صفحة الكاتب : خيري القروي

قصة ايلاف والذكريات
خيري القروي
لم تكن ناعسة او كسولة كسل من هو على اعتاب النوم ..انها تحس نشاطا ذهنيا حادا يمنعها من النوم ..هذه هي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وما زالت مستيقظة ..انها تتذكر زوجها الذي غاب عنها...
اه يا احمد  ..شيء ما في داخلي انكسر ..شيء في قلبي تحول الى شظايا ..توزعت شظاياه الصغيرة المسننة في داخلي ..وكل شظية لها ألمها ..ذكريات سنة كاملة  اراها تضيء داخلي في هذه الليلة ..كل ذكرى تبرق وتضيء عتمة هذا الليل الطويل ..ذكريات سنة كاملة تفجرت كقنبلة موقوتة في هذه الليلة ..شظايا ذكريات ساخنة تفرحني وتبكيني في آن معا ..كيف انسى ذكريات سنة من الالتحام المبهج يا احمد ..كنت احتويك حتى وان كنت بعيدا عني ..ارسم لك صورة كلما غبت عني ولو لفترة قصيرة..كنت تقاسمني كل شيء في حياتنا ..مسراتنا واحزاننا ..وخلال السنة العسلية الاولى التي عشناها .كانت تدور حولنا الالام والمتاعب لكننا عشنا سعداء ..حتى جاءت تلك الليلة التي لا يمكن نسيانها ..كانت ليلة مقمرة ..لفت انتباهي صورة القمر ..كان مكتملا وضوءه ساطعا ..لا يمكن لاي انسان الا ويشعر بالسعادة وهو يستحم بضوئه الفضي ..كنت ارقبه بشغف وكأني اطالعه لأول مرة ..لكن منظر القمر لم يبدد القلق الذي اخذ ينموا في قلبي ..لقد تأخر احمد في هذه الليلة عن موعد مجيئه ..ولئن تأخر انسان ما عن موعد عودته الى اسرته فالأمر يدعوا الى القلق الشديد..كانت ام احمد اكثر مني قلقا وخوفا ..تحولت الى شرارة من القلق ..وكنت احاول تهدئتها ولكنها تزداد قلقا بمرور الوقت . كانت تبتهل الى الله ان يعود ولدها سالما ..كنت انظر اليها بإشفاق ..كان منظرا رائعا ذلك الذي رأيته في تلك الامسية .. منظر الام التي مدت يديها الى السماء وكأن طفلا صغيرا سوف تتلقاه بيديها الممدودتان وعينيها المتسعتان تبرق فيهما دموع على وشك ان تتحول الى غيمة ماطرة ...
كنت فرحة لهذا المنظر بالرغم من القلق الكبير في داخلي ..فرحة لمنظر اللوحة المرسومة امامي ..صورة الام المبتهلة الى الله تعالى كي يحفظ ولدها من اي سوء.
كنت فرحة ومشفقة بنفس الوقت ...
اشعر بالفرح لاني مغرمة بتامل تلك الصورة الفريدة التي تجسد العلاقة ما بين الخالق والمخلوق...بين العبد وربه ..كنت وانا صغيرة اشعر بان ثمة نشوة تجتاح كياني حينما اسمع دعوات امي في اوقات الغروب الحزينة واوقات الشروق المبهجة...
اما الاشفاق فمن اجل قلب الام الحزين الذي اشتعلت في اشجاره الخضراء نار الخوف والقلق .
انا الان اتكلم عن ام زوجي ..عن قلقها وعن مخاوفها واتكلم عن اختلاط مشاعر الفرح مع مشاعر الحزن وانا اراقبها وهي على تلك الصورة التي وصفتها وكاني واقفة على الحياد ..
كلا .. ما ابعدني عن الحياد...
لم اكن واقفة على ارض الحياد المستوية التي لا تنزلق عنها الارجل الى اية جهة ..بل اقف بثبات على ارض الواقع الذي يجب ان لا تغمض عيوننا عنه ..لئن عدم رؤيتنا للواقع المشهود لا يحوله الى شيء اخر ..لا يحوله الى وهم او الى خيال ..
ممكن لزوجي ان يعود ..وممكن لزوجي ان لا يعود ايضا ..
قال لي ذات ليلة بعد ان شم رائحة المحبة تفوح من كل جارحة من جوارحي :
_ ايلاف ؟
_ نعم يا حبيبي ..!!
_ ماذا لو ان احد سكان هذه الغرفة غاب ولم يعد ؟
_ من هو هذا الواحد الذي تعنيه ؟
_ اختاري انت واحدا ممن ينامون الان على سرير واحد ...
 _ لو غبت انا مثلا ؟
_ ستضيق علي هذه الجدران الاربع الى حد الشعور بالاختناق ...سيكون سقف هذه الغرفة نافذة على الذكريات ..سيكون شاشة سينما يعرض علي كل ليلة شريط من تفاصيل حياتنا المشتركة من اول لحظة الالتقاء الى اخر لحظة الافتراق ..ستصبح عيناي اكثر اتساعا من بحيرة من فرط ادمان النظر في نافذة الذكريات ..صورتك ستفترش الجفن الاسفل وتلتحف الجفن الاعلى ..لكن احذري ان تتصوري بان حبنا هذا سيخرجنا من جنة رضا الله الى جحيم سخطه ..ابدا ..في مثل هذه الظروف العصيبة كلنا مشاريع استشهاد ..مستقبلنا مفتوح على كل الاحتمالات ..عيناك ياحبيبتي كتاب مفتوح ..كلما اشتقت الى الحياة ..نظرت في عمق عينيك وكاني افتح نافذة على قلبك ..احب ان ابقى بقية العمر اطل على الدنيا من خلال هاتين النافذتين الجميلتين وان اطبق جفنيك على احلام السعادة ..ولكني ارى السماء ملبدة بالغيوم ...
_ كلامك جميل ..ومشاعرك اجمل ..انت كتبت قصيدة لكنك ختمتها بالتشاؤم..!
_ الظروف المحيطة بنا هي التي ختمت قصيدتي بحروف الخوف من المستقبل..انا بطبعي لست من المتشائمين ...      
_ الشمس باقية الى الابد ..والغيوم السوداء سوف تتبدد .. اسال الله تعالى ان لا يفرق بيننا ابدا...
 
