صفحة الكاتب : ادريس هاني

مغالطات بها نحيا
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

لعلّ أكبر مغالطة يرتكن إليها الإنسان هي حين يعتقد بداهة أنّه يسلك في نظره وسلوكه مسلك المنطق والبرهان..بينما الغالب على نظر الإنسان وسلوكه هو المغالطة ما لم يكن واعيا بأنواعها ودبيبها في القول والموقف..إنّ المغالطة تتعايش مع قليل من البرهان في حياة النوع تماما كما تتعايش ملايير الباكتريا والفيروسات مع الكائنات الحية..ذلك لأنّ المغالطة قد تكون خفية على الخصم بل على صاحبها، إذ تقوم على عمليات لاشعورية دفاعية عميقة..ومعرفتها تؤهّل المرء في مقام الاحتجاج أن يبني استراتيجيا دفاعية وهجومية على أهل المغالطة، وذلك لأنّ المنطقي الخبير بأساليب المغالطة يستطيع أن يردّ سلاحها أو يوقف مفعولها بدفع المغالط نحو التناقض..إن معرفة المغالطة وأساليبها لا يتوقف فقط عند الآليات المنطقية بل في نظري إنّ الإلمام بأوضاع المغالط النفسية والاجتماعية ودوافعه وبيئته وحتى ميكانزمات ردود فعله ورغباته قد تساهم في تفسير أسباب التغليط وأيضا نقاط ضعف المغالط.. تحيا الكائنات العضوية على الرغم من وجود الباكتيريا والميكروبات..كما أنّ الفكر يستمر ملتبسا بأشكال المغالطة ويحيا..بل في ظلّ هذا الوضع الملتبس من تعايش البرهان مع المغالطة يتساءل الإنسان حول ما إذا كان تطهير الفكر والسلوك البشري من كل أشكال المغالطة قد يحدث من دون أن يكون ذلك بمثابة إعلان إبادة لمعظم البشر..فالغالبية في مثل هذا الوضع لا تستطيع أن تحيا من دون مغالطة..بل البرهان والمنطق يبدو قاتلا ها هنا..

موضوع المغالطة من وجهة النظر المنطقية موضوع أساسي لفهم مداميك الحجّة ولعبة الإقناع..ما يؤكّد عندي العلاقة المتينة بين المنطق والأخلاق هو الأبعاد اللاّأخلاقية للمغالطة التي تجد تفسيرها ومعالجتها في النفس الإنسانية وليس في أدوات الحجة ومقدماتها المنطقية..إنّ الكبرياء قد يحول بيننا وبين إدراك الحقيقة..فالاستكبار يعيق الوصول إليها ويحجبها بأساليب نقيضة..إنّ عموم البشر ليسوا حقيقين بالجدل الحقيقي الذي ينتج معرفة حقيقية ويساهم في الكشف عن الحقيقة..من هنا كان الجدل مشروطا بمدى استعداد شخوصه للقبول والتسليم بالمعرفة والحقيقة، هنا فقط يكون الجدل طريقا ملكيا لتنمية الفكر..نفهم أهمية النهي عن الجدل حينما يصبح عقيما ولا جدوى منه باعتباره طريقا للجهل وليس للعلم..فمسألة الغلب في الحجاج لا ترتبط بمقدمات صحيحة بل تستند إلى خشونة الجاهل واستعداده لتحوير الجدل إلى حالة من الوقاحة..في مثل هذه الحالة يغلب الجاهل العالم غلبا بالمعنى السطحي للعبارة: أي يلزمه بالصمت..يقول علي بن أبي طالب: ما حاججت جاهلا إلاّ غلبني..والغلب هنا هو فن الخروج بالجدل إلى حالة من الوقاحة..ذلك وكما ذكر فولتير بأن السلام أفضل بكثير من الحقيقة..وهكذا وجب الصمت وهو الأسلوب الوحيد لإيقاف الحماقة في الفكر والوقاحة في الجدل..كان إبليس أكثر وقاحة في الجدل حينما استند إلى أنواع المغالطات لتبرير ما انتهى به كبرياؤه الزائف..إنّ قصة الحجاج هذه تؤكد أنّ أوّل امتحان مرّ منه آدم هو التدريب على التمييز بين الحقيقة والمغالطة..وهو ما يؤكد على خطورة المغالطة في نشأة الجهل والحروب والانحرافات والإعاقات التي تحول دون تقدم النوع..إنّ المغالطة هي أساس الجاهلية..لذا كان لا بدّ من الاختبار..أما مغالطات إبليس فقد نجد لها أمثلة في جملة المغالطات التي يعرفها أهل الصناعة المنطقية..لقد استعمل إبليس مفارقة السلطة حينما قال: أنت خلقتني من نار وخلقته من طين..أي حاول الاستناد إلى قاعدة التفوق العنصري التي تمنحه شرعية عدم الاستجابة ولكي يفعل هذا استند إلى مفارقة الانزياح لأنّ القضية تتعلق بامتثال الأمر الإلهي وليس القضية قضية إبليس وآدم..لكنه حوّل النقاش إلى تفاصيل أخرى لا علاقة لها بجوهر المطلوب أو ما يعرف بمغالطة الحيد عن الموضوع..كما استعمل مغالطة قلب الحجة على الخصم حين اعتبر الأمر الإلهي المستند إلى الخالقية، فسلّم بخالقية الله ليجعلها مستند في إسناد المسؤولية للخالق في أنه هو من خلقه من نار وبالتالي فإن عدم امتثاله هو منسجم مع القدر الإلهي لطبيعته، وهي المغالطة التي انطلت على الكثير ممن اعتبروا موقف إبليس مبني على قاعدة منطقية بينما هو موقف مبني على المغالطة..إن مجمل جدل إبليس هو تأسيس للمغالطة..ومن هنا أمكننا القول بأن إبليس هو أبو المغالطة..ذلك لأن أصل النزعة المغالطة ارتبطت بالتكبر والأنا..وهكذا حال المغالطين البشر هم مغالطون بقدر تكبّرهم وأنانيتهم..كانت المغالطة هي سبب سقوط إبليس وكذلك كل أشكال المغالطة هي سبب لسقوط المغالطين..

