّة , رَعدة كانت له كالصّدمة .. اهتزّت لها كل أعضائه . كان قد رَاعه وَهج خاطف ، لمحه يومض حبيسا ً في عتمة الظلمات . لم يعرف كنّه ذلك الوميض . ولم يكن يألف العصيان بالمرّة . تمالك نفسه . ملأ رئتيه بنفس عميق , وزفره كوحش متوحد . استجمع قواه وشحذ ذهنه ، وكمجذوب وحيدا ً قرّر بعزم , أن يعرف سرّ ذلك الوهج المّارق في العتمة . أغمض عينيه . ظلمة تتكاثف . وخلاء ممتد أكثر قتامة . بينما هو بغمّرة الظلماء طنّ سمعه على حين غرّة ، صوت ريح عظيمة تولول ، مدفوعة عبر وحشة المدى اللانهائي , وصُخب زلزلة عنيفة هزّت الأرجاء . 
للحظة مباغتة , أضاء روحه وهج نارٍ غامض . الوهج السرّ ، مصحوبا بهمس خفيف سمعه ووعاه بقرارة نفسه , وهو يقول له \" بني إذا ما احتجت لي ذات يوم وناديتني ، فما عليك الا أن تنصت إلى أعماقك وستجدني !؟ \" .
أناخ للهمس الناريّ . عرف الصّوت ، كان قد سمِعه من قبل . وهو يتلفظ أولى الوصايا , قبل أن يرحل ويغيب في الزمان . بل ووَعى جيدا كلمة ( بُـنيّ ) . تلك الكلمة البِكر التي طرقت سَمعه ، فأيقظت به حنينا قديما ً نحوه ، فانتشى فجأة بلذة البِنوّة . طأطأ لهُ رأسه مذعنا ً. فتبدّى له شبح رجلٍ آت من أغوار الماضي ، على بساطٍ من نار . مُسفرا عن وجهٍ شاحبٍ بعينين متقدتين ، وقد تدّلت من على صدغيه ضفيرتان . واضعا ً على رأسه طاقية سوداء ، بدت كجناحي غراب . كان قد رأى أباه . رأى عرابه . 
فهو لم يكن ينصُت إلى أعماقه فحسب ، وإنما كان يغورُ فيها ، وأن رَوعه لم يكن خوفاً , وإنما هيبة . في هذه اللحظة الومضة . كان قد مرّ زمن كالأزل . زمن أبعد ممّا هو كائن ، بل تعدى إلى ما كان . فشعر فجأة أنه أطول عمرا مما كان يتصور ، وأنه عاش أزمانا أخرى سابقة لزمنه ، وغائرة بالماضي السحيق قرونا ً عديدة . فرأى ميلاده في كل مرة قبل أن يموت ، وهو يسقط من ظلمة العدم , فيلتقطه من الخرائب المهجورة عرّابه ، عرّاب السّريرة السّوداء ، ليرضعه عشق الدّم المُراق المسفوح , من ثدي الخيّلاء والضغينة , ويرسم مصيره المحتوم كرجل أوحد . ويقلده عنان الزمن نيرا ً على رقاب البشر كقطيع .
سَبر الماضي . طاف بالمدائن القديمة . والممالك البائدة . طار فوق الحصون والقلاع . سمِع قرع طبول الحرب هنا . وصهيل الخيول المغيرة هناك . سمع صليل السيوف ونواح اليتامى والثكالى , عويل السبايا من المدن المستباحة . رأى شطآن الدماء المراقة عند الحواضر البكر, ورأى مفازات المجازر وأكوام الجماجم عند المغاور والحفر , حتى لاحَت لعينيه البدايات . بدايات الحقب الأولى , حتى انكشف له الزّمن الأول . الدّم الأول . أول اقتداحٍ لظلمة دائمة على الأرض , تتوالد إلى اليوم , وستستمرّ للأبد . إقتدحها الذي مَرق وَقتل . رأى قابيل .
أخذ يفيقُ من حمّى ذلك السِفر . رويدا رويدا عادت له الحياة . فتح عينيه وهو يأخذ نفسا ً عميقا , وكأنّه يدفع به دفق الماضي عنّوة للوراء , ويرشف الحاضر بكليّته , بحسّوة واحدة . أمّ الهيكل . أجتاز بصمت دهليز الشموع الباسقة ، فتراقصت ظلال ألسنة النّار على وجهه المكفهر , فبدا وكأنه تمثال متوحّد بباب معبدٍ قديم . مَرق من بين العمودين الكبيرين اللذان من رخام ، وقد انتصَبا في الفراغ . ووقف أمام قاعدة ضخمة ، على هيئة نجمة مثمنة الأضلاع من طبقتين . الأولى من حديد وخزف والثانية من حديد . وقد انبثق منها هرم هائل بطبقاته الثلاث . رأسه من ذهب وصدره من فضة ، وأسفله من نحاس . تطلع بشغف إلى القمّة ، وقد طاولت سقفا على هيئة قبة عملاقة ، لسماء مزيفة تبدو بلا نهاية . أجال النظر فيه . تملاّه جيدا . أحس بنشوة تمور بداخله وتعتلج ، حتى عصفت برأسه ، فجعلته يبدو كالسائر إلى حتفه بلا شفقة . أعتلى القاعدة. وبهمّة غامضة تسلق الهرم , ووقف هناك على القمة . رفع رأسه فرأى سماء مفتوحة وأفلاكا تدور , وشموسا وكواكب . انتضى سيفه . شهره عاليا وهو يهتف بسره \" أنا هو من يملك الأنوار والظلَم !!؟؟\" .
حينها شعر بخفّة مباغتة . أجتاح خدرٌ أحاسيسه فجأة فتبلدت . شُلّت أطرافه . إنفصلت . انفصل هو عن جسده . خيّل إليه انه يطفو . يعوم . مغالبا الحدود النهائية للزمن . طافحا بإرث رأسه الحاسر عن أجيال من الهذيانات والطغيان . فقد الإحساس بالزمن . طار فوقه . طار بالتخوم الأبدية للظلمات .. وغاب . 
لكنه لم يدرك , ولم يَعِ ولوّ للحظة , لطوُفان النّمل , وهي تقضم جاهدة قدميه , وأسراب العُقبان وهي تحومُ حول رأسه , بعد أن شمّت رائحة جيفة . 
 
ــ عمان .
أيلول 2002 م .

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نجاح بيعي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/02/28



كتابة تعليق لموضوع : الـطـّوُفـَان .. قـصّـة قَـصِـيـرة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net