_ امين يا رب العالمين.
 
 
هل انتهت تلك الليلة يسلام ...
الليل في البلاد التي يحكمها الظلمة ..ليل حقيقي ..ليس وعاءا للمسرات ..الليل الذي يهيمن عليه الطغاة ..مسرح للاشباح والخيالات المرعبة ...الليل في وطني المظلوم لا ينتهي بسلام .
الليل الذي يرمي بي في احضان حبيبي هو نفسه الليل الذي يرمي بي في احضان المخاوف .
اخاف ..ومن حقي ان اخاف ..الم يتحول الوطن العزيز الى غابة جوعت وحوشها ثم اطلق سراحها ..فماذا بوسع الذئاب الجائعة ان تفعل وهي جائعة الى اللحم والدم ...
امام كل بيت يوجد ذئب متنكر ...
شوارع المدينة مملوءة بذئاب متنكرة ...
لماذا يا ترى يحاربوننا ..لماذا يراقبوننا..لماذا يحصون علينا انفاسنا ...
لا لشيء الا لاننا امنا بالله ..وبرسالة السماء ..هذا هو ذنبنا ..ويا له من ذنب عظيم ..استحلت فيه دمائنا..وخربت بيوتنا ..ونهبت اموالنا ..واصبحنا مشردين في اصقاع الارض كلها .
وحده ذكر الله تعالى يجلب الطمأنينة الى قلبي ...
حينما اذكره تتبدد المخاوف وتتلاشى الاشباح المخيفة ... 
صورة العالم الكبير هذه لا تفارقها نظرة الخالق العظيم ..ونحن جزء من هذه الصورة ولا بد ان تشملنا رحمته وفيض عنايته ...
هذه عبارة سمعتها من زوجي في اخر ليلة ..وبعدها طلب مني ان ابتسم ابتسامة لا يشوبها  حزن ..ثم اغمض عيني بأنامله الحانية ..ثم تغلب علينا سلطان النوم ..
ولكن ...
لم ننم حتى الصباح ...
لم نفتح عيوننا على بعضنا ..
شيء وقع تلك الليلة وقبل صلاة الفجر ..
شيء ما وقع ..اكد مخاوفي ومخاوف احمد ..شيء وقع اشبه بامتداد يد سوداء شاحبة متقلصة قبيحة المنظر الى البرعم الاخضر ليقطف زهرة ويترك الاخرى ربما ليعود اليها مرة اخرى ...
اه يا احمد ...
ما اشد الم ولذة الذكريات معك ...  
 