الحياة مسرح واسع لمغالطات بنها نحيا..فالمنطق لا يحتلّ في تواصلنا أي مساحة تذكر.. ومع ذلك يحب أن يطلق الناس على مغالطاتهم اليومية إسم المنطق..ذلك لأن المغالطة تستند إلى تقنيات متعددة يمارسها الكائن كجزء من عمليات الدفاع غير الشعورية عن كبريائه الشخصي..وتأتي على رأس المغالطات ما سمّاه المناطقة بالحجة على الشخص..رأى أرسطو انه أحيانا يجب أن نهاجم الشخص بدل أطروحته إذا ما رأيناه يترصّد لكل ما يعارض السائل..كتب شبنهور حول فن أن تكون دائما على صواب..وفيه فعل كما فعل نظائر كثيرة له بعرض أنواع المغالطات..يعرف مثلا مغالطة الحجة على الشخص بكونها اذا تبين لنا أن الخصم متفوق وبأننا لن نربح يجب اللجوء إلى أحاديث فظّة جارحة وخشنة..يتحول المغالطة إلى جارح ومؤذي ووقح حسب شبنهور يعمل على استفزاز الخصم للهروب من الموضوع..الاستجابة هنا لملكات الجسد أو حيوانية الإنسان..كل المناطق من أمثال أرسطو وابن رشد وغيرهم نهو عن الجدل مع أي كان لأنّ هذا سيفرض أن تكون الأقاويل المستعملة معهم خسيسة..

إن دنيا الناس هي مسرح لأبشع أشكال المغالطة..فالناس تفرض قناعاتها أو تتفلت من الحقيقة بناء على مغالطات مرجعية هي نفسها تجهلها ولكنها تطبقها تطبيقا يوميا وبالسليقة..دائما يستند المغالط في مواجهة الحقيقة إلى حجة الثروة أو السلطة أو العرف أو الرأي العام أو السخرية..فالمغالط لا يستقيم على مرجعية واحدة في الجدل..وربما تعمد إيقافه دون سبب ما إذا أدرك أنه فاشل في بناء حجة منطقية..وفي هذا سيلجأ إلى أسلوب السخرية واستهجان حجة الخصم واستعمال عبارات مستفزّة أو التعميم..يعتبر المغالط نفسه منتصرا متى شعر بأنه خرج من الطوق المنطقي الذي وضع فيه..فحينما ينجح في إنهاء الجدل عبر وسائل الوقاحة والتجريح يستشعر الحرية..ولمغالطة الحجة على الخصم أمثلة وأنواع مثل الشخصنة التي تقوم على الانتساب، أي اعتبار حجة الخصم نابعة من أنه ينتمي إلى جهة محتقرة، وأحيانا نسبة القيم إلى الأزمنة كما لو أنّ الميل إلى الانحطاط والدجل هو خاص بحقبة ما، وكأنّ هناك شهوات للقرون الوسطى وشهوات للقرون الحديثة..أو شخصنة الظرف، وهي أن يعتبر أن حجة الخصم نابعة من كونه يمر بظروف خاصة تنتج عنها آراء غير صحيحة، أو هناك أمور كثيرة اعتملت في الشخص حيث يتبنى هذا الرأي..إن محاولة الإفلات من الحقيقة تجد في مغالطة الحجة على الشخص الطريق السهل لإنهاك الجدل المقدس الموصل للحقيقة..إنّ المغالطة هي الطريق غير السّوي للالتفاف على الحقيقة التي تتطلب الكثير من المسؤولية والتجرد والتحرر من ضغوطات النفس القاهرة..إنّ المغالط يشعر بالحرية من الحقيقة ولكن المغالطة أحيانا تقتضي التعميم ليعتقد أنّ تلك الحرية هي تحرر من العبودية..أي أنّ المغالط يهرب من عبودية الحقيقة إلى عبودية نوازعه وشهواته..بينما لا حرية تنشد خارج المحراب المقدس للحقيقة.. فمن ضاق عليه الحق فالباطل أضيق..فتبشيع موقف المحاور وتهويله واختزاله في التاريخ والجغرافيا والاحتكام إلى الجهلة في تعميمات مغالطة وملتبسة هو ضرب من الهروب، أي مثال العبد الآبق من الحقيقة.. ومع ذلك تستمر الحياة بمغالطات بها نحيا وبها يسود الجهل ويسفّق له..بعض المرضى يجدون في المغالطة دواء أو مسكّنا لكبريائهم المرضي الذي لا يقوم إلاّ على اغتيال الحقيقة..


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/01/14



كتابة تعليق لموضوع : مغالطات بها نحيا
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net