 
تناولنا عشاءنا تلك الليلة الساعة العاشرة ونحن الذين تعودنا ان نتعشى بعد غروب الشمس ..كان عشاءا طيبا لان احمد كان معنا..تناولنا عشاء غير غني بمواده الاساسية لكنه كان مغمسا بعودة الحبيب المنتظر ...
قال لي احمد بعد ذهابنا الى غرفة النوم :
_ في هذه الليلة اكتشفت فيكم اشياء لم اكن اتوقعها ..!
_ وما الشيء الذي اكتشفته ؟
_ اكتشفت ضعفكن وقلقكن لا لشيء الا لاني تاخرت قليلا ..ماذا لو تاخرت يوما او شهرا او سنة ..ماذا لو خرجت ولم اعد ..اليس هذا ممكننا في مثل هذه الظروف التي نعيشها الآن ..كم آية في القران الكريم اكدت على الصبر ووعدت الصابرين بجزيل الثواب ..ماذا يبقى  في اسلامنا لو لم نتحلى بالصبر ؟
_ انت تعرف قلب الوالدة ومشاعرها وطيبة قلبها وقلقها وشدة خوفها عليك وواجبي هو تهدئتها ولكني في واقع الامر اجد نفسي منخرطة معها في احاسيسها..لا يكلف الله نفسا الا وسعها .
_ هذا كل ما لديك للدفاع عن نفسك ..؟
_ ما قلته ليس دفاعا عن نفسي ..الدفاع يكون حينما يكون ثمة معتدي واخر معتدى عليه ومتى صار الحبيب معتديا اخاف منه على نفسي فاكون في حالة دفاع ..لكن من اجل خاطرك سادافع عن نفسي بالمحبة ما دام الهجوم هجوما بالمحبة ايضا وسوف لن يكون هناك منتصرا ومهزوما انتصارك علي هو انتصار لي ايضا ..طيب سادافع عن نفسي فاقول من قال لك ان الدموع التي رايتها هي دموع الضعف وليس دموع المحبة ..من قال لك ان دموعي هي من النوع الذي يسخط الله تعالى لا من النوع الذي يرضيه ..؟
_ الدليل القاطع ..؟ .. لا يا حبيبتي ..ليس لدي شيء من هذا القبيل..لقد رأيت عينيك تبرقان بماء الدمع  كما يبرق اللؤلؤ على وجنتيك ...
_ احمد ..يبدو انك تريد الانسحاب من ساحة المواجهة مع الاحتفاظ بماء الوجه تحت غطاء من عبارات الغزل الجميلة ؟
بدت على شفتيه ابتسامة صغيرة اخذت تتسع شيئا فشيئا حتى شملت مساحة وجهه كله حتى شعرت بان قلبي ينغمر بموجاتها الخفية .
قال :
_ الا يكفي شعور الهزيمة في داخل المهزوم حنى تريدينه ان يعترف بها ..ساعترف بان حبيبتي هزمتني ..وما احلاها من هزيمة ...دعيني اتلمس باناملي هاتين العينين العسليتين ..هاتين الؤلؤتين المشعتين ..هاتين النافذتين المفتوحتين على جنة قلبك العامر بالايمان ...
_ لا توجد مجابهة احلى من هذه المجابهة التي نخوضها على ارض معركة المحبة لا فرق فيها بين المنتصر والمهزوم ...
_ هذه ليست معركة ...انها ملحمة الحب والتفاهم والانسجام ...حبيبتي ايلاف انت في القلب وستبقين فيه الى الابد ...

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


خيري القروي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/02/16



كتابة تعليق لموضوع : قصة ايلاف والذكريات
